| مقـالات
.. جاء اللقاء المهم الذي أجراه سمو ولي العهد، الأمير عبد اللّه بن عبد العزيز آل سعود، بكبار العلماء والقضاة والفقهاء في المملكة قبل عدة أيام، ليبرز الروح الأخوية السامية، التي تجمع بين قيادة وشعب المملكة العربية السعودية، وبين العلماء فيها، ويعكس بصورة جلية، حرص هذه القيادة الرشيدة، والعلماء الأفاضل، على تجنيب الوطن والمواطنين في هذه الأرض الطاهرة كافة المنزلقات والانحرافات الخطيرة، سواء كانت عقدية أو أخلاقية، أو سياسية، أو فكرية. وهذا هو بالضبط ما ركز عليه سمو ولي العهد، في خطابه البليغ، القصير الوجيز في مبناه، الواضح الصريح في معناه، وما أعقبه من كلمات نيرة، لعدد من أصحاب الفضيلة العلماء، والقضاة والفقهاء. وقد كان الهمّ الوطني العام في هذا اللقاء المهم، هو محور التحاور وهو هاجس كل مناظر ومحاور.
.. جاء كلام سمو ولي العهد حفظه اللّه بصورة مباشرة، من القلب إلى القلب مثلما عودنا. ومع أنه كان يتوجه بخطابه هذا إلى الضيوف، من أصحاب السماحة والفضيلة في هذا اللقاء، إلا أنه كان في واقع الأمر، يخاطب كل رجل وامرأة في هذه البلاد الطيبة الطاهرة، المنصورة بإذن اللّه على كل الحاقدين والحاسدين والخونة والمتآمرين.
.. لقد ركز سمو ولي العهد حفظه اللّه في هذا اللقاء الأخوي، بين القيادة وكبار العلماء، على مسألتين هما في منتهى الأهمية، حياض الدين، وحياض الوطن. «لا مساس بالدين، ولا مساومة على الوطن». هذه عقيدة راسخة في سياسة هذه البلاد منذ أن قامت على يد المؤسس الباني، الملك عبد العزيز آل سعود رحمه اللّه . إن نهج المملكة الذي قام منذ البداية، على هدى من الشريعة المحمدية السمحة دون ما غلو أو شطط، ودون ما إفراط أو تفريط، هو الذي جنبها خلال عشرات السنين الماضية، الوقوع فيما وقعت فيه دول كثيرة غيرها، قريبة أو بعيدة، من تجارب مريرة، وتنظيرات فاشلة، ذاقت من ورائها الويلات وعضت بسببها أصابع الندم.
.. كان سمو ولي العهد في هذا اللقاء، يشير إلى خطر عظيم ينخر في عظام الأمة الإسلامة ويحذر منه ومن انعكاساته على الكل، هذا التحذير الذي جاء في كلام سمو ولي العهد، في شأن الغلو، جاء في وقته، إنه الغلو.. الغلو في الدين.. الغلو في الدين ..! لقد أضحى كثير من بلاد المسلمين مع كل أسف يعج بأفكار متضاربة ومتضادة، وأضحى كل طرف، يجهد في منابذة غيره من الأطراف، ويدعي أنه وحده يمثل الإسلام الصحيح، ويرمي كل من خالفه هذا الرأي، بالعلمنة والزندقة والكفر والعياذ باللّه حتى وصل الأمر بهذه الفرق والطوائف، أن ضللت الأمة وأغوت الدهماء، وغررت بالبسطاء، وأشعلت نيران الفتن، وأمعنت في الاحتراب والاقتتال ، فَقُتِل أبرياء، وسالت دماء ، وأصبح الناس للناس خصماء في عدد من الدول الإسلامية .
.. كان سمو ولي العهد في هذا اللقاء، واضحا كل الوضوح وهو يقول في حزم وعزم: «لا غلو في الدين... لا غلو في الدين .. لا غلو في الدين». ثم استشهد من القرآن الكريم، على ما ارتضاه اللّه لهذه الأمة، بديلا عن الغلو، وهو «الوسطية»، التي تميزت بها أمة محمد، عن سائر الأمم.
قال تعالى : «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ..» لماذا وسطاً..؟ قال تعالى: «.. لتكونوا شهداء على الناس..» ثم .. « .. ويكون الرسول عليكم شهيداً» البقرة آية 143.
.. وعندما يأتي الكلام على الغلو ، وخاصة في هذا الوقت، التي تشيع فيه الفتن، ويظهر الاختلاف ، فيحدث الخلاف بين أبناء المسلمين في كافة أقطارهم، فإن الأمر يتطلب البحث عن حلول جيدة، تقود إلى الخروج من هذا المأزق، مأزق الغلو في العبادات، والتشدد في المسائل الخلافية، إلى درجة التصادم، والافتراق بين الفرق.
.. إن الغلو في الدين، الذي حذر منه سمو ولي العهد هو التجاوز في الحد، والإفراط في الأمر، وهو عين «الغلو» الذي جاء النهي عنه في القرآن الكريم. فقد قال تعالى : «يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل» المائدة آية 77 .
.. والغلو مثلما نعرف مطية سهلة الامتطاء من أصحاب الأهواء، كان ذلك وما زال، في أزمنة ساحقة وأخرى لاحقة. وهو في زماننا هذا، يعصف بكثير من أمة محمد، مثلما سبق وأن أضل وأذل أمماً قبلهم، وهذه الأمة التي أرادها اللّه لتكون أمة وسطا بين الأمم، لن تتحقق لها فضيلة الوسطية هذه بين الناس، ولا أفضلية الشهادة عليهم، ولا حتى حظوة الشهادة لها من الرسول الخاتم، حتى تتبوأ هذه المكانة العلية السامية ، بما أمر به هذا الدين وحض عليه، من حب وتواد، ومن تسامح وتصالح، ومن صفاء ووفاء مع كافة البشر. وهذه المعاني السامية، كلها عكس البغض والحقد والكره، وضد التشدد والخيانة والغدر.
.. والرسول الخاتم ، صلى اللّه عليه وسلم حذر من «الغلو» الذي هو في أبسط صوره، تشدد ومجاوزة للحدود المعروفة والمألوفة في الدين الحنيف، لأن الدين الإسلامي، دين سهل سمح، كامل واضح، والتعبد والتقرب إلى اللّه فيه ، لا يؤتى بالمغالبة، أو يؤخذ بالصلف والمشادة، تلك التي هي من صفات الحمقى والمغفلين. قال صلى اللّّه عليه وسلم : «إياكم والغلو في الدين». ثم قال عليه الصلاة والسلام: «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق».. قيل هذا معناه: «البحث عن بواطن الأشياء، والكشف عن عللها، وبعث غوامض متعبداتها».
ولكن هذا لا يصح من جاهل، أو يؤتى من غير عالم عارف مؤهل متمكن، ومما جاء عنه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: «وحامل القرآن، غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه..»، هذا معناه، أن من آداب القرآن وأخلاقه، التي أمر بها اللّه عز وجل، القصد في الأمور كلها، فخير الأمور الوسط. والعرب تقول في هذا المعنى: «الأمر إذا زاد عن حده، انقلب إلى ضده».
.. إن «الغلو المعاصر» مسؤول عن كل هذا التشرذم الذي حل بالأمة الإسلامية، إلى أن عصفت بها المحن، واستبدت بها الفتن، واشتجر فيها كبيرها بصغيرها، واختصم فيها باديها بحاضرها، حتى أصبحت السلامة في هذا القطر أو ذلك، هي الاستثناء لا القاعدة، كان هذا قدر هذه الأمة منذ أزمان بعيدة، ونسأل اللّه اللطف فيما يقضي بنا. قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فيما ينسب إليه من شعر:
ليس البلية في أيامنا عجباً
بل السلامة فيها أعجب العجب |
ثم قال الإمام الشافعي رحمه اللّه، بعد ذلك:
محن الزمان كثيرة لا تنقضي
وسروره يأتيك كالأعياد..؟! |
.. كان ذاك، في زمن الخلفاء الراشدين رضوان اللّه عليهم أجمعين، وفي زمن التابعين وتابعي التابعين بعدهم .. فهل نحن في حال أفضل..؟
.. ماذا فعل الغلو بأمة الإسلام في هذا الزمان ..؟
.. إن الغلو في زماننا هذا، مسؤول عن حالة الكره التي يجدها البعض في نفسه ضد غير المسلمين. بل وصل الأمر، إلى أن يجد السني في نفسه على الشيعي، ويجد الشيعي في نفسه على السني، ويرمي بعضهما بعضا بالزندقة والكفر.. وحتى بين أطراف المذهب الواحد..! وما تبع هذا، من تكريس ثقافة شتم الآخر وتحقيره ، فاعتقد الجهلة والغلاة، أنهم معنيون بتحقيق هذه الأماني «العِذاب»، التي تلهج بها الألسن صبح مساء..! هل الدين الإسلامي يأمر بتغذية مثل هذا الكره البغيض..؟
.. إن الغلو الذي نعرفه في زماننا هذا، مسؤول عن تشويه صورة الإسلام أمام كافة الأمم.. نتيجة الممارسات العدوانية المحسوبة على هذا الدين..!
ليس في ديننا ما يدعو إلى القبح، حتى يتولى «بعض» أبنائه رسم هذه الصورة القبيحة..
.. إن الغلو في هذا الدين، مسؤول بشكل مباشر عن صورة المسلم الحزين في هذا الكون.. بسبب تصرفات غبية بلهاء، يصدع بها أناس أشرار خبثاء، محسوبون على هذه الأمة ..! هل ديننا يدعونا إلى أن نعيش حزانى مقهورين..؟
.. إن الغلو الذي نهى عنه الخالق جل وعلا، وحذر منه المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ، ونبذه الفقهاء الأربعة، وطرحه أئمة المسلمين المصلحين، مسؤول عن تحفيز «الرويبضات» وتشجيع أنصاف المتعلمين، ومن تبعهم من الغاوين والمتعالمين، على الفتوى بغير علم صحيح، والدعوى بدون فقه صريح، حتى ساهموا في التشويش على عامة الناس، ودفعوا بالغوغاء منهم، إلى ممارسات حمقاء، تضر بعموم الأمة.
.. إن هذا الغلو البغيض، هو السلاح الذي يستخدمه السحرة والدجاجلة والمشعوذون، وذلك من أجل استغلال هذا الدين، للتعمية على العامة، والتكسب من ورائهم، والاستحواذ على حقوق الناس بدون وجه حق ..! هل ديننا يدعو إلى مثل هذه الهلوسات والدروشات، ويسمح بالظلم والتدليس، ويفخر بهذا النموذج أمام العالم..؟
.. الغلو .. هو لسان المتحذلقين، وعصا الخونة والمارقين، وسبيل الكارهين والحاقدين، لكي ينفثوا من سموم أفكارهم، ويصبوا من غل أحقادهم على الآخرين، وهم يعرفون أن في ديننا ما لا يجيز مثل هذا.
.. الغلو .. وما أدراك ما الغلو .. إنه حصن حصين، وحارس أمين، للكسالى والناكصين، وأداة حادة ماضية، للمناكفين والمشاغبين والمخالفين ..! هل في الدين الإسلامي ما يوحي بمثل هذا العقوق، تجاه الحياة والدين والوطن..؟
.. الغلو الذي شاع أمره، وعم ضرره في العالم الإسلامي، مسؤول عن انشغال الناس ببعضهم يتتبعون العيوب، ويتسقطون الخطايا، ويستنزلون البلايا، ويجهرون بالرزايا، وهم يخالفون بذلك تعاليم دينهم وشرعة نبيهم. روى الإمام مالك رحمه اللّه عن عيسى عليه السلام أنه قال: «لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، انظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا اللّه على العافية» ..! اللهم حمدا لك ثم حمداً لك. اللّهم عافنا واعف عنا . اللّهم اشف مرضانا من هذا الوباء وعافهم.
.. الغلو الجديد في الزمن الجديد، مسؤول عن هذا الذي يحدث في بلاد مثل أفغانستان والجزائر، وفي غيرهما من بلدان العرب والمسلمين، أشرار يركبون موجة الغلو والتشدد، فيغررون بشباب الأمة، ويأرز إلى جحورهم، بعض ممن هو مطلوب للعدالة في بلده، أو فار من عقوبة تلاحقه في مجتمعه المدني، فيعمدون إلى غسل أدمغتهم، ويدفعون بهم إلى ارتكاب جرائم يشيب منها الولدان، وتقشعر من هولها الأبدان..!
وهناك ، خلان وإخوان وأهل، يرفعون السلاح على بعضهم البعض، ويمعنون تقتيلا وتشريدا في بعضهم البعض. هذا هو الغلو الذي نهانا عنه الشارع الحكيم، وحذرنا منه نبينا الأمين . فهل نعي أيها المسلمون الدرس ونرتدع..؟
.. هذا الغلو الجديد، مسؤول عن تهافت كثير من العامة، على اختلاق الإشاعات الكاذبة، والسعي لنشرها، وكأنها حقائق واقعة، والتصديق بما يتردد بين حين وحين، عن أحلام الحالمين، الذين يبشرون بيوم النصر المبين..! واجترائهم على شتم الحكام وأصحاب الفضيلة العلماء، والتنديد بأهل الرأي والفكر والعطاء، والتدليس عليهم جميعاً، وتقويلهم ما لم يقولوا به، بهتاناً وإثماً مبيناً.
.. هذا هو الغلو، الذي ساهم في خلق «زعامات ورقية» دموية، مثل المدعو «ابن لادن» ، ورئيس الطلبة «محمد عمر» وغيرهما . زعامات، تدعي العلم والفقه، وترفع شعار الجهاد، وتطرب لصيحات المأجورين في الشوارع، ثم تحلم بيوم «الفتح» اليوم الذي «لن يأتي» يقودها في زعمها إلى حكم العالم.
.. إذا ركنت أمة من الأمم، إلى أحلام تأتي لها في المنام، وأقوام تساق خلف رهط من المغامرين والحالمين ، فاعلم أنها أمة، «تغلو» في دينها غلواً كبيراً.
.. إن أمة «تغلو» ، لن «تعلو».
assahm2001@maktoob.com
fax: 027361552
|
|
|
|
|