| متابعة
في خطابه الرئيسي عن الشرق الأوسط الذي ألقاه في جامعة لويفيل بولاية كنتاكي قال الوزير كولن باول :« إنها ستكون كارثة لو تم تحويل طاقات ومهارات جيل آخر من الشباب في الشرق الأوسط من السلام والازدهار إلى الحرب ومجرد السعي إلى البقاء».ولكن الحقيقة البسيطة التي انطوت عليها هذه الكلمات ضاعت بمجرد النطق بها. وبدلا من ذلك، فإن المعلقين الصحفيين المخضرمين والسفراء السابقين وكبار المسؤولين شغلوا أنفسهم بجمع التعابير الرئيسية في الخطاب، وذلك في جهد يخدم المصلحة الذاتية لتقرير من «خرج رابحا» من هذا الخطاب، وما إذا كان أحد الطرفين قد سجل انتصارا على الآخر فيه. العديدون من هؤلاء كانوا يسعون إلى الحفاظ على إسهامهم التاريخي في عملية السلام، مشيرين إلى أن الخطاب لم يطرح أية فكرة جوهرية جديدة، وأنه لم يتعد كونه تكرارا مشددا لسياسات أمريكية سابقة.
ولكن هؤلاء مخطئون تماما.
قد كان هذا خطابا استغرقت ولادته شهرين كاملين. فقد أخضع الخطاب لتحليل ومناقشة كل دائرة معنية في الحكومة الأمريكية. إن لكل كلمة في الخطاب معنى مقصودا، وكل معنى من هذه المعاني لم يجئ بمحض الصدفة. إنه خطاب كان على وشك ألا يرى النور أبدا، ولكن الرئيس بوش في نهاية الأمر قال «نعم»، قال «نعم» لتعاط أمريكي أنشط، ونعم لإطار جديد من الجهود الأمريكية سعيا وراء السلام في الشرق الأوسط.
حمل الخطاب من بعض نواحيه بعض الإشارات على أنه عودة إلى الأيام الخوالي. فقد مضت على الأقل عشر سنوات منذ آخر مرة أطلق فيها أحدهم عبارة «الأراضي المحتلة». ومع هذه الإشارة فقط تأتي طائفة من الموجبات والالتزامات المرافقة لها بموجب القوانين الدولية المتعلقة بالاحتلال التي ضاعت في غمرة التركيز على ما يسمى ب «عملية السلام». لست أقصد أن أقوِّل وزير الخارجية ما لم يقله في خطابه، ولكن إطار الاحتلال يوضح بما لا يدع مجالا للشك الموقف الأمريكي من عدة قضايا مهمة من قضايا الوضع النهائي مثل الحدود والاستيطان ومستقبل الكيان الفلسطيني. وهو يوضح الحاجة كذلك إلى تجميد كامل للنشاط الاستيطاني إذا ما تمت السيطرة على العنف الحاصل الآن.
وكذلك فإن الخطاب تضمن أمرا آخر لا يقل أهمية، فهو أبرز قمة مدريد وتركيز تلك القمة على ضرورة التوصل إلى سلام شامل في الشرق الأوسط. قمة مدريد تلك هي التي أدخلت سورية عملية التفاوض. ولم يكن من قبيل الصدفة أن الإشارة الوحيدة إلى «عملية أوسلو» في الخطاب كانت في إطار سرد سلسلة الاتفاقات التاريخية في عملية السلام. وإذا ما قدر لي أن أفسر هذا، فإنه يعني إعلانا واضحا بأن أيام الاتفاقات المرحلية قد ولت إلى غير رجعة، وأن على الطرفين أن يواجها هذه الحقيقة الصعبة من الآن وصاعدا. ولست متأكدا مما إذا كان الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات أو رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون قد استوعبا هذه النقطة بعد.
بالنسبة إلى الحدود، كان الوزير في منتهى الصراحة والوضوح. فقد قال: إن «على إسرائيل أن تكون مستعدة لإنهاء احتلالها بما ينسجم مع المبادئ التي ينطوي عليها قرارا مجلس الأمن رقم 242 و 338، وأن تقبل دولة فلسطينية قابلة للحياة يستطيع فيها الفلسطينيون أن يقرروا مستقبلهم على أرضهم وأن يعيشوا بكرامة وبأمن». وإذا ما بدا أن هذه الكلمات مألوفة، فالواقع هو كذلك لأنها كانت الأساس لما كان الإسرائيليون والفلسطينيون على وشك الاتفاق عليه في كامب ديفيد قبل أكثر من عام بقليل.
وكذلك، فإن الوزير أقر بالتعقيدات التي تنطوي عليها قضية القدس، وهو، وعلى عكس ما فعله الرئيس كلينتون، قبل أن قضية القدس ليست مجرد قضية ثنائية بين إسرائيل والفلسطينيين، ولكنها قضية تتضمن المصالح الدينية لليهود والمسيحيين والمسلمين في سائر أنحاء العالم، وهو كذلك أدرك أهمية عنصر حيوي في المفاوضات، وهو مشاركة مصر والأردن والاتحاد الأوروبي وغيرهم.
كان وزير الخارجية قاسيا إزاء الفلسطينيين، ولكن ليس بدرجة غير معقولة. وبالتأكيد أنه لم يقل أكثر مما قاله عدة فلسطينيين أنفسهم. فعلى الزعيم الفلسطيني أن يحسم أمره، مرة وإلى الأبد، فيقرر ما إذا كان يريد حلا حقيقيا يقوم على مبدأ الدولتين أم لا. فإذا كان يريد ذلك، يتوجب عليه إذن أن يقطع تحالفه مع حماس والجهاد الإسلامي، اللتين تسعيان إلى تدمير «إسرائيل كدولة يهودية». هذا هو التعبير الذي استخدمه الوزير باول، وهو التعبير ذاته الذي يجب أن يحدد تسوية قائمة على مبدأ الدولتين. هذا هو الوقت المناسب لكي ينشد عرفات العظمة. وهذا هو الوقت الذي يمكنه فيه الاعتماد على مئة في المئة من تعاون ودعم الولايات المتحدة وهي تخوض حربها على الإرهاب. على عرفات أن يقرر ما إذا كان سيقود شعبه إلى الأمام أو يرتد ليغوص في متاهة ثورة منسية من الخارج. هل يفوّت الفلسطينيون مرة أخرى فرصة أعطيت لهم؟
أخيراً، رسم وزير الخارجية رؤية للمستقبل، رؤية للسلام والأمن والنمو الاقتصادي والديمقراطية. ولكن، كما قال لي أحدهم قبل أيام، إن الرجل الخطأ هو الذي يصوغ الرؤية. أين هي رؤية عرفات، وماذا عن رؤية شارون؟
خطاب باول يقطع شوطا بعيدا على طريق تحديد المواقف الأمريكية بالنسبة لقضايا الوضع النهائي، وهي مواقف لا تختلف بشكل بارز عما كنا عليه في العالم الماضي. وهذا لا بد أن يكون علامة للعالم العربي وخاصة للفلسطينيين. ولنأمل في أنه لن تفوتهم هذه العلامة. عندما كنت في المنطقة قبل بضعة أسابيع، كان يسودها شعور من اليأس. وسيكون من المفجع إن كان شعور اليأس هذا قد أغشى بصيرة الناس إلى حد يحول دون تمكنهم من إدراك الفرص المتاحة في الوضع الراهن. كما أوردها وزير الخارجية باول في خطابه.
قبل أيام قليلة كان خمسة صبية فلسطينيين في طريقهم إلى المدرسة. عندما ركل أحدهم جسما في الطريق ما أدى إلى انفجار ما تبين أنه لغم، وهو ما أدى إلى قتلهم جميعاً. ووفقا لأقوال المراقبين. كان ذلك الشيء عبارة عن فخ إسرائيلي نصب لمقاتلين فلسطينيين. وهكذا انطلقت دورة جديدة من الجنازات ومراسم التشييع، وانبثقت فاجعة جديدة يستغلها السياسيون من الجانبين. ومعهما باعث آخر لفورة من الغضب والكراهية تهيمن على أيامنا وتبعدنا أكثر فأكثر عن السعي إلى السلام.
الهول المتمثل في مقتل الأبرياء، والأسر التي تتفجع على موت أحبائها، والأصوات الغاضبة التي ترتفع احتجاجا على لا إنسانية ذلك الحدث كل هذه مشاهد توالت علينا ليس منذ اندلاع انتفاضة الأقصى فحسب بل وعلى مدى كثير من العقود الفائتة. ولقد آن الأوان لنقول كفى! فالوضع القائم لا يضمن لسكان الشرق الأوسط إلا مستقبلا حالكا واحدا، هو دوامة من العنف تلتهم أجيالا كثيرة قادمة. وما علينا إلا مطالعة الماضي القريب، أي مقتل هؤلاء الصبية، لكي نتنبأ بالمستقبل تنبؤا رهيبا في صوابه.
لقد آن الأوان لقبول العرض الذي قدمه وزير الخارجية والعمل معا على وضع حد للعنف وإرساء بداية للمفاوضات على أساس المبادئ التي لخصها الوزير. نريد للعالم العربي أن ينخرط في العملية، وكما قال وزير الخارجية باول، بوسعنا أن ندفع وأن نحث، ولكننا لسنا المكلفين بصنع هذا السلام. شعوب المنطقة هي التي يجب عليها أن تقرر، فالأمر يتعلق بمستقبلها.
«نهاية النص»
«إدوارد ووكر هو رئيس معهد الشرق الأوسط بواشنطن، والمساعد السابق لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى».
«تصدر نشرة واشنطن عن مكتب برامج الإعلام الخارجي بوزارة الخارجية الأمريكية، وعنوانه على شبكة الويب : http://usinfo.state.gov.
|
|
|
|
|