| مقـالات
الإيمان العلمي بالمشاهد ليس محل خلاف بين المؤمنين والكافرين، وإنما مسألتي عن الإيمان العلمي بالغيب الذي جعل الله براهينه مشتقة من براهين الشهادة.. وعن الغين والياء والباء قال الإمام ابن فارس في مقاييس اللغة : «أصل صحيح يدل على تستر الشيء عن العيون، ثم يقاس .. وذكر الفارابي في مقدمة كتابه ديوان الأدب: أن صيغة فَعْلٍ التي جاء الغيب على وزنها تكون لمفرد فعول كقلب وقلوب، وتكون مصدراً لفعل على وزن فَعَل إذا كان واقعاً (أي متعدياً) مثل ضرب ضرباً .. وقال في مادة غيب: والغيب ما غاب من أمر الله جل وعلا عن عباده .. فهذا جنوح إلى أن الفعل هنا بمعنى الفاعل، وإليه نحا الجمهور .. قال الفيروزآبادي في القاموس: الغيب كل ما غاب عنك .. وقال صاحب التاج: كأنه مصدر بمعنى الفاعل .. وهو تابع لصاحب الكشاف .. وقال أبو إسحاق الزجاج: يؤمنون بالغيب أي ما غاب عنهم؛ فأخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر البعث والجنة والنار.. وكل ما غاب عنهم مما أنبأهم به فهو غيب.. وقال ابن الأعرابي: الغيب ما غاب عن العيون وإن كان محصلاً في القلوب.. وقال الراغب الأصفهاني في جامع التفاسير: قوله: بالغيب: في موضع المفعول كقوله وبالآخرة هم يوقنون.. وقال بعضهم: معناه: يؤمنون إذا غابوا عنكم ولم يكونوا كالمنافقين الذين إذا خلوا إلى شياطينهم: قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون.. وقوَّى ما قاله بقوله تعالى: «الذين يخشون ربهم بالغيب» وقوله «وخشي الرحمن بالغيب» .. ويكون بالغيب على هذا في موضع الحال، ومفعول يؤمنون محذوف.. وقال بعض المتأخرين من المتكلمين: يحمل قوله: «بالغيب» على المعنيين.. وخفي عليه أن ذلك لا يصح؛ فإن بالغيب في القول الأول مفعول، وفي القول الثاني حال..
ولا يصح أن يقال: ضربت راكباً.. ويكون راكباً مفعولاً لضربت، وحالاً للفاعل .. والوجه هو القول الأول؛ لأنه مستوعب معنى الثاني، وزائد عليه؛ إذ كل من آمن على الوجه الأول فلا شك أنه بخلاف من يقول: إنما نحن مستهزئون .. وقيل: معنى قوله: «يؤمنون بالغيب» يعني بالقلب والنور الذي آتاهم الله وهو العقل.. ومعناه آمنوا بقلوبهم بخلاف من أخبر الله تعالى عنهم بقوله: «ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين».. وهذا أيضاً يرجع إلى الأول عند التحقيق .. وقيل يؤمنون من آمن فلان.. أي صار ذا أمْنٍ نحو أحال وأجرب.. ومعناه صاروا ذوي أمن بظهر الغيب: بأن ما أخبروا به حق؛ فتطمئن قلوبهم بذكر الله.. واعتبر الراغب في المفردات الغيب مصدر غاب.. واستعمله في كل غائب عن الحاسة، وعما يغيب عن علم الإنسان.. بمعنى الغائب.. ويقال للشيء: غيب وغائب باعتباره بالناس لا بالله تعالى؛ فإنه لا يغيب عنه شيء، وقوله تعالى: «عالمُ الغيب والشهادة».. أي ما يغيب عنكم وما تشهدونه..
والغيب في قوله تعالى: «يؤمنون بالغيب» ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بدائه العقول، وإنما يُعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام، وبدفعه يقع على الإنسان اسم الإلحاد.. ومن قال: الغيب هو القرآن.. ومن قال: هو القدر: فإشارة منهم إلى بعض ما يقتضيه لفظه.. وقال العكبري في إملاء ما من به الرحمن: والغيب هنا مصدر بمعنى الفاعل.. أي يؤمنون بالغائب عنهم.. ويجوز أن يكون بمعنى المفعول أي المغيب كقوله: «هذا خلق الله» أي مخلوقه.
قال أبو عبدالرحمن: أكتفي ها هنا ببيان أن الغيب قد يأتي مصدراً كما في قوله تعالى: «حافظات للغيب بما حفظ الله»، فالمراد بالغيب هنا الغياب، ولكن الأظهر في صيغة فَعْلٍ (من الفعل الثلاثي اللازم فَعلَ كغاب): أن تكون اسماً لما وقع عليه الحدث، أو وقع منه كالغرب يراد به المسمى المصنوع من الجلد أو الربل؛ لأنه يغرب في البئر؛ فالغرب غائب، وكذلك الغيب حقيقة غائبة عن حسنا عليها براهين من محسوسنا؛ إذن الغرب بمعنى ما وقع منه الحدث، وهو الغارب.. وليس كونه بمعنى الفاعل أولى من كونه بمعنى المفعول، وإنما يعرف ذلك ويُحدد بالسياق.. والغيب في الآية الكريمة بمعنى الاسم لا بمعنى المصدر، والمراد الذات المتعلق بها الحدث؛ فيشمل ما غاب أو غُيِّب.. أما تحديد ما غاب أو غيب فلا يعرف من جهة اللغة، وإنما يعرف بالحس، كما يعرف باللغة أن كل ما يوصف بأنه غائب أو مغيب فهو ما لم تدركه حاسة البصر؛ فالغيب نسبي؛ فقد يغيب عن زيد ما لا يغيب عن عمرو.
وزعم بعض من نقلت كلامه: أن ما غاب علم العقل يسمى غيباً.. قال أبو عبدالرحمن: هذا معنى مجازي؛ لأنه لن يشك أحد في عربية كلامك وفصاحته لو قلت: غاب عن عقلي علم كذا وكذا.. إلاّ أنني أُنَبِّه إلى أمور:
أولها: أن الأصل في الغيب ما لم تدركه حاسة البصر؛ فهذا هو المعنى الظاهري الذي لا يُحمل على غيره إلاّ بدليل.
وثانيها: أن الإيمان بالله جل جلاله في وجوده وصفاته وما يجب له إيمان بالغيب.. مع أن العلم بالله من ضرورات العقول؛ فالعلم به غير غائب عن العقل، وإنما بعض العقول تغيب عن العلم بالله لشهوة جدلية مستمرأَة أو عناد.
وثالثها: أن معارف العقل لا تخلو من ثلاثة أمور: فإما أن تكون عدم علم، وإما أن تكون علماً بالعدم أو الوجود، وإما أن تكون مما يُتوقف فيه.. فعدم العلم لا يسمى غياباً حتى يثبت العلم بالعدم؛ لأن الغيب واقع مستور، وما ليس بواقع لا يوصف بالغيب، والعلم بالعدم ليس أيضاً غيباً؛ لأن العلم بالعدم لم يغب عن العقل، والعلم بالوجود غيب لحجب الرؤية البصرية.. وكذلك المتوقَّف فيه لا يكون غيباً حتى يثبت وجوده.. وإنما أطلت بهذا التقسيم؛ ليتبين أن الغيب ليس هو خلاف الواقع، أو أنه المجهول.. بل الغيب أحد أقسام الواقع؛ لأن الواقع: إما مغيب، وإما مجهول.. ولا يكون غيباً حتى يكون واقعاً معلوماً غير منظور بحاسة البصر؛ وإذن فالعدم والجهل والوهم لا يدخل فيما يسمى غيباً؛ لأنه لم يوجد بعد أو لم يتحقق وجوده.. وصفة الغيب فرع عن ثبوت الوجود وتحقُّقه؛ إذن الغيب هو الواقع غير المنظور.. وقد قسم الله لنا الواقع إلى غيب وشهادة.. وعند بداية النهضة الحديثة قام بعض أقطاب النهضة بحملة آثمة على ما يعتبره المسلمون غيباً، واعتبروه خرافة وجهلاً.. وقد تصدى لهؤلاء وصحافتهم العالم المفضال المتكلم المفكر مصطفى صبري رحمه الله رحمة الأبرار في كتابه الضخم الحفيل موقف العقل والعلم من رب العالمين وعباده المرسلين ويقع في أربعة أجزاء ضخام، وأطال النفس جداً في تقرير: حقيقة الغيب، وأنه أحد قسمي الواقع، وأن ما ليس واقعاً فليس بغيب..وحسبي أن أشير هنا بإيجاز إلى حقيقة الغيب، وأنه أحد قسمي الواقع، وأن ليس واقعاً فليس بغيب.. حسبي أن أشير هنا بإيجاز إلى حقيقة الغيب عند علماء المسلمين وفي نصوص الشرع.. وحصيلة ذلك أن ما ليس بشيء وما هو وهم وما هو جهل وما هو تخيل لما لم يوجد: فلم يردقط اعتباره غيباً لا بنص شرعي، ولا بكلمة عالم يوثق بعلمه.. كما أنه لا يسمى غيباً بضرورة اللغة؛ لأن مقتضى اللغة أن يكون الغائب موجوداً غاب أو غيَّب عن حاسة البصر، وما ليس بموجود فلا يوصف بالغيب؛ لأن الصفة العارضة فرع للذات؛ فهذه واحدة.. والبادرة الثانية أن النص الشرعي وأقوال العلماء لا تعتبر الغائب أو المغيب عن البصر غيباً حتى يقوم البرهان على واقعيته: إما بخبر معصوم كخبر خالق الواقع جل جلاله، وإما بضرورة عقل من حس أو تجربة أو فطرة.. أما ما غاب أو غيب عن البصر مما هو مشكوك في واقعيته فلا يكون غيباً، وإنما يرهن بالبرهان؛ فإن صح ضرورة وجوده فهو واقع مغيب، وإن صح لا وجود له فهو الخرافة والأسطورة، وإن عُدم الرجحان أصبح موضوعاً متوقفاً في الحكم فيه.. وغيب الله منه ما استأثر الله بعلمه ذاتاً وصفة؛ فإن لله جل جلاله غيبا لا يُطلع عليه أحداً، ومنه ما استأثر الله بعلمه ذاتاً وصفة إلا أن الحس البشري شهد آثاره.. وأعظم الغيوب العلم بالله جل جلاله؛ فإننا نشهد العلم به ببراهين كثيرة منها مشاهدة آثار صنعه.. ومن غيب الله ما حجبه عن أبصارنا ذاتاً وصفة ولكنه نعته لعباده بالخبر والتشبيه كبعض أمور الجنة والنار.. ومن غيب الله ما يحجبه عن أحد دون أحد؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج شاهَد ما لم يشهده صحابته رضوان الله عليهم، ومن الغيب ما حجبه الله عن أهل زمان دون أهل زمان؛ أخبرنا الله بوسائل النقل والزينة من الخيل والبغال والحمير، ثم أخبرنا أنه يخلق ما لا نعلم: علمنا علم اليقين أن ما استجد من مصنوعات البشر للنقل والزينة هو من غيب الله الذي أرجأ كشفه لأهل هذا العصر.. وإنما قلت ذلك؛ لأن كل ما صنعه البشر فهو داخل في قوله تعالى: «ويخلق ما لا تعلمون»؛ لأن البشر لم يخلقوا الماء والتراب والهواء والنار والحديد والجبال وسائر العناصر، وإنما ركَّبوا مخلوقاً من مخلوق.. ولأن البشر كلهم مخلوقون؛ فهم من خلق الله هداهم إلى كشف شيء من سر خلق الله؛ ولهذا يتوجب على عشاق الأدب والفن أن يتحرروا من كلمةٍ وثنية يرددها النقاد والدارسون كقولهم: الخلق الفني، أو الشاعر الخلاق.. وهناك فرق بين الغيب والسر؛ فالغيب ما استتر أو ستر عن البصر، والسر ما غاب عن البصر أو العقل من حقيقة شيء منظور مشهود.
وتعرض الإمام ابن جرير رحمه الله إلى خلاف الممدوحين بالإيمان بالغيب هل هم مؤمنو العرب، أم مؤمنو أهل الكتاب، أم كل مؤمن؟ .. وقبل أن أناقش هذا الخلاف أحب أن أحقق ما يقال حول عموم السبب وخصوصه: أيهما تكون العبرة به؟.. إن إطلاق القول: «بأن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب»: تعميم وقعت فيه مسامحة؛ فهناك سبب لا أثر له في الحكم، وإنما كان موضوعاً للحكم كقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا»؛ فهذه الآية الكريمة نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم من قريش أو في العباس وخالد بن الوليد رضي الله عنهم إلا أن الحكم عام لجميع الثقلين؛ فيقال في مثل هذا: العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب.. ومثله قوله تعالى: «ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت»، فهذا عام في زجر كل من أراد حكم الطاغوت، ولا يُقصر الحكم على المتنافرين إلى أبي بردة الأسلمي كاهن اليهود.. وبعكس ذلك تعنيف الله للمنافقين بقوله تعالى: «ومنهم من يقول ائذن لي»؛ فلو أخذنا بعموم النص وتركنا خصوص السبب: لكان المعنى تحريمَ الاستئذان عن الجهاد مطلقاً؛ فلا بد حينئذ من معرفة السبب؛ لنفسر به مراد النص؛ وحينئذ نجد أن المستأذن متعلل بعذر بارد هو أشبه بالاستهزاء؛ إذ قال: أخاف أن أخرج إلى الجهاد فأرى بنات الأصفر فأفتن بهن.. قالها جد بن قيس المنافق في يوم تبوك.. ومثل ذلك قوله تعالى: «ليس على الأعمى حرج»؛ فهذه لا يلُغى فيها خصوص السبب؛ لأن على الأعمى مسوؤليات، وخصوص السبب يفسر ويُبيِّن بخصوص المراد إذا لم يكن مجرد موضوع للحكم.. ولولا الخوف من الخروج عن الموضوع لاستقرأت نماذج كثيرة، ويكفي العلم بأن القول بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ليس على إطلاقه، وأنه حكم أغلبي، وأن بعض أسباب النزول ذات أثر في الحكم.. وبعد هذا ليس عندنا نص صحيح ألبتة يبين لنا مَن هم الملمح إليهم في الآيات، وإنما عندنا برهانان ضروريان فحسب: هما عموم اللفظ، ومقتضى السياق.. فأما عموم اللفظ فهو أن الآيات لم تقصد حصر صفات المؤمنين واستيعابها، وإنما ذكرتْ أهمَّ صفات المؤمنين «وهي صفات المتقين الذين يهتدون بالكتاب».. قال تعالى: «الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون»؛ فكل هذه الصفات إذا تحققت فلا يتميز بها مؤمن العرب ولا مؤمن أهل الكتاب، وإنما هي عامة لكل من آمن وفق هذه الصفات؛ فالعربي المؤمن يؤمن بما أنزل على الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وكلهم يلتقون على الإيمان باتحاد الملة وتعدد الشرائع وأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم استقرت ونسخت غيرها؛ فحكم هذه الصفات يجب ألا يكون في عمومها خلاف بين أحد.. والبرهان الثاني مقتضى السياق؛ فهو أن الله ذكر صفات من صفات أهل الإيمان؛ فقال: «الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون» ولم يقل ربنا جل جلاله: ويؤمنون بما أنزل إليك.. وإنما جاء بحرف العطف الموحي بتغاير الجنسين؛ فقال: «والذين يؤمنون بما أنزل إليك»؛ فترجح بدلالة السياق وهي ومن مقتضيات لغة العرب : أن المعطوفين جنس آخر من أهل الإيمان لهم نبي وكتاب تحتم عليهم بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به.. ورجَّح هذا أن سورة البقرة نزلت بالمدينة المنورة، وأن معظمها حديث عن اليهود وتعريض بهم.. وعلمنا نحن من دراسات الأديان أن اليهود بعد تبديلهم وتحريفهم لكتبهم لا يؤمنون بالآخرة ويفسرون البعث بما يخرجه عن معناه، فترجح بذلك انه عرض بمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، منهم، وذلك بقوله: «وبالآخرة هم يوقنون»؛ وبهذا نوشك أن نكون عرفنا سبب النزول.. إلا أن هذا العرفان لا يؤثر في عموم الحكم، بل يؤكده؛ لأنه ثبت بالنصوص الأخرى أن كل صفة من صفات الإيمان هذه واجبة على ذوي الأهلية من جميع الثقلين لا فرق بين عربي وعجمي ولا بين كتابي أو وثني، وإنما استفدنا من مقتضى السياق: أن الله أوجب هذه الصفات الإيمانية على كل مكلف، وأن الله ضرب لنا المثال بنموذجين من أهل هاته الصفات أحدهما الصحابة من غير أهل الكتاب، وثانيهما مؤمنو أهل الكتاب رضي الله عن جميع الصحابة وتابعيهم بإحسان .. والمثال شارح لا حاصر.
وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: «الذين يؤمنون بالغيب» بمعنى يؤمنون في الغيب بخلاف المنافقين الذين يعلنون الكفر إذا خلوا إلى شياطينهم.. وجعلوا هذه الآية مثل قوله تعالى: «الذين يخشون ربهم بالغيب» و«وخشي الرحمن بالغيب».
قال أبو عبدالرحمن: التأويل والله لا حاجة له، وهو خلاف الظاهر بلا برهان، ويقتضي تقدير غير الظاهر بلا برهان أيضاً؛ فقائل هذا القول لا مندوحة له من هذا التقرير: الذين يؤمنون بالله حالة كونهم في الغيب.. فقدروا كلمة بالله مع أن الكلام مستقيم دون تقدير.. ومن المعلوم أن الاكتفاء بإعمال الظاهر أولى من تقدير غير الظاهر.. ومن النقد الوارد أيضاً: أن سياق الآيات دل على أن الإيمان بالغيب صفة المتقي المهتدي بالقرآن.. وأخص صفات المتقي أن يؤمن بكل غيب الله؛ فإذا قلنا: يؤمنون بالله حال كونهم غائبين: كان هذا تخصيصاً للنص بالدعوى؛ لأن الإيمان بالله يتبعه الإيمان بغيبه جل جلاله.. كما أن الإيمان حال الغيب وحال الشهادة معاً هو المثل الأعلى للإيمان، بل إعلان الإيمان هو العزيمة إذا وُجد في الشرع رخصة لكتمان الإيمان؛ فتأويل من جعل«بالغيب» حالاً تأويل جنح إلى تخصيص عموم الإيمان بخصوص الإيمان في المغَيَّب، وهذا الإيمان رخصة لا عزيمة؛ فنكون حملنا النص على المعنى المفضول بلا حجة.. ولو فُرض أنه ورد نص ما بالندب إلى الإيمان بالله في حالة الغياب لم يلزم أن يكون تأويل هذه الآية: أن المراد الإيمان بالله حالة المغيب؛ لأن كل ظاهر يبقى على ظاهره حتى يصح برهان يصرفه عن ظاهره بخصوصه، وما يتعيَّن من مراد المتكلم أخصُّ مما يصح ويحتمل من لغة العرب، وقد تعين بالظاهر والرجحان: أن هذه الآية لا يُراد بها الإيمان حالة غياب المؤمن، وإنما المراد الإيمان بالمغيب سواء أكان المؤمن حاضراً أم غائباً؛ فلا ننصرف عن الظاهر والرجحان إلى مجرد الاحتمال.. ولو جاز لنا أن نتخير أي احتمال لما صحت شريعة ولا لغة.. أما تشبيه آية يؤمنون بالغيب بآية الذين يخشون ربهم بالغيب فهو لعمر الله تشبيه غير صحيح؛ لانه ليس من الراجح أن المعنى أنهم يخشون ربهم حالة كونهم غائبين عن الناس وإن كان هذا المعنى مقصوداً بنصوص أخرى ، وإنما المعنى أنهم يخشون ربهم حالة كون ما يخشونه من ربهم غائباً عنهم.. وكل كافر سيخشى ربه، ويدركه الهلع إذا عاين جهنم وسمع زفيرها، ولكن ليست هذه هي الخشية المعتبرة شرعاً، وإنما الخشية المعتبرة النافعة الخشية في هذه الدنيا قبل معاينة الهول.. إن الخشية مطلوبة في العلن والسر، وتكون الخشية من مغيَّب ولكنه (بقوة الإيمان ووضوح الحجة) أصبح كالمعاين.. ولست أشك في عظم أمرالخشية سراً لورود النص كالحديث عن عظم أجر من ذكر الله في خلوة ففاضت عيناه من خشية الله.. إلا أن هذا الحديث عن خلوص الخشية من الرياء والسمعة، والآية الكريمة أعم لأنها عن تحقيق الخشية سراً وعلناً.
قال أبو عبدالرحمن: إن الآيتين بمعنى واحد حسب الأرجح، وهو أن المراد الإيمان بغيب الله وخشية الله حالة كون خشيتهم لربهم الذي لا تدركه حواسهم، وبيان ذلك أن الغيب بمعنى الغائب أو المغيب؛ فإذا جعلته صفة أو حالاً للمؤمن نفسه والخاشي نفسه كان الغياب بالنسبة لغير المؤمن والخاشي.. وهذا معنى فاسد؛ لأن الله لا يغيب عنه شيء .. والإيمان لله والخشية لله؛ فمن آمن وخشي سراً فليس غائباً عن الله؛ فتعين الامر الثاني الذي لا احتمال غيره، وهو ان الغيب صفة لما تعلق به الايمان والخشية، وأن الغيب بالنسبة للمؤمن نفسه والخاشي نفسه، وهذا هو مقصد الشرع بلا ريب، ومقصد الإنسان بلا ريب؛ بدليل الاستقراء لأننا وجدنا الآيات الكريمات التي تذكر الغيب تتضمن ما يقتضي حمد الله لكمال علمه كما في قوله تعالى: «ولله غيب السموات والأرض» وقوله: «عالم الغيب فلا يظهرعلى غيبه أحداً» وقوله: «لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلاَّ الله» وقوله: «وما كان الله ليُطْلِعَكم على الغيب» وقوله على لسان عيسى عليه السلام مثنياً على ربه: «إنك أنت علاَّم الغيوب» وقوله: «إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب» وقوله منكراً على المتخرِّصين: «أَطلَّعَ الغيب».. فصح بكل ذلك أن ما أثنى الله على نفسه بعلمه في أكثر من موضع هو الذي يتعلق به حضُّ البشر وحثهم على الإيمان به: ثم تأملنا حقائق الإيمان المنجية من النار بإذن الله؛ فوجدناها إيماناً بغائب عن حسَِّنا معلوم لنا بالبرهان، وليست إيماناً بشيء حالة غيابنا في السر.. وأقرب مثال لذلك سقوط التكليف، وعدم الاعتبار بالإيمان المستجد في يوم القيامة؛ لأنه انكشف الغيب وعُوينت الحقائق.. وكذلك التوبة عند الغرغرة، لأن المتحضَر يعاين ملائكة الرحمان وينظر منازله وأما تمثيل آية «يؤمنون بالغيب» بعكس حال المنافقين الذين يكفرون إذا خلوا إلى شياطينهم فتمثيل لعمر الله غير صحيح؛ لأن الله لم يقل: يؤمنون بالغياب، أو في غيابهم عن المؤمنين وأما عن الله فلا يغيب عنه شيء ألبتة ، وإنما: قال: «يؤمنون بالغيب»، وقد برهنت على أن الفعْلَ إذا لم يدل السياق على أنه مصدر فلا بد أن يكون ذاتاً يتعلق بها الحدث؛ لأنه واقع منها أوعليها؛ فالمراد يؤمنون بمغيب، وليس المراد يؤمنون غائبين.. وإيمان المؤمن سراً بحيث يوصف بأنه آمن حال كونه غائبا لا ينجي من النار بغير عذر، وليس هو المثل الأعلى حال العذر؛ فكيف تحمل نصوص تقرر حقائق الإيمان على أدنى مراتبه.. ثم إن الله وصف المؤمنين بإقام الصلاة، وكل فرائض الصلاة علنية، فإذا حملوا الإيمان على الإيمان سرا فليجعلوا الصلوات سراً في البيوت والخلوات!!.. ولا خير في تأويل ينقضه السياق.. وحمل باء بالغيب على معنى تعدية الفعل إلى المفعول أولى من حملها على معنى (في) الظرفية، لأن الظرفية ليست أصلها، ولأن الحال بالنسبة للمفعول تعتبر فضلة.
قال أبوعبدالرحمن: وما أطلت هذه الإطالة إلا قطعاً لشبهة من قد يُمَوِّه بهذه الآية في الاستدلال على الإرجاء، ويرى الإيمان عملاً قلبيا فحسب.. وبعضهم جعل بالغيب حالاً ومفعولاً به في آن واحد؛ فقال: يؤمنون بالغيب اي يؤمنون حالة كونهم غائبين.. قال: أبوعبدالرحمن هذا تأويل غير متصور، لأنه جمع بين الضدين، وعقول المفكرين وثقافة الحاوين عجزت عن استقراء كلمة واحدة من لغة العرب تكون مفعولا به حالا في جملة واحدة في آن واحد.. وذكر الراغب وجهاً آخر، وهو أن قوله تعالى: (يؤمنون بالغيب) بمعنى صاروا ذوي أمن بظهر الغيب.. قال أبوعبدالرحمن: هذا لا يعارض ما قررته من أن بالغيب مفعول يؤمنون.. إلا أنه فسر الكلمة بالنتيجة واللزوم، والأصل التفسير بالمطابقة والإيضاح، ثم يُفرِّع عليه النتيجة؛ فمن ناحية أصل الإيمان مصدر آمن المشتقة من أمن فلا ريب أن المؤمن صار ذا أمن بحصول الطمأنينة في قلبه، ولكن لما استقر الاشتقاق والاستعمال العربي علم أن المؤمن لا يحصل له أمن إلا بمشاعر ومعارف استقرت في قلبه كالعلم بالوجود والكمال والصدق والعصمة والخوف والخشية والرجاء والشوق.. إلى آخر معارف القلوب التي تجلب الأمن والطمأنينة؛ فلما صح كل ذلك لم يجز أن نقول مباشرة: إن يؤمنون بالغيب بمعنى يصيرون ذوي أمن؛ لأن هذا التأويل المباشر مسقط لمقومات الإيمان التي تجلب الأمن.. بل نقول اولا بمدلول يؤمن بعد استقرار الاستعمال والاشتقاق: إن «يؤمنون بالغيب» يتيقنون كل حقائقه وما يتعلق بها من صدق وعدل وكمال وعصمة وخوف وخشية ورجاء وشوق؛ فإذا أردنا أن نتبرع بزيادة في التفسير قلنا بعد ذلك: ونتيجة هذا بمفهوم اشتقاق آمن من أمن: أن المؤمن حصل له أمن بموجب هذه المقومات، وإلى لقاء، والله المستعان.
|
|
|
|
|