| متابعة
بادىء ذي بدء لا نقر ولا نؤيد أي تدخل أجنبي على أي دولة مهما كانت المسوغات والأسباب والدوافع التي تقر هذا التدخل، فكثيراً بل من البديهي ما تسبق أي تدخل في شؤون دولة أخرى حملة إعلامية لتجميل هذا التدخل وصبغه بمسوغات إنسانية مثلما حدث مع الحرب الصليبية على الديار الإسلامية وما تخللها من انتهاكات بشعة ومجازر فجة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من ذي قبل!
لكن علينا أن نعترف في خضم ما نعيشه هذه الأيام من أن حركة طالبان، حالة مختلفة تماماً عن غيرها من الحركات السياسية، فهي حركة نشأت وترعرعت في أحضان المخابرات الباكستانية التي رأت في الحركة الوليدة الخلاص لها من مشكلاتها مع الحكومة الأفغانية بقيادة رباني.. لذلك سارعت الى دعمها السياسي والعسكري واللوجستي من أجل تقوية نفوذ إسلام أباد على الشأن الأفغاني.. كما رأت باكستان في الحركة الجديدة طوقا سيقوض من نفوذ إيران التي كانت تأمل في إمداد نفوذها على التراب الأفغاني.. ولهذا السبب حصلت باكستان على تأييد وموافقة واشنطن في خطتها الرامية إلى بسط نفوذ طالبان على كل الأراضي الأفغانية وانتزاع السلطة من يد حكومة رباني.
وتحقق لباكستان ما أرادت حيث استطاعت حركة الطلبة الذين كانوا يدرسون في المعاهد الدينية بباكستان وسميت بطالبان من بسط نفوذها على 90% من أفغانستان ثم قامت بفرض قوانينها على البلاد.
لم يشارك الحركة أي فصيل آخر في الحكم وانفردت بالسلطة.. وعلى الرغم من صغر سن زعيمهم الملا محمد عمر وقلة خبرته السياسية وحنكته في إدارة شؤون البلاد فقد استعان بحكومة لم يتجاوز فيها وزير 45 عاماً.. بل كان من بين الوزراء من غادر قريته لأول مرة إلى قندهار للإمساك بالسلطة. وقد تعددت الأسئلة وتشعبت الاستفهامات حول كيفية حكم هؤلاء لبلد يتكون من الكثير من الأعراق وخارج من أتون معركة أقل ما توصف بأنها من أشرس المعارك التي دارت رحاها في نهاية القرن العشرين والتي كان من أهم أسبابها انزواء الاتحاد السوفيتي من الخريطة السياسية الدولية وتفكيك منظومته.. ويحاط به عدد من الدول تختلف توجهاتها وأيديولوجيتها السياسية والعقدية سوء أكانت روسيا أم إيران أم باكستان أم الصين.
وكان لطبيعة القوانين التي فرضتها الحركة الكثير من التشدد لبلد محطم نصفه وخاري القوى وخارج توه من حرب أهلية. هذا التشدد لا يستقيم إلا مع دولة قوية البنيان، مستقرة وآمنة ولها مؤسساتها، أما مع الحالة الأفغانية فالأمر كان مستغرباً.
وعلى الرغم من ذلك مضت الحركة قدماً في إزالة ما ترى أنه من المنكرات التي لا تتفق مع الشريعة الإسلامية فمنعت تعليم البنات مع أن العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ومنعت المرأة من الوظائف وغيرها من القوانين التي أثارت الكثير من الاستفهامات حول شريعتها.. وإذا كانت الحركة قد أزالت المنكر وفق تصورها بتفوق ميزها فإنها في المقابل لم تصنع المعروف جيداً سواء في إعمار البلاد وتنميتها أو عودة لمؤسساتها والعافية لاقتصادها.
إلى هنا والأمر يبدو عادياً إذا تفهمنا الشخصية الأفغانية التي تأثرت كثيراً بطبيعة البلاد وتضاريسها وكما يقولون «الإنسان ابن بيئته» لكن غير الطبيعي والذي لا يمكن قبوله أن تكون الحركة مأوى لكل الخارجين على أنظمتهم وملاذا لكل المختلفين مع الأنظمة.. فهذا الخروج وتلك الاختلافات لم تكن لتباين في وجهة النظر بالأسلوب السلمي والاختلاف المشروع، بل كان هذا الخروج بالعمل العسكري وحمل السلاح وإشهاره في وجه السلطة.. وقد شهدت المنطقة الكثير من الأعمال الإرهابية في مصر والجزائر واليمن وغيرها من الدول العربية قام بها جماعات شقت عصا الطاعة عن سلطة دولها وأرادت الوثب على السلطة بالقوة المسلحة.. وعندما اشتد الخناق عليهم توجهوا إلى أفغانستان وتبنتهم الحركة جنباً إلى جنب مع الأفغان العرب الذين مكثوا بأفغانستان بعد انتهاء الحرب الأفغانية السوفيتية.. وشكلوا بعد ذلك فيما بينهم تنظيماً واحداً «تنظيم القاعدة» الذي خطط للعديد من العمليات كان أخطرها قوة وتأثيراً حادث وادي الملوك بالأقصر وما حدث بميناء عدن من اختراق مدمرة أمريكية بلنش سريع، وراح هذا التنظيم يهدد ويتوعد للكثير من الدول العربية والغربية معاً!!
ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر بالولايات المتحدة ليصحو العالم على حقيقة مفادها ان هناك أصابع وعقولا تستطيع الوصول إلى أي مكان في العالم حتى ولو كانت أكبر قوة عسكرية في العالم وتنال منها وتدمر هيبتها.. ثم تلاحقت الأحداث بعد ذلك من تكوين ائتلاف دولي ضد الإرهاب وما زالت الطائرات والمدافع ترمي بجمراتها على الأراضي الأفغانية حتى كتابة هذه السطور إذ بدأ الخناق يشتد على حركة طالبان وتنظيم القاعدة في آخر معاقلهم!!
***
هذا الحصر السريع والموجز لتطور الأحداث التي شهدتها الساحة الأفغانية كان ضرورياً بعدما بدأت تعلو أصوات وتتباكى كتابات على حركة طالبان معتبرة أن الهدف من وراء الحرب المستعرة الآن هو تدمير وإنهاء حكم حركة كانت تتحاكم إلى شرع الله.. ونموذج إسلامي تريد القوى الغربية إنهاءه!!
ومع ان ما أكدناه في بداية المقالة بأننا ضد التدخل الأجنبي بجميع صوره وأشكاله في التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، إلا أننا نؤكد في الوقت نفسه أنه من منا يتباكى على حركة جاءت من عباءة مخابرات دولة مجاورة فسلحتها ودعمتها سياسياً.. وحركة استأصلت كل الفصائل والأعراق الأخرى التي يتكون منها نسيج المجتمع الأفغاني ومن منا يتباكى على حركة حاكمة تقف ضد كل تقنيات العصر وضروراته الملحة مثل التلفزيون والكمبيوتر وغيرهمسا من الوسائل العلمية، وحركة معظم قادتها ومستشاريها شباب تنقصهم الخبرة وتعوزهم المعرفة السياسية والاقتصادية للخريطة العالمية.
ومن منا يتباكى على حركة احتضنت كل المتمردين والخارجين على حكوماتهم وشهروا السلاح وقاموا بتنفيذ أعمال إرهابية راح ضحيتها أبرياء. وفي النهاية من يتباكى على حركة تدعي أنها تزيل المنكر لكنها لم تستطع أن تصنع المعروف.
لكل هذا فإن التباكي على حركة طالبان ليس له ما يسوغه.
|
|
|
|
|