أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 22nd November,2001 العدد:10647الطبعةالاولـي الخميس 7 ,رمضان 1422

الثقافية

«الوسادة الغالية».. حكاية رمضانية!..
يوسف الذكير
في أمسية من شهر يتبادل فيه الليل والنهار الأدوار، وتتألق فيه العديد من دول المشرق، في حصد الجوائز الاستثنائية في قلة الإنتاجية، تمدد كهل مبتل العروق، مسترخياً، وهو يتجول باستمتاع ما بين فضائيات التلفاز.
فمن خيرات الشهر الفضيل تنافس الفضائيات على عرض أفضل المُسليات الفكاهية، وشيق المسلسلات الدرامية، وباذخ المسميات الاستعراضية بفوازير رمضان.. تقليد جديد لا تكاد تخرج عنه غالبية المحطات العربية «... إلا أن حبل انتباهه المشدود، ما لبث وان ارخاه، صوت زوجته المطالب، بتكرار لحوح منذ أوائل الشهر بالخروج للتفسح.. بحث في كنانة اعتذاراته عن سهام من صداع، أو دوار، او تعب، فلما وجد انه قد استنفذها، لم يكن امامه سوى الاستسلام والانصياع.
الفسحة في عاصمة، تشكو من قلة المسارح والنوادي والمنتزهات، لا تعني سوى ارتياد الأسواق، فترويح ما بعد التراويح من احتفاء واحتفال بشهر نزول القرآن لا تشاهد إلا من خلال شاشات الفضائيات. فللبلد خصوصية، باتت مشجباً للأعذار، وحافزاً للأسفار!.. حقيقة دفعت مُلاك الأسواق لان يتطاولوا في البنيان ويتفننوا في الإعلان، حتى أصبحت مدن وعواصم دول الخليج وكأن ليس لها شاغل، سوى التنافس في اقامة معارض التسويق، ومهرجانات التسوق!.. كان شرطه الوحيد هو ان تختار زوجته بين كل تلك المجمعات التجارية الفخمة، مجمعاً يحتضن مكتبة، وليته لم يشترط، فقد تسبب ما نجم عنه، في احراج كاد ان يتطور الى مشكلة!!..
üüü
تنفس الصعداء، ما ان عثر بعد عناء، على موقف لسيارته. ترجل وزوجته، متقدماً عنها باتجاه مدخل المجمع، بخطوة او خطوتين، تمسكاً بتقاليد رجولته النجدية. ولكن كما هو الحال كلما سافرا معاً، تراجعت تلك التقاليد حالما دلف وزوجته، الى مهرجان الحاضر.. تمازجت خطاهما كما هي في مسيرة الحياة، في مزيج من الأضواء والأصوات والأجناس. أضواء تسطع بمختلف الألوان على مختلف الألوان والأجناس، مقيمون من جنسيات مختلفة يبيعون، وسعوديون بسحنات متباينة.. يبتاعون، أما الأصوات فقد رسمت البسمات على شفتي ذلك الكهل المتأمل «.. فشتان ما بين صوت صرير رخام، يئن تحت وطأة أحذية ونعال، وصوت ترنم رخام وهو يمرح ويسبح، تحت انهمار شلال».. ومن يدري، فربما كانا من ذات المحجر، ذلك ما دار في ذهن متأملنا الكهل، وهو يتفكر، مسبحاً بأنبهار من قدرة القادر الخلاق على رسم الأقدار وتقسيم الأرزاق ما بين البشر حتى ولو كانوا من رحم واحد، بل وحتى ما بين قطعتي حجر من ذات المحجر!!..
طاف معها وتسكَّع متأففاً من تكرار توقف زوجته عند واجهات المتاجر، حتى إذا ما أختارت أخيراً، متجراً حافلاً بكل ما يلزم وما لا يلزم ربات المنازل والحجال. اتفق معها، وهي مسرورة على اللقاء فيه بعد برهة، او استراحة افتراق. سرور نابع من تحررها من تأفف زوجها، كما يتيح لها ابتياع ما يحلو لها، دونما تذمر وحساب.. فالفرق ما بين من يتعب ليكسب ومن يصرف بلا تعب، قد يفسر الفرق ما بين ما تجده النساء في التسوق من تسلية ومتعة، فيما هو لدى الرجال، مجرد قضاء حاجة مُلحة.. افترقا افتراق ميولهما، فمضى كُلٍ الى غايته، الزوجة الى التفرج والتبضع، والزوج الى اقتناء غذاء فكره وعقله من المكتبة القريبة.
جال ما بين حقب التاريخ، واستعرض مدارس الفلسفة.. تمعن في كنوز التراث ومكامن المعرفة، ولم يفته حضوراً متميزاً للمؤلفات الدينية، تلبية لاقبال موسمي، يكاد يماثل اقبال الطلبة على المكتبات قبيل بدء الدراسة، أو استعداداً لاختبارات نهاية العام!.. تزود بما طاب، وكاد ان يخرج، لولا انه شدته خلفيته التعليمية الغربية لان يعرج على الدوريات، والمجلات الاجنبية المتخصصة، فاتجه الى ارففها، عابرا أكداساً من صحف الترويج والتنويه العربية دون اكتراث.. قارن وتمعن قبل اختيار مجلة علمية مرموقة.. لو كان يدري، ما ستسببه له من استياء وانزعاج، ما كان اقتناها!!
كرّ منشرحا بما يحمله، عائداً للقاء زوجته في المتجر الكبير، دونما تحسب أو تأهب لما ينتظره من موقف محرج. فقد وجد المتجر ممتلىء الردهات، بالنساء المتماثلات حجاباً وعباءات.. تلفَّت.. تفحَّص.. لعله يتبين هيئة زوجته من بين أسراب المحجبات. انفرجت أساريره أخيراً، فاتجه مسرعاً نحو من حسبها زوجته، إلا انه ما ان كلمها حتى دفع ثمن تسرعه غالياً.. جاء الرد عنيفاً مفحماً باتهامات.. تبعه تجمهر كاد ان يتطور الى ما لا يحمد عقباه، لولا ان بعث الله له زوجته، لتنقذه في الوقت المناسب!.. ندم لفراقها وتندم على شرطه المسبق لها باختيار مُجمع ذي مكتبة.. دفع عربتها المكتظة دونما إلقاء نظرة على ما حوته من مشتريات، متعجلاً الخروج من مستنقع النظرات.
بادرته زوجته بذكاء لا يخلو من دهاء النساء، حالما تحصن خلف أبواب وزجاج سيارته، انها اغتنمت فرصة وصول دفعة من آخر ما استجد من أطقم فرش الأسّرة الناعمة، قبل ان تنفذ، فلم تكتفي بشرائها فحسب بل وما يناسبها من وسائد أمريكية فاخرة، حبس اضطرابه وما هو فيه من ذهول، هطول سحب الغضب والعتب، التي طالما اعتادت على سماعها في أعقاب مشتريات لا يرى لها مبرراً ولا سبب.. فهز رأسه مجتراً بصمت وحنق ما لقيه من إحراج لا ذنب له فيه، مطرقاً طوال الطريق.. إلا ان نهاية المنغصات لم تنته بنهاية الطريق!..
üüü
حاول تناسي ما حصل، بتفحص ما اقتناه من مقروءات، لكنها زادت بلة طين استيائه بلَّة، إذا ما ان قلب صفحات المجلة العلمية التي اختارها بكل عناية حتى طالعته لطخ سوداء، غرضها اخفاء إعلان عن مشروب مُحرم، فحرمته ما على الصفحة المقابلة من بحث علمي، كان الدافع الأساسي لاقتنائها.. غمغم بغضب، ناعتاً من قام بالتلطيخ بأوصاف لو تفوه بها في النهار، لربما أبطلت صيامه..
عاد الى التلفاز، لعله يجد فيه ما ينسيه حنقه وغضبه، تنقل بين فضائياته محلقاً الى فضاء، ما لبث وان اعاد اليه هدوءه، فيما كانت زوجته منشغلة مع الخادمة في استبدال قديم الفرش بما ابتاعته من جديد أغطية ووسائد.
هدوؤه أتاح لذهنه ان يعيد شحن بطارية خياله وتأملاته، فما ان لمح الخادمة، حاملة وسادته القديمة متدلية الرأس والأطراف ما بين عضد وساعد الخادمة، حتى خُيل اليه وكأنها تنظر اليه بانكسار وعتب.. طرد خياله الجامح متهماً اياه بالنزق والجنوح.. لكنه ما ان وضع رأسه تلك الليلة على الوسادة الجديدة، حتى عادت اليه افكاره وحنقه!.. فالوسادة الأمريكية المنتفخة، سرعان ما تقعرت، وكأنما عجزت عن احتمال رأسه المثقل بالتوجس والهواجس.. باءت كل محاولات ظلمتها بالفشل الذريع، فعزم على استعادة وسادته القديمة مهما كان الثمن ودون اكتراث بأحد، حال انبلاج الصيام.
ما ان استيقظ ضحى اليوم التالي حتى زاده ما شعر به من صداع وآلام ظهر ورقبة، إصراراً على استرجاع وسادته الأصلية، لكنه ما ان نزل مستفهماً عنها الخادمة، حتى اخبرته انها اخرجتها مع القمامة.. أسرع خارجاً لعله يجدها إلا ان لمح سيارة القمامة تترنح مبتعدة.. المفارقة الساخرة، ان سيارة القمامة كانت أمريكية الصنع أيضاً.. يعلم جيداً، انها مزودة بمهراسة لا تميز ما بين الأصالة والقمائم!..
تلك الأمسية، خرج من بيته وحده، متجهاً الى الأحياء القديمة، ركن سيارته ونزل متجولاً ما بين طرقات لا تزال تحتفظ بعبق الماضي، سار ما بينها حتى عثر على دكان يجلس على بابه شيخ متدثر بفروة، وخلفه أكداس من وسائد ولُحف.. وسائد طالما احتضنت هموم رؤوس، ولحف طالما دثرت أجساد أباء وأجداد.. دفع عن طيب خاطر ما طلبه الشيخ دون مساومة.. وعاد جائلاً باعتزاز الوسادة الغالية، متطلعاً لليال هانئة بعدما جرب معاناة ونزيف الوسائد المنتفخة!..

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved