| مقـالات
الإيمان العلمي بالجن:
الجن حقيقة وجودية مغيبة، ولهذه الحقيقة المغيبة آثار مشهودة، وقد أخبر الله عن الجن بأنهم يروننا من حيث لا نراهم، وثبت من علم الفيزياء والبصريات ان حاسة البصر لا تدرك إلا الألوان التي تُكثِّف المرئي بأحد الألوان المشهورة، فتجعل له حيزاً يقع عليه البصر.وقد اخترع العلم الحديث والتلسكوبات، فرأى شيئاً من الأجرام الصغيرة التي لا يدركها أقوى رؤية بشرية مجردة، فصح أن الرؤية البشرية المجردة لا تدرك الشيء: إما لبعده، وإما لصغره ودقته، وإما للطافته حيث لم يتكثف له لون.. وإذا كان المكبر اليوم بوسيلة علمية يُسَلَّط على مسمِّ من مسام الجلد كثقب الإبرة، فيرى فيه مئات الأجسام التي لا تُرى بالرؤية البشرية المجردة: فليس من البعيد أن يكرم الله عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فيرى بالرؤية المجردة ما لا يراه غيره، وهو رؤيته وإحساسه بالشيطان: إما بتقوية إحساس الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما بتكيف المرئي اللطيف، لأن الله جل جلاله خارق نواميس الكون هو الذي خلق الكون والحس والمجاهر والتلسكوبات والبعد والدقة واللطافة، فيا ويح من قرأ سورة الجن، وقرأ الآيات المخبرة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول للجن والإنس، وقرأ خبر ربه بأن الله ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته، وقرأ ما في القرآن من تعوذات شرعها الله لنا للاعتصام عن الجن، وقرأ في القرآن أن الجن يروننا ولا نراهم، وقرأ في القرآن أن الله سخر الجن لسليمان، وأنهم لبثوا في مقامهم ما علموا بموته إلا من دابة الأرض تأكل منسأته.. يا ويح من قرأ كل ذلك فألقاه وراء ظهره، وحمل كل حديث فيه ذكر للجن والشيطان على التكذيب وإن كان صحيح الإسناد حتى لا يستخف حلمه صليبيون وجّهوا ثقافة الشرق، وأنكروا حقائق دينه، وآمنوا هم بما تحيله كل العقول.. يا ويح من فعل ذلك وهو يعلم أن العلم البشري الحديث بكل قواه وحوله وطوله ساع الى تعميق المعرفة الحسية البشرية بالحقائق الوجودية على مسلّمة عقدية هي: أنه كل ما لم يكن محسوساً فهو في حيز الإمكان إذا تخلف المانع.. فأين هؤلاء عن قوانين العلم والشرع معاً؟!.. إنما يخشى الله من عباده العلماءُ.والجن هم أهل الأرض قبل بني آدم، والبرهان في ذلك رجحاني.
قال ابو عبدالرحمن: إن من يتدبر كلام الله ويستفرغ الوسع في الاجتهاد: إما ان يخرج بيقين لا شك فيه كالعلم بأن الله ليس كمثله شيء.. وإما أن يخرج برجحان كالعلم بأن الجن في الأرض قبل بني آدم.. وإما أن تتكافأ عنده المرجحات، فيكون كل قول عنده محتملاً كعدم الجزم بما هو لهو الحديث الذي نص الله عليه.. ولا يحل للمجتهد ان يلغي الراجح ويأخذ بالمرجوح، لأن هذا تحكم.وتحقق لي بالرجحان ان الجن كانوا خلائف على الأرض حتى أهبط الله آدم عليه السلام خليفة في الأرض، ومقتضى ذلك ان شرائع الجن بعد أهباط آدم عليه السلام تابعة لشرائع الأنبياء من الإنس، بدليل ان الثقلين مخلوقان للعبادة، وأنه لا دليل على أن في الجن رسلاً قبل هبوط آدم عليه السلام، وبدليل أنهم الآن تابعون لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، والبرهان على أن الجن أهل الأرض قبل بني آدم أمور:
أولها: ان فسوق الجن وإفسادهم في الأرض قبل إهباط آدم جاء منصوصاً عليه بحديث صحيح في مستدرك الحاكم أقر الذهبي صحته، وجاء في معناه آثار عن السلف الصالح، فالأخذ بثبوت هذا الحديث ارجح من احتمال تعليله، ولا تقوى عقولنا على اختيار اجتهاد يلغي خبراً راجحاً ولا سيما إذا كان مناسباً لسياق الآية، ولا سيما إذا كان سياق الآية لا يفهم بدونه، ولهذا جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينة لكتاب الله.
والبرهان الثاني: ان الملائكة عليهم السلام قالوا لربهم متعجبين: «أتجعل فيها من يفسد فيها»؟!.. وليس في الآية ولا في السنة ما يدل على أن الله أخبرهم مسبقاً بما يحصل من بني آدم.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الجن فسقوا في الأرض، وأفسدوا.. فتحتم حمل المبهم المجمل في الآية الكريمة على المعيَّن المفسر في السنة المطهرة.
وزعم بعض المفسرين: أن الآية لا تدل على أن قبل بني آدم من هو مستخلف في الأرض، ولهذا حمل معنى خليفة على معنى خلفاً يخلف بعضهم بعضاً«1».
قال ابو عبدالرحمن: هذا معنى صحيح، لكنه ليس هو جميع المعنى.. وما تحصل الحيدة عن فهم مراد الله من خطابه جل جلاله إلا بالتحسير أو التقصير في فهمه، والذي أحققه أنه يدخل تحت معنى خليفة عدة معانٍ:
المعنى الأول: أن خليفة بمعنى خالف لغيره، والمراد هنا ان آدم عليه السلام خلف الجن في الأرض، وحُمِّل الأمانة الإنسان، بدليل البراهين على أن في الأرض جناً فسقوا وأفسدوا، وبدليل أن سياق الحديث عن آدم عليه السلام فهو الخليفة.
فإن قال قائل: لا تزال الجن متعبدة في الأرض، فكيف يكونون مخلوفين في الأرض؟!.
قلت: هم مخلوفون بخصوص معنى خليفة لا بعمومه، وهو ان شرائعهم تبع لشرائع أنبيائهم من الإنس، فهم الذين يبلغون لهم دين ربهم.. قال تعالى: «وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن». «سورة الأنعام/ 112»، وقال تعالى: « يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم». «سورة الأنعام/ 130»، فكلمة منكم بالنسبة للجن تصدق على ما قبل استخلاف آدم عليه السلام، وتصدق على من بلغهم منهم خبر بعث نبي من الإنس.. وقال تعالى: «وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير». «سورة النمل/ 17»، وقال تعالى عن نبي الله سليمان: «فلما خر تبينت الجن ان لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين». «سورة سبأ/14»، وقال تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم: «وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن». «سورة الأحقاق/29».. وقال تعالى عن الجن وعلاقتهم بدين موسى: «قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى». «سورة الأحقاق/30».
وبمقابل هذا لم يثبت في نصوص الشرع قط أن قوماً من الإنس تبعوا شريعة نبي من الجن، فتلقِّي الوحي هو خصوصُ الاستخلاف الذي تميز به بنو آدم عن الجن.
والمعنى الثاني: ان خليفة شامل لمعنى خلف.. أي أن بني آدم يخلف بعضهم بعضاً في تطبيق الحاكمية على الأرض: من نبي ورسول، ومن تابع وارث لدين نبي وذلك التابع محسن أو مقتصد، ومن كافر مفرط، فكل قائم بأمر في الأرض مسؤول عن استخلاف الله له، لأن الله نزل الشرع وبيّنه، وجعل خلقه من الجن والإنس مؤتمنين عليه.. والجن يشاركون الإنس في هذا المعنى، والبرهان على هذا المعنى ان لفظ خليفة دل على آدم عليه السلام، وسياق الآية من قول الملائكة عليهم السلام دل على بني آدم.. ومن هنا ترجح أن معنى الخلف أيضاً مراد، لأنه كما لا يجوز التفريط في معاني مفردات كلام الله: كذلك لا يجوز التفريط في معاني سياقه.
والمعنى الثالث: أن كل مبلغ لدين ربه وإرث نبيه، أو قائم به، أو مجاهد فيه، أو حاكم به: فهو خليفة بمعنى خالف ومستخلَف فوَّض الله إليه بتدبيره الشرعي ان يؤدي الأمانة التي استخلفه الله لرعايتها.. برهان ذلك قوله تعالى: «يا داوود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق». «سورة ص/26»، ففسر ربنا معنى خليفة بالأمر بالحكم بالحق.
والكافر مستخلف في الأرض بتدبير الله الشرعي، ولكنه عصى مقتضى ذلك.. برهان ذلك قول الله تعالى ممتناً على المؤمنين: «واذكروا إذ جعلكم خُلفاء من بعد عاد». «سورة الأعراف/74»، فعاد كانوا خلفاء في الأرض ولكنهم كفروا، وقال تعالى: «ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون». «سورة يونس/14».
قال ابو عبدالرحمن: والملائكة على عمومهم.. بمعنى أن الله أخبر جميع الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة، ولا يحل الخروج عن عمومهم إلا بدليل إن وجد. وروي عن ابن زيد رحمه الله: أنه ليس لله خلْق في الأرض إلا الملائكة، فجعل الله آدم خليفة.. قال ابو عبدالرحمن: على هذا القول تعقُّبات:
أولها: أنه إخبار عن علم غيب لا يُقبل إلا بخبر مرفوع، والله سبحانه يقول: «ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم». «سورة الكهف/51».
وثانيها: أنه ليس من منهج المجتهد أن يقول: ليس لله خلق إلا كذا وكذا.. وإنما منهجه أن يقول: خلق الله كذا وكذا مما نص الله على أنه خلقه.. وما لم ينص عليه لا نثبته ولا ننفيه، بل هو من غيب الله، ونعتقد ان كل شيء سوى الله خلق الله.
وثالثها: أن القول: بأنه لا خلق قبل خلق آدم غير الملائكة: ينافيه النص، بأن إبليس من الجن، وأنه فسق عن أمر ربه، وهو مخلوق قبل آدم بضرورة النص.
ورابعها: أنه ثبت في الحديث الصحيح أن في الأرض خلقاً من الجن أفسدوا قبل إهباط آدم.
وخامسها: أن سياق الآية دل على خلق سابق قبل بني آدم أفسدوا وسفكوا الدماء، وهم غير الملائكة بيقين، لأن الملائكة عباد مكرمون مبرأون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فصح أن هناك خلقاً في الأرض غير الملائكة.. وعديد من العلماء الفضلاء بعد جيل السلف الصالح خاضوا في قضية عصمة الملائكة، والنصوص صحيحة ثابتة متواترة متظاهرة على ان الله خلقهم وعصمهم من مخالفة أمره، لهذا فقول الملائكة: «اتجعل فيها»: لا يحل صرفه عن ظاهره، وهو أنهم استنكروا الخبر متعجبين، وكل تأويل غير هذا التأويل لا تطاوع عليه اللغة، والله سبحانه لم ينف ما توقعوه، لأن أكثر بني آدم أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء، وإنما نبههم إلى ما غاب عن علمهم من علم الله جل جلاله، وهو أنه سيكون منهم قائمون بأمره عابدون له، وأنه ما خلقهم وما خلق الجنة والنار عبثاً.. والملائكة عليهم السلام ما تعمدوا استنكار ما يفعله ربهم جل جلاله، فمآلهم أن قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا.. وإنما ظنوا أن إخبار الله لهم بجعل خليفة في الأرض جاء على سبيل استخبارهم، وأشفقوا من الفتنة في الاستخبار، وأن يكون اعتقادهم بوجود خليفة إقراراً لما عرفوه من فسق الجن وإفسادهم وسفكهم، فتقربوا الى ربهم باستنكار وجود خليفة مشفقين أن يقول لهم ربهم: أترضون بمن يفسد فيها؟.. فلما قال لهم ربهم: «إني أعلم ما لا تعلمون». علموا ان الخبر الذي جاء بصيغة الاستخبار مسبوق بإرادة الله الذي قضى بأن يجعل خليفة لا محالة.ولما طلب منهم ربهم الإنباء بالأسماء لاذوا بالعبودية، فقالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا، إذن لا يليق أن يُعتقد في ملائكة الرحمن عليهم السلام غير هذا.. ولو أخبرهم ربهم بأنه سيخلق خليفة، ويكلفهم بأمر يتعلق بذلك: لفعلوا طائعين كما أخبر الله عنهم بإطلاق أنهم لا يعصون، ويفعلون ما يؤمرون، ويخافون الله من فوقهم.. وإنما جاء الخبر مجرداً من التكليف، وهو: «إني جاعل في الأرض خليفة»، فظنوا أن الصيغة سيقت استخباراً، وأن الله يمتحن عقيدتهم، فأشفقوا أن يكون رضاهم بجعل خليفة يعني رضاهم بما سلف ممن خالف وأفسد، وأن يكون ذاك لتقصير منهم، ولهذا أعلنوا لربهم أنهم يسبحون بحمده، ويقدسون له، فلما أعلمهم ربهم أن ذلك خبر، وأن ذلك مقتضى علمه الذي لا يعلمه إلا هو: أذعنوا، ورضوا بقدر الله، وقالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا.وأسند السدي في تفسيره الى النبي صلى الله عليه وسلم: ان الله لما قال للملائكة: «إني جاعل في الأرض خليفة»: قالوا: ربّنا وما يكون ذلك الخليفة؟.. قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض!!.. قال ابو عبدالرحمن: هذا الخبر باطل من وجهين:
أولهما: أن هذا ضمن الإسناد الموحَّد الذي يسنده ابن جرير الى تفسير السدي، وهو لا يتناول كل تفسير السدي، وانما يتناول مسائل منه.. والسدي في ذاته كذاب، وما صح في تفسيره فإنما هو بطرق أخرى.
وثانيهما: أن الله امتن بجعل الخليفة، ومقتضى أمره الشرعي أن يكونوا قائمين بالحق، فالإخبار بإفساد من يفسد منهم لا يناسب سياق الامتنان، ولا يناسب مقتضى الحكمة الشرعية.. وكل إضافة الى سياق القرآن الكريم مفسرة له لا تقبل إلا بخبر صحيح، وإن خبراً مداره على السدي ليس خبراً صحيحاً.. وهذه الإضافة التي رواها السدي ادعى الإمام ابن جرير رحمه الله انها مفهومة من السياق وان لم يرد بها نص، وادعى أنها محذوفة دل عليها السياق، والتقدير عنده: وإذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة يكون منه ذريات يفسدون في الأرض.. قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها؟.. واستدل لهذه الدعوى بأن الحذف من لغة العرب.
قال ابو عبدالرحمن: أما ان الحذف من لغة العرب فصحيح، وكذلك المجاز من لغة العرب، ولكنه خلاف الظاهر، ولا يقبل إلا بدليل يدل عليه.. ولو قُبل الحذف في كل كلام بغير برهان دال عليه: لاستحالت اللغات، ولكانت تبعاً لأهواء السامع دون مراد المتكلم.. وهذه الآية الكريمة لا دليل فيها على الحذف، ولا دليل على الحذف من خارجها.
وقول الملائكة: «أتجعل فيها من يفسد فيها» لا يعني ان الله قال لهم: إن من ذريات الخليفة من سيفسد، ولا يحل لنا أن ننسب الى ربنا كلاماً بغير دليل.. كيف وقد قام الدليل على ان الملائكة عليهم السلام عالمون بخلق في الأرض اسمهم الجن سبق استخلافهم، ففسقوا، وأفسدوا «كما صحح الحديث الحاكمُ، والذهبي، وغيرهما».وقال شيخ أهل الإسلام ابو محمد ابن حزم «456ه» نور الله ضريحه عن الجن والشياطين: «لم ندرك بالحواس كونهم، ولا علمنا وجوب كونهم، ولا وجوب امتناع كونهم في العالم ايضاً بضرورة العقل.. لكن علمنا بضرورة العقل امكان كونهم، لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها، وهو عز وجل يخلق ما يشاء.. ولا فرق بين ان يخلق خلقاً عنصرهم التراب والماء، فيسكنهم الأرض والهواء والماء.. وبين ان يخلق خلقاً عنصرهم النار والهواء، فيسكنهم الهواء والنار والأرض»«2»!!.. قال ابو عبدالرحمن : ها هنا ملاحظتان:
أولاهما: قوله: «لم ندرك بالحواس كونهم»: فهذا كلام لا يطلق إلا على من لم يدركهم بحواسه، ولكن هناك ألوف من عدول البشر وعقلائهم تكثّفت لهم الجن والشياطين فرأوهم: فرسول الله صلى الله عليه وسلم رآهم: وحُشروا لسليمان عليه السلام، ثم استمرت رؤيتهم في لحظات متعددة متواترة من تجارب البشر.. ومن اطلع على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رأى شيئاً كثيراً من مشاهدة بعض الجن والشياطين والإحساس بأفعالهم.. وقد ذكر إسماعيل حقي حادثة عجيبة عن سرقة الجن كتاباً للزمخشري وإحضاره للغزالي، وإيمان الزمخشري بما كان أنكره «3».
ولهم تجارب مع الأولياء والزهاد ممن دلت شواهد الحال على صدقهم، ودلت السيرة الشخصيةُ لبعض ضلال الصوفية والحلولية على أن لهم وسطاء من الجن يتكثفون لهم، ويلهمونهم الشعر، ويضللونهم بالأضواء والنيران، وأنهم في حضرة الإله تعالى عما يقولون.
وكلُّ أحداث تحضير الأرواح المحسوسة من تجليات الشياطين المحسوسة، لأن أرواح البشر في قبضة الله.. وقد يكون قرين الميت من الجن إن كان حياً، فيخبرهم كالمخابرات.. وهكذا شعوذات السحرة فيها تجليات محسوسة لمردة الجن، وبهذا كله يكون النقل عن تجربة العدول برهاناً تاريخياً موثقاً تلزم به الحجة.. هذا إضافة إلى التجارب المحسوسة المتكررة.
وأخرى الملاحظتين: عن قول أبي محمد ابن حزم: «لكن علمنا بضرورة العقل إمكان كونهم».
قال ابو عبدالرحمن: ما دام ابو محمد قد قيّد علم العقل بضرورة العقل، فيجب ان يكون المعلومُ بضرورة العقل صحة وجودهم لا مجرد امكان وجودهم، لان اهم ضرورات العقل ما كونته ملكته من براهين بالخبرة البشرية.. والخبرة البشرية كما اسلفت اثبتت وجودهم، والعلم بوجودهم ابلغ من العلم بإمكانهم.
ثم قال ابو محمد ابن حزم: «وقد جاء النص عن الجن بأنهم أمةٌ عاقلة مميزة متعبدة موعودة متوعدة متناسلة يموتون، واجمع المسلمون كلهم على ذلك.. نعم والنصارى والمجوس والصابئون وأكثر اليهود حاشى السامرة فقط، فمن أنكر الجن أو تأول فيهم تأويلاً يخرجهم به عن هذا الظاهر فهو كافر.. قال الله تعالى: «أفتتخذونه وذريته أولياء من دُوني». «سورة الكهف/50»..
وهم يروننا ولا نراهم.. قال الله تعالى: «إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم». «سورة الأعراف/27»، فصح ان الجن قبيل ابليس.. قال تعالى: «إلا إبليس كان من الجن». «سورة الكهف/50»، فمن ادعى انه يراهم أو رآهم فهو كاذب إلا ان يكون من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فذلك معجزة «4».. ثم جزم رحمه الله بأنه لا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤيتهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.. قال ابو عبدالرحمن: ها هنا وقفتان:
الوقفة الأولى: ان انكار وجود الجن والشياطين، أو تأويل حالهم تأويلاً يخرجهم عن ظاهر النص.. كل ذلك كفر.. هذا هو المذهب الصحيح، ولا تلازم بين الكفر والتكفير.. إلا أن من كذب خبر الله ولا عذر له فقد كفر به، وقد تظاهرت النصوص وتضافرت بوجود الجن والشياطين واخبارهم، بل في القرآن الكريم سورة خاصة بالجن.. وتأويل النص بما يعلم المؤول نفسه انه مجرد ادعاء إنما هو من باب المحادة لشرع الله. ومما يؤسف له ان بعض المعتزلة المدعين الانتساب الى الإسلام انكر وجود الجن، وجمهورهم انكروا آثارهم، وملابستهم لبني آدم كما نجد في جدل القاضي عبدالجبار بن أحمد «415ه» في كتابيه متشابه القرآن، وتنزيه القرآن عن المطاعن.. وبعض الفلاسفة كابن سينا اطلق لخياله العنان، فأنكر الجن والشياطين بلا سلطان من الله ولا نور، وبعضهم كان خيالياً أكثر.. ادّعى ان الجن إنما هم الأرواح البشرية بعد مفارقة أبدانها، فبنى على الدعوى الباطلة تكذيب الله في موضعين:
أولهما: ان الله نص في سورة الزُّمر على انه يمسك الأرواح التي قضى عليها الموت.
وثانيهما: ما علَّمناه ربنا من أن الجن موجودون قبل بني آدم، لأن الله خلق آدم عليه السلام وهو أبو البشر وإبليس موجود، كما اخبرنا ربنا بأن إبليس من الجن.. وتجدون نماذج من هذه الضلالات نقلها الكفوي في الكليات، والتهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون، وقبلهما الرازي والنيسابوري.
والوقفة الثانية: عند تكذيبه لمن زعم أنه رأى الجن، وهذا التكذيب ورطة من الورطات، وقد صحت تجارب البشر في رؤيتهم بالاستفاضة، ولا سيما من دلت شواهد الحال على صدقهم وأمانتهم وعدلهم كشيخ الإسلام ابن تيمية، وكأشياخ من العوام الصلحاء.. وثبوت هذه التجربة ينبغي ان لا يروع أبا محمد، فيظن أنه ينافي قوله تعالى: «إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم»، فإننا نقول: هذا بالنسبة للطافتهم التي خلقهم الله عليها، فإننا لا نراهم، ولكن الله أقدرهم على التكثف والتجسم والتصور، فحينئذ نراهم، فالمنفي في الآية الكريمة غير المثبت في التجربة البشرية، ورؤية الأنبياء عليهم السلام.. بل قد يكون لرؤية الأنبياء خصوص، وهو رؤيتهم على حقيقتهم، فلا تكون الآية على عمومها.. والملائكة الكرام عليهم السلام لا نراهم، ولكن جبريل عليه السلام ظهر في صورة رجل حسن الوجه، فرآه الصحابة رضوان الله عليهم وهو يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام.. وهكذا رسل الله من الملائكة عليهم السلام رآهم قوم لوط في صورة رجال، وكان لوط عليه السلام يحسبهم ضيوفاً حتى أخبروه بأنهم رسل الله.
وتناولُ الأدب الحديث لقضية الشيطان، ليكون موضوعاً أدبياً: لا يخلو من العبث، فهناك عمل أدبي اسمه بنت الشيطان.. أظهر الشيطان الرجيم ذا عمل خيّر، وقد تناول نقد هذا العمل من ناحية فنية فحسب سيد قطب في كتابه كتب وشخصيات.. ورأيت الأستاذ أحمد حسن الزيات في كتابه وحي الرسالة يتناول قصة بعنوان «جلاد الشيطان» تنحلُّ عقدتها بإنكار الصرع الذي ثبتت به أحاديث صحيحة.
الحواشي:
1 الدليل على ان في الأرض خلقاً قبل آدم عصوا الله تبارك وتعالى قوله تعالى: «اتجعل فيها من يفسد فيها»: ان ابليس ليس من الملائكة.. والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم.. لكن لما ورد الخطاب كانوا مجملين، وكان إبليس مندرجاً في جملتهم، فورد الجواب منهم مجملاً.. فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه وظهور إبليسيته واستكباره انفصل الجواب إلى نوعين:
1 نوع من الاعتراض كان صادراً عن إبليس.
2 ونوع من الطاعة والتسبيح والتقديس كان صادراً عن الملائكة، فكان الجواب قسمين، وناسب كل جواب من ظهر عنه، ولذلك بيّن الله تبارك وتعالى: ان ابليس ليس من الملائكة.. قال تعالى: «وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون» فإبليس ليس من الملائكة، لأنه كتم عدم الطاعة لأمر الله وأظهر المعصية بعدم السجود، لأن فيه غريزة الاستكبار والملائكة لا يستكبرون عن عبادة الله تبارك وتعالى «القادري».
2 الفصل 3/179 طبع المكتبة العلمية ببيروت/ طبعتهم الأولى عام 1416ه.
3 انظر: روح البيان 1/4 دار الفكر.
4 الفصل 3/179.
|
|
|
|
|