| الثقافية
7
يعزز ذلك الدلالات القريبة لأسماء الشخصيات الرئيسة في الرواية فارس عزت «الفروسية والعز» وهما من صفات الشخصية، كما تبدو في الظاهرة، و«رجوة التغلبي» من «الرجاء والغلبة» التي فازت بهما البطلة و«فلاح الثقفي» الذي أفلح في التغلب على أزمته والزواج من «رجوة»، وهو كما وصفته الرواية على جانب من الثقافة و«محسن» والد رجوة الذي يمتاز بالاحسان الى الآخرين، وهكذا فإن هذه الأسماء سهلة التأويل.
كما أن البطل أو البطلة ليست لهما سمات «الاشكالية» التي تكسبها ثراء وغنى، ففارس عزت بطل غير منتمٍ كما تشكّل في الرواية وهو أقرب الى السلب، اما «رجوة» فهي منتمية الى مجتمعها وهي شخصية إيجابية، وكلاهما يسهل تصنيعه وليس ملتبساً اشكالياً له موقفه النابع من قناعاته غير انه يواجه بالعداء من غيره فيعاني ويصارع، وهذه سمة البطل الاشكالي الذي نفتقده في هذا العمل(5).
واذا كان الكاتب قد قدّم الأرضية الاجتماعية التي فسّر بها مسبقاً سلوك الشخصيات دفعة واحدة في اول الرواية فإنه عمد إلى تجريد الشخصية من عمقها فبدت الحركة محصورة في قواقع اجتماعية مغلقة في إطارها الأسري.
ولعل من أبرز ما يلفت الانتباه رواية الأحداث من منظور ذاتي محصور في «رجوة» الأنثى المهضومة الحقوق، فقد تقمص الكاتب شخصية الأنثى وتبنّى وجهة نظرها مما يذكرنا بموجة الأدب النسوي التي زحفت الى ساحتنا الثقافية في الآونة الأخيرة خصوصاً في مجال النقد، لقد جاء الخطاب على لسان الأنثى، وبالاضافة الى البطلة، هناك شخصية المرأة الاستثناء التي تمتلك ميزات حباها الله القدرة على التحكم في مشاعرها.. الخ(6)، هذه الشخصية الاستثناء تعزز موقف المرأة البطلة في الرواية التي بدت شخصية مهيمنة.
واللافت في بناء الرواية ايضاً فصولها، فالفصل الروائي كما يعرفه النقاد هو ذلك الجزء من الخطاب الروائي المتميّز طباعياً بانفصاله عن سابقه ولا حقة، المحتل بؤرة بذاتها في بنية العمل الفنية الدلالية، ذو البداية والنهاية المحددتين(7)، لقد تكوّنت «السكر المر» من عشرة فصول معنونة، ولهذا دلالته، فالرقم عشرة يمثل عقداً متكاملاً مما يشير الى سمة الإغلاق والتحديد في مقابل الانفتاح، مما يجعل الرؤية محدّدة مؤطّرة، أما العناوين فهي ذات دلالات واضحة تشير الى مفاصل الحدث مما يومئ الى المغزى المباشر، فالفصل الأول «ثم يأتي الحب» بدل على المرحلة الأولى من مراحل العلاقة بين «رجوة» و«فارس عزت»، ولعله يدل على نسق الرؤية منذ البداية حيث ان هذا العنوان ذو مضمون تكشّف بعد جدل وحوار بين «رجوة» وعمها حول معنى الحب والحنان، والزواج، وهل يأتي الحب بعد الزواج ام قبله وما الى ذلك، ولهذا جاءت لغة السرد في هذا الفصل حوارية وهو ما سنعرض له فيما بعد، اما الفصل الثاني فهو تحت عنوان «التحوّل والتغير»، وهذا العنوان يؤكد ما ذهب اليه النقاد في حديثهم عن نمو الخطاب من خلال التقسيم الفصلي حيث المحافظة على ما يسمونه عامل مواصلة الاتجاه Maintaining Diriction، الذي يصور احد ابرز نقاد الرواية «كرتشفيلد» معناه قائلاً: على المبدع ان يكون ذلك السباح الماهر الذي لا يغيب الشاطئ عن ناظريه مهما ابتعد ليرى اين يتجه وليحدد خطواته المقبلة(8)، ففي كل فصل طبقاً لهذه الرؤية نواة مشكلة تمثل مع غيرها شبكة تحقق عامل مواصلة الاتجاه، فالفصل الأول بذر فيه الكاتب النواة الأولى حول «الحب» كضرورة للزواج من وجهة نظر البطلة، والفصل الثاني استند الى الأول في ايجاد بذرة التحول لديها حيث تقود نواة هذا الفصل ممثلة فيما طرأ على الشخصية من تغيّر، وهنا تبرز مهارة الكاتب في اختلاق نواة جديدة تعتبر امتداداً للنواة السابقة، فالتغيّر المفاجئ يحمل في طياته بذرة المغامرة، وهو ما يقود الى الفصل الثالث حيث يتخذ القرار المصيري بعد طول تردد، لذا يحمل هذا الفصل عنواناً يوحي بهذا التردد: هل أخوض التجربة؟، وهنا يحرص الكاتب على تضمين الفصل حدثاً يحمل مستوىً رمزياً يومئ الى ما يمكن ان تنتهي اليه هذه التجربة المغامرة، وربما كشف لنا هذا المقطع عن البعد الرمزي في هذا الحدث:
«وهنا اهتزّت عنيفاً السنّارة فأمسكت بها فرحة بالصيد، وأخذت أجذبها، ولكن بدلاً عن ذلك شدّني لدرجة كدت افقد توازني فاستصرخت عمي، وذهبت جهودنا سدى فاستصرخ الآخرين عمي وتغلبت كثرتنا على مقاومة المصيد الذي كان اشبه بوحش لضخامة حجمه(9).
وتبدو هذه الفقرة تجسيداً رمزياً لما ستؤول اليه التجربة، الفرحة بالصيد «الزواج» من فارس عزت النجم اللامع في المجتمع ثم فقدان التوازن بعد ان عمد الزوج المصيد الى الاطاحة بشخصية «رجوة»، ولم ينقذها من ذلك إلا عمّها والآخرون، فقد كان فارس عزت وحشاً ضخماً انتهى الى الموت في حادث كما انتهت السمكة «الوحش» الى التقطيع، وهنا يتحقق شيء آخر انيط بالتقسيم الفصلي للرواية حيث التماسك البنائي أو ما سمي بنمو الصورة نمواً لولبياً، أي تبادل النظر الى الجزء والى الكل على حد تعبير بعض النقاد(10).
وعنوان الفصل الثالث «الاستكشاف يحوي النواة الرئيسية التي تشكل منطلق الحبكة الروائية، وقد استفاد الكاتب مما اتاح له هذا التقسيم الفصلي، ذلك ان هذه الرواية تعتمد على النسق الزمني المتصاعد «المستقيم» دون غيره من الانساق كالنسق الخطي المتجاور الذي تتنامى عبره الأحداث من عدة بؤر او من منظورات متباينة، او النسق الزمني المتداخل. ولهذا فقد اتاح له فرصة تغطية الثغرة الزمنية ما بين اتخاذ القرار والرحلة الاستكشافية مما يخلق ايحاءً بالإيقاع السريع اللاهث الذي ينسجم مع زخم الحكي، والاستكشاف يجعل من هذا الفصل مركزاً لبؤرة الاشعاع الدلالي لذا تحتشد فيه أساليب متبانية: المذكرات والتعليقات والحوار الداخلي والحوار الخارجي والوصف والمفارقة، وما الى ذلك، فهو من اطول فصول الرواية.
وأما الفصل الذي يليه ويحمل عنوان «ما لا تشتهي السفن» فقد كان استمراراً لما قبله، ولكنه حمل نواة جديدة تمهد للفراق الدائم، فقد غادرت «رجوة» المنزل، وسيتضح فيما بعد ان مغادرتها كانت الى غير رجعة وذلك بسبب معرفة فارس بتعيين «رجوة» في الجامعة، وهو ما يندرج في إطار السّرد الاسترجاع فيما بعد، من هنا كان الفصل السادس يحمل عنواناً دالاً على التحوّل الجذري «مسار جديد» حيث تختار البطلة طريقاً آخر ممثلاً في الخدمة العامة والانفصال عن مؤسسة الزواج.
ولكي يحافظ الكاتب على تماسك الحبكة فإنه لجأ الى تقصير الفصل الروائي، لان بعضها ينطوي على حبكات صغيرة حيث تتداخل في ضفيرة مجدولة بعناية في إطار الحبكة الرئيسة في الرواية، ولعل ذلك يتضح في الفصول التي بدأت فيه البطلة بالتعرف على فلاح الثقفي الذي يعتبر انعطافاً جديداً في مسيرة الحدث الروائي، ففي الفصل الذي عنونه الكاتب ب«غد يُظهر الغيب» تم هذا التحول، وفي الفصل الذي يليه «آخر الدواء الكي» يحدث الانفصال النهائي الذي يسدل الستار على المرحلة الرئيسة من مراحل الرواية، ولكن اللافت في تكوين هذا الفصل انه يتضمن حديثين رئيسيين: كل منهما يشكل قفزة نوعية، ولكنهما مترابطان يفضي كل منهما الى الآخر، فوصفة الزواج التي تضمنها تقرير «رجوة» كانت مؤشراً الى النهاية المنتظرة، والاجتماع الحاشد الذي عقد في بيت العم «باسم»، انتهى الى نذر الانفصال الذي حسمه الموت، ولهذا وجدنا الكاتب يعمد الى اثبات عنوانين منفصلين داخل الفصل الواحد الأول يحمل الرقم «9» وهو «الطعنة المرتدة» والثاني غفل من الترقيم وهو «لقاء له ما بعده»، كذلك فإن الفصل الأخير الذي يحمل عنوان «مابعد السكر المر» جاء بلا رقم، فظل الرقم «9» هو الرقم الأخير في فصول الرواية، ولعله قصد من ذلك ان يبقي النهاية مفتوحة، ولكن المسألة تظل شكلية إذ أسدل الستار على حكاية «السكر المر» ليبدأ فصلاً جديداً، كل الدلائل تشير الى انه هو الخاتمة السعيدة للرواية.
وفي اعتقادي ان هذه الرواية التي لابد من استكمال درسها عبر التعرف الدقيق على نسيجها اللغوي ووجهة النظر والزمان والمكان وتقنيات السّرد الأخرى تعبر في مضمونها ورؤيتها عن تطوّر مهم في بنية المجتمع الذي تشكلت الشريحة الأهم في سُُلّمه التراتبي حيث الطبقة المتوسطة التي اخذت فيها المرأة قسطاً وافراً من التعليم وبدأ المجتمع المدني الحديث يتبلور على نحو شديد الوضوح عبر مرتكزاته الأساسية، وحيث بدأ المثقف يمثل بما حصل عليه من امتيازات يحتل بؤرة الحركة فيه في ظل نظام مؤسسي راسخ البنيان.
ولسوف يتضح لنا في الجزء التالي من هذه المقالة كيف اثر هذا المضمون في تشكيل الرواية جمالياً على نحو خاص من خلال متابعة سياقه الأصغر ممثلاً في مجمل أعمال الكاتب وسياقه الأكبر عبر موضعة الرواية في إطار النتاج الروائي ككل.
السياق الإبداعي والثقافي لرواية «السّكر المر»
في وقت احتفلت فيه الرياض باختيارها عاصمة للثقافة عام 2000 بدت الرواية السعودية من أكثر الظواهر الابداعية حضوراً خصوصاً بعد سلسلة الأعمال التي صدرت في السنوات الخمس الأخيرة وشهدت طفرة ملحوظة تميزت بمشاركة شعراء ومفكرين وكتاب قصة قصيرة فيها، فهناك الشاعران غازي القصيبي وعلي الدميني والاكاديمي المفكر تركي الحمد.. والشاعر الاكاديمي احمد شويخات وعبدالعزيز مشري وخوقير والجاسم ورجاء صالح.. وعدد آخر من الروائيين وكتّاب القصة اصدروا اعمالاً روائية ونحن في انتظار المزيد من محمد علوان وعبدالله باخشوين وحسين علي حسين من أعلام السّرد الذين تنامى الى العلم انهم بصدد اصدار روايات جديدة.
وكنت في الحلقة السابقة قد تناولت رواية «السّكر المر» للدكتور عصام خوقير، ذلك لأنها من وجهة نظري المتواضعة على الأقل تبدو ممثلة لاتجاه في الرواية السعودية يتبنّى على تيمة مهمة، وتم ما يمكن ان يقال عن تقليدية السّرد والمعالجة فيها ذات بعد اشكالي يتمثّل في تشابك العلاقة بين المثقف وما يمثله الموروث التكويني بين رؤية متأصلة في أعماقه، والمرأة التي بدأت تحتل موقعاً جديداً، فبطلا الرواية، وهما قطبا المعادلة الاجتماعية مثقفان يمثلان جيلاً جديداً من الشرائح الصاعدة في المجتمع السعودي، وهما يجسدان حقيقة المستوى الذي بلغته من التعليم، وما تعانيه من مكابدة مع طبيعة التكوين النفسي الذي يجهد في التكيف مع المعطيات الجديدة، هذا الاشكال الاجتماعي النفسي رغم جدية المعالجة له في الرواية يطرح العديد من الأسئلة على المبدع.
ولعل المفارقة في عنوان الرواية «السّكر المر» تلخص ذلك المأزق ليس على المستوى الأول من مستويات الرؤية في الرواية وأحداثها، بل على الصعيد الأشمل، فللتطور مشكلاته، وللصعود تبعاته خصوصاً في تاريخ المجتمعات الناهضة والأمم العريقة ذات التراث المركوز في الفطرة.
وقد حاولت في هذه الحلقة ان انظر في هذا العمل في سياقه العام ممثلاً في الفن الروائي، والعربي منه بخاصة وكذلك المحلي وفي سياقه الخاص ضمن انتاج الكاتب..
|
|
|
|
|