رئيس التحرير : خالد بن حمد المالك

أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 1st December,2001 العدد:10656الطبعةالاولـي السبت 16 ,رمضان 1422

مقـالات

آفاق وأنفاق
الأفواه المليئة فرحاً، والمليئة ترحا (5 - 7)
د. محمد العيد الخطراوي
يقول الممدوح وهو في نشوة انفعاله بشعر مادحه: احشُوا فمه ذهباً، أي اعطوه حتى تُرضوه، واملؤوا فمه فرحاً، ويقول إذا غضب: احشوا فم فلانٍ تراباً، أو يقول: اقطعوا لسانه. وفي الحالين يتم له ما أمر به، وينفذ ما أراده، وقد يكون الممدوح مسروراً، ويقول: اقطعوا لسان فلانٍ الشاعر، كناية عن إرضائه بالعطاء ليخلص لسانه للمدح، فلا يهجوه أبداً، فكأنما هم بإجزال العطاء له يقطعون لسانه عن الهجاء، فالتعبير هنا غير حقيقي، وفي هذا المقام يحكى أن الشاعرة ليلى الأخيلية (ماتت سنة 80ه) لمّا امتدحت الحجاج بن يوسف بقصيدتها التي منها:


إذا هبط الحجاج أرضاً مريضةً
تتبّعَ أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العُضال الذي بها
غلامٌ إذا هزّ القناة سقاها
سقاها دماء المارقين، وعلَّها
إذا جمجمت يوماً وخيفَ أذاها

(هزّ القناة: قاتل بالرمح. سقاها: أسال الدم من العدو، فسقى به القناة، علَّها: سقاها مراراً، وحقق لها النصر مرات كثيرة. جمجم الكلام: جاء به غامضاً).
وتجاوب الحجاج مع القصيدة وصاحبتها، وأراد أن يكرمها، فنادى على حاجبه: اقطع لسانها، يريد اعطها حتى ترضى، لكن الحاجب ذهب بها ليقطع لسانها على الحقيقة، فصاحت به: أرجعني إلى الحجاج، وقالت له: إنه أراد أن يقطع لساناً مدحتك به أيها الأمير، تريد الايقاع بالحاجب المسكين الذي لم يعتد من أميره الحجاج غير الحقيقة في مثل القطع والقتل، إذن هذا الحاجب كاد يحوِّل فم ليلى من فم أراد له الحجاج أن يملأ بالفرح، إلى فم مليء بالترح.
وفي رثاء القائد التركي (أدهم باشا) قال شوقي (الشوقيات 3/140):


مصاب بني الدنيا عظيمٌ بأدهم
وأعظم منه حيرةُ الشعر في فمي
أأنطق والأنباءُ تترى بطيَّبِ
وأسكت والأنباءُ تترى بمؤلم

فجعل الفم، مليئا بالحيرة، والذي نعلمه أن الأفواه في الأحزان تنطلق منها الآهات والأنَّات دون استئذان فكيف صَحَّت لشوقي هذه الحيرة؟ ربما كانت حيرته توطئة لما جاء في القصيدة من رثاء.
وفي رثاء (إسماعيل أباظه باشا 3/181) أحد رجالات مصر وزعمائها ، المتوفَّى سنة 1927م يقول:


طويناك كالماضي تلقّاه غمدُه
فلم تسترح حتى نشرناك ماضيا
فكنتَ على الأفواه سيرةَ مُجْمِلٍ
وكنت حديثا في المسامع عاليا

فهذه أفواه مليئة بالذكر الطيب الجميل ونلحظ أن الامتلاء في الأفواه كثيراً ما يقترن عند شوقي، ومحمد هاشم رشيد بالامتلاء في الاسماع، أو العيون، كأنهما بذلك يريدان شغل جميع الأعضاء بالمذكور من ممدوح أو محبوب، أو حدث من الأحداث، وفي قصيدة: (الشعاع المتواري 1/70) نلتقى بالشفاه المليئة أسى، والأفواه المضرجة بعصير الألم، يقول رشيد:
شفاه الأسى رقرقت في فمي
عصير الألم
وكف الهوى سكبت في دمي
رحيق العدم
ويقول في (مواكب النور 1/129):


هنالك يزهو محيَّا الصباحِ
على نغمة الطير بين البطاحِ
ويحتضن القفر نَسْمٌ حنون
يضمّد بالبُرء ثغر الجراح

وفي قصيدة (مواسم الوجع الأخضر) من ديوان (رهبة الظل ص10) يملأ محمد إبراهيم يعقوب فمه شتاتاً فيقول:


احبك.. المواجعُ استحالت
مواسماً.. تراود ابتسامي
نعم.. أنا على فمي شتاتٌ
وفي صداي نزعةُ اقتحام
وما أنا سوى الردى يغني
وانتمُ الحياةُ في اضطرامي

ويجعل فم الشاعر اليمني عبدالله البَرَدُّوني، حين رثاه، مليئا بالمعاني الذائبة، ففي الديوان نفسه بعنوان (الوجع النبيل ص38) يقول:


تعال، انظرْ إلي مجدٍ مقفَّى
ولا تأبه لفلسفة الذبول
لكم ذابت على فمك المعاني
وثرتَ على مزاجات الفصول
أعبْدَ الله قد خلَّفت ذكْراً
وبعضُ الذكر فوق المستحيل

وفي: الديوان نفسه ص 63 بعنوان: (تفتَّق الحب خنجراً) يقول معبراً عن مأساة الصمت:
عبثاً يصبُّ الشايَ في كأس الوعود المبْهة
ويسائلُ الجرح المرير: أقطعة أم قطعتان.؟
ويستدير مضرّجاً بالأوسمه
وكأنني ضيفٌ حديث العهد
لم ينبس، ولم يفتح فمه
وتحت عنوان (من حكايا الليل) من ديوان مرافىء الأمل ص 46 للخطراوي نقرأ:
أنا أبحرتُ على متن الخرافات حقيقة
وتمددتُ جذاذاتٍ على السحب الغريقة
كابتهالات هجرْن الأرض أمشاجاً عتيقة
وفمي يفترُّ للدنيا بأشعار أنيقة
وأغاريد نديَّات كأنفاس الحديقة
لم أكن أعرف معنى الظلم أو مغنى التجنيّ
وفي (الكلمة المسنونة ص 57) الديوان نفسه، يقول:
كرهتُ صورتي المشوّهة
أنكرتُها.. مزّقتها ملء فمي
لعنتها.. لعنت من شوّهها
برئتُ من خطوطها المرتجفة
وضقت من رائحة الألوان
وكما سبق، لا تعليق مني على شعري، إلا إذا أبحتُ لنفسي أن أفعل مثل ما كان يفعله البحتري في بعض الأحايين، حين يلقي أشعاره في شيء من الخيلاء، أمام من قد يطمع في تجاهله، قائلا لهم: لماذا لا تقولون أحسنت؟
ثم يلتفت يمنة ويسرة ويقول لنفسه: أحسنت والله أحسنت! ولكنني لست مضطراً إلى ذلك .. فلن أفعل، ولغيري أن يقول في شعري ما يشاء أن يقول، وله شكري وتقديري وأعده بألا أنبس ببنت شفة.

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved