| مقـالات
الانتصارات تغيّر مجرى التاريخ، كما أن الهزائم تزيل مراكز القوى العسكرية والفكرية والعمرانية، فهزيمة الخلافة العباسية أمام التتر في القرن السابع الهجري أزالت الثقل الإسلامي في المشرق، فلم يعد لبغداد الهيمنة العسكرية والفكرية والعمرانية، فعلى أثر الهزيمة زالت سيادة اللغة العربية في خراسان وشرقي البلاد الإسلامية وسيطرت اللغة الفارسية. وهزائم المسلمين في الغالب هزائم معركة، فالحروب الصليبية دامت قرنين من الزمن، شهد هذان القرنان قيام دول صليبية في بلاد المسلمين، وبما أن الحرب مستمرة فقد زالت تلك الدول، وعادت السيادة للمسلمين على بلادهم، وبعد وجود الآلة الحديثة عاد الصليبيون ومعهم آلة الحرب فسيطروا من جديد على بلاد المسلمين، ولم يستطع المسلمون استرجاع بلادهم إلا عن طريق الاستجداء، فعاد بعضها وبقي بعضها في أيدي الأعداء، إن المسلمين يستجدون آلة الحرب من أعدائهم، فيعطونهم ما يجزمون بعدم فاعليته، مع إضعاف اقتصاد الدول الإسلامية عن طريق ما يدفع قيمة لتلك الآلة التي تجاوزها الزمن، لقد مضى قرنان من الزمن والمسلمون يتطلعون إلى مشاركة أعدائهم في صناعة السلاح، ومع مرور هذا الزمن فلم تثمر تلك التطلعات التي بدأت في عهد محمد علي، وبما أن آلة الحرب في يد الأعداء، فقد استخف أولئك الأعداء بالعالم الإسلامي، لأن الضعيف لا يلتفت إليه، وبما أن المسلمين في هذه الأيام يُذَلُّون ويُستهان بهم في المطارات والأسواق والجامعات، ويشرف الأعداء على أموالهم وبلادهم، فيجب على حملة الأقلام تسليط الأضواء على أيام الانتصارات، حتى لا يظن المسلمون أن تاريخهم هزائم منتظمة، وليالٍ سود، لا ينير البدر شيئاً منها.
إننا نعيش في هذه الأيام ذكرى الانتصار الأول على الشرك والمشركين، إنها ذكرى جديرة بالوقفة عندها والإشادة بها، فمعركة بدر التي حدثت في صبيحة يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان قلبت موازين الحرب، ومهدت الطريق للمسلمين، إنه انتصار الإسلام على الشرك لأول مرة في التاريخ، لقد أقض الانتصار عروش دول مجاورة، وإن لم تمتد أيدي المسلمين إليها، فالرعب من الانتصار سرى في عروقهم، والخوف من القوة الناشئة في الجزيرة العربية زلزل أقدامهم، إن القوة في ذلك اليوم تعود إلى الإيمان والالتزام بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فالذين خرجوا لملاقاة المشركين يملأ الإيمان قلوبهم، فهم صفوة رجال نذرت أنفسها لوجه الله، فكل مجاهد في ذلك اليوم ينتظر الشهادة ولا يلتفت إلى مغنم دنيوي، لقد قاتل عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي حتى انقطع السيف في يده، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب سلاحاً يقاتل به فلم يجد النبي شيئاً، فأعطاه جذلاً من حطب، فقال: قاتل بهذا يا عكاشة، فأخذه فتحول سيفاً في يده قاتل به المشركين، وعكاشة هذا هو الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدخل الجنة سبعون ألفاً من أمتي على صورة القمر ليلة البدر» قال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: «إنك منهم» أو «اللهم اجعله منهم» فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: «سبقك بها عكاشة». وتسابق الصحابة في يوم بدر إلى أبي جهل، وكان أول من وصل إليه معاذ بن عمرو بن الجموح، يقول فوجدته قد أحاط به أنصاره فحاولت النفاذ إليه فضربت ساقه حتى بانت رجله، ثم ضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي، وكان مُعَوِّذ بن عَفْرَاء على مقربة منه فضربه بسيفه، فأحاط به المشركون حتى قُتِل، فبقي أبو جهل وبه رمق حتى نفذ إليه عبدالله بن مسعود، وكانت الهزيمة قد بدت على المشركين وقلّ المدافعون عن أبي جهل، فلما وقف عليه عبدالله بن مسعود قال أبو جهل: «لقد ارتقيت مُرتَقى صعباً يا رويعي الغنم»! وقد احتز عبدالله بن مسعود رأسه وذهب به إلى رسول الله. وانكشف المشركون، وكان أول من حمل خبر الهزيمة إلى مكة أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، فقد قصد الحرم فوجد أبا لهب في زمزم وأخبره بما جرى في بدر بقوله: «والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا» فقام أبو لهب وقصد داره فمات كمداً بعد سبعة أيام.
وهكذا غيَّر يوم بدر مجرى التاريخ، فلا زال الإسلام ينتشر على الرغم من وقوف المشركين أمام زحفه.
|
|
|
|
|