| مقـالات
رغم أن الحملة الأمريكية المعادية للمملكة العربية السعودية خفت بعض الشيء في الفترة الأخيرة، بعد أن أخفقت في تحقيق أغراضها وافتضاح الجهات التي تقف وراءها، إلا أن القائمين عليها ما زالوا يتحينون الفرص ويسعون إلى اثارتها من جديد، في محاولة للضغط على إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، ودفعها إلى اتخاذ سياسات تلحق أضراراً بالعلاقات الأمريكية العربية عموماً، والعلاقات الأمريكية السعودية خصوصاً في وقت تبرز فيه حاجة واشنطن إلى مساندة الدول العربية أكثر من غيرها في حربها المعلنة ضد الارهاب والارهابيين.
وقد بات في حكم المعروف للإدارة الأمريكية والرأي العام الأمريكي على حد سواء، أن المنظمات اليهودية واللوبيات الإسرائيلية هي التي استغلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي وعمدت إلى اطلاق حملة شملت المسلمين في أمريكا والسعودية ومصر وسوريا ولبنان، عبر تسريب معلومات مغلوطة وبيانات مفبركة، وتزويد الصحافة ووسائل الإعلام الأمريكية التي تسيطر على أغلبها مجموعات مؤيدة لإسرائيل بأنباء وتقارير تفتقر إلى الصدقية، لتشويه المواقف العربية والتشكيك بالقيادات العربية في مسعى للتأليب ضدها، وزيادة الدعم لإسرائيل وتصويرها كالحمل الوديع وسط الذئاب، رغم أن الوقائع والأحداث كلها أثبتت بما لا يقبل الشك أن الدولة العبرية تمارس ارهاباً تفوق مواصفاته ارهاب الجماعات والأفراد مجتمعين.
وعندما تستهدف المملكة العربية السعوية بقسط وافر من الهجمات التي يقودها أركان اللوبي اليهودي في الكونغرس وصحافة اليمين ومجموعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، فإن ذلك يعني ببساطة عمل ثأري يرمي إلى أحداث شرخ في العلاقات الأمريكية السعودية القائمة على تعاون تاريخي يزيد عمره على سبعين عاماً، استند دوماً إلى التكافؤ والتوازن والمصالح المشتركة، ويهدف أيضاً إلى عزل السعودية عن القضية الفلسطينية التي تقف القيادة السعودية ثابتة نحوها، وترفض بإصرار المحاولات الإسرائيلية للالتفاف عليها، وتفريغها من مضامينها الشرعية والقومية باعتبارها قضية لا تهم الشعب الفلسطيني فحسب، وإنما الأمة العربية والعالم الإسلامي، وأصبح واضحاً أن السعودية تكاد تكون واحدة من الدول العربية القليلة التي تحرص على مساندة السلطة الفلسطينية ودعمها في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية التي يقودها شارون وشلته المتطرفة لتصفية قضية الشعب الفلسطيني وسلب حقوقه العادلة وتعريض المنطقة إلى مخاطر الحرب والدمار.
وقد استغلت المنظمات اليهودية وأعوان إسرائيل الأجواء المشحونة التي خلفتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي، لتوجيه الاتهامات إلى الدول العربية وفي مقدمتها السعودية، على أساس أن الذين قاموا بذلك العمل المروع هم من رعاياها، على الرغم من أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تدرك جيداً أن السعودية على سبيل المثال، كانت عرضة لأعمال ارهابية أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية طيلة السنوات الماضية، وهي من الدول القليلة التي نبهت إلى مخاطر الارهاب منذ أكثر من عشرين عاماً ودعت إلى مواجهته وانتزاع جذوره، في الوقت الذي كان الارهابيون أو الذين يمثلونهم يتنقلون في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية ويتخذون منها قواعد للهجوم على المواقف السعودية، ومراكز دعائية معادية لها.
صحيح أن الرئيس بوش ووزير خارجيته كولن باول على وجه الخصوص، حاولا اظهار سخطهما على الحملة التي شنت على السعودية، وأبديا حرصهما على العلاقات السعودية الأمريكية واستمرارها وتوسيع آفاقها، وأكدا في أكثر من مناسبة أن الرياض تساند الجهود الدولية في محاربة الارهاب وتبدي قدراً من التعاون أكثر من دول أخرى بهذا الصدد، ولكن الصحيح أيضاً أن مسؤولين رسميين سواء كانوا أعضاء في الكونغرس أو في جهات حكومية ساهموا من وراء الستار في تأجيج الحملة ضد السعودية من خلال تلميحاتهم الخفية ومعلوماتهم المضللة عن الخطوات التي اتخذتها القيادة السعودية في تأييد التحالف الدولي المناهض للارهاب.
وبالتأكيد فإن السعودية بما تملكه من دور مفصلي اقليمي وثقل سياسي واقتصادي دولي، مع دعمها للجهود الرامية إلى القضاء على الارهاب في العالم، فإن لديها تحفظات على الاجراءات الأمريكية التي صنفت الجماعات السياسية والهيئات الاغاثية وخصوصاً في المنطقة العربية وفق معايير مجتزأة، فواشنطن عندما أصدرت لائحتها الطويلة للمنظمات التي وصفتها بالارهاب، امتنعت عن ذكر المقاييس التي اعتمدتها في تصنيفاتها الانتقائية وزجت في قائمتها أسماء منظمات فلسطينية وعربية تدافع عن حقوق شعبها وتتمتع بشرعية وطنية وانسانية، وهذا الأمر لا توافق عليه السعودية انطلاقاً من التزاماتها وثباتها الراسخ، في احتضان القضية الفلسطينية والعمل على ايجاد حل دائم وعادل لها يؤمن إنشاء الدولة السيادية وعاصمتها القدس.
وقد تميز الخطاب السعودي في الرد على الحملات الأمريكية وتفنيد دوافعها، بالهدوء والعقلانية وعدم الانجرار إلى المهاترات، وبذلك أعطت القيادة السعودية مصداقية لمواقفها وكشفت عن متانة سياساتها، ولعل أبلغ رد على تلك الحملات المغرضة، جاء من داخل السعودية ذاتها، وخصوصاً لقاءات ولي العهد ورئيس الحرس الوطني الأمير عبدالله بن عبدالعزيز مع العلماء والمثقفين والنخب، واطلاعهم على آخر مستجدات العلاقة مع واشنطن، ووضعهم في صورة ما يجرى من تطورات وتداعيات في العالم، وكيف تعاملت الرياض معها،
وقد ركز الأمير عبدالله في تلك اللقاءات على جملة أمور تهم المواطن السعودي والعربي على حد سواء، ورغم أن الإعلام الرسمي السعودي لم يكشف عن كثير مما تحدث به ولي العهد وتطرق إليه لاعتبارات دبلوماسية معروفة، وخصوصاً فيما يتعلق بالحملة الصحفية الأمريكية ضد السعودية، وانخراط بعض أعضاء الإدارة والكونغرس فيها، إلا أنه من الواضح أن ولي العهد كان حازماً في التأكيد على موقف بلاده ازاء القضية الفلسطينية والاصرار على المضي في طريق دعم نضال الشعب الفلسطيني، حتى يحقق أهدافه في إعلان دولته وعاصمتها القدس، وعدم الالتفات إلى الأصوات التي تصدر في تل أبيب، وواشنطن، والاعتراضات التي تسجلها بعض الدوائر الأمريكية على مواقف التأييد السعودية للسلطة الفلسطينية، والأموال والتبرعات التي قدمتها الرياض ولا تزال إلى الانتفاضة وجماهيرها.وعكست لقاءات الأمير عبدالله مع النخب السعودية، وما تخللها من مناقشات حيوية وسط أجواء من المسؤولية والتعاضد، الرفض الكامل لكل المحاولات التي أرادتها صحف ومراكز أمريكية سعت إلى التشويش ودس أنفها في الشؤون الداخلية السعودية، ودعت إلى إعادة النظر في المناهج التعليمية ومراجعتها، دون أن تدرك ابعادها المستوحاة من قيم الإسلام العظيم والتراث المديد، فالسعودية بدورها الريادي في العالمين العربي والإسلامي، وتاريخها الحافل في خدمة العرب والمسلمين، تعرف تماماً أنها معرضة للاستفزاز من دول وأطراف يجمع بينها الحقد والحسد في آن، على ما وصلت إليه من مكانة ومنزلة على مختلف الصعد، وهذا ما اشار إليه الأمير عبدالله في حديثه مع العلماء، عندما خاطبهم قائلاً: اننا في أيام تعتبر عصيبة.. والواجب علينا التأني والتوضيح بالكلمة الطيبة والحكمة، والابتعاد عن الغلو، وعدم الاستجابة للاستفزاز.
وقد سادت اجتماعات ولي العهد مع العلماء وأساتذة الجامعات والمثقفين السعوديين مداولات في الأوضاع الراهنة والأحداث الساخنة، التي أعقبت تفجيرات واشنطن ونيويورك وكان الاجتماع يكاد يكون متطابقاً في النظرة والتقويم لها وكيفية التعاطي مع نتائجها وآثارها بما يخدم السعودية والعرب والمسلمين، وكما هو معروف فإن هذه اللقاءات والاجتماعات هي تقليد اتبعته القيادة السعودية منذ انشاء الدولة وتوحيد المملكة في العشرينات من القرن الماضي، مستندة فيه الى الشورى والتشاور والتعاون في اطار تبادل الرأي والنصح وتحمل المسؤولية.
ويتفق الكثير من المحللين والمراقبين، على أن الموقف السعودي المتماسك في دحض حملات الإعلام الأمريكي والرد على تصريحات بعض أعضاء الكونغرس، وجد تجاوباً في أوساط الإدارة الأمريكية، التي اضطرت إلى الاعلان بأن الهجمات الصحفية على السعودية لا تخدم العلاقة التاريخية بين البلدين في الوقت الذي أشاد الرئيس بوش ووزير خارجيته باول بالتعاون السعودي في مواجهة الارهاب ودعم التحالف الدولي لاستئصاله، والاعتراف بأن الرسائل المتبادلة والاتصالات التي جرت بين الرياض وواشنطن في الشهرين الماضيين، ساهمت في دفع الإدارة الأمريكية إلى اتخاذ مواقف أفضل من السابق فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وأهمية قيام دولتها والتأكيد على مشروعيتها ورفض سياسات الاستيطان الإسرائيلية،
كما أن لقاءات ولي العهد أعطت دلالات بأن القيادة والشعب في السعودية، هما إرادة واحدة على الدوام في مواجهة التحديات داخلياً وخارجياً.
*نائب المدير الاقليمي للاتحاد العالمي للإعلام واستطلاعات الرأي لندن
|
|
|
|
|