| مقـالات
وهذه النتيجة جاءت على الرغم من كونهم أكثر السجناء التزاماً بنظم ولوائح السجن وانصياعاً لتعليماته، واستجابة لبرامجه التأهيلية، أما تفسير هذه النتيجة فلا يخرج عن الأسباب الآتية في حال وجود هذه الأسباب كلها أو بعضها:
1 فقر في التفريد العقابي والمعاملة الإصلاحية حتى غدا الجناة في نظر السلطة التنظيمية «التشريعية» والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية كما لو كانوا ارتكبوا جرائمهم تحت الظروف البيولوجية والسيكولوجية والسسيولوجية نفسها، فتؤتى أغلب العقوبات نتائج عكسية،
2 أن تكون السلطة القضائية قد أفرطت في ليونة العقوبات التي أوقعتها على أولئك الجناة رغم ما يظهر من شدتها، أو أفرطت في قسوتها عليهم، وهو ما أخلَّ، في أيٍّ من الحالتين بالتوازن المفترض وجوده بين لذة الفعل الإجرامي وألم العقوبة، ففي حالة الإفراط في لين العقوبة تتغلب لذة الفعل الإجرامي على ألم العقوبة فيفضل الجاني لذة الفعل الإجرامي على السلامة من ألم العقاب، وفي حالة الإفراط في القسوة لا يكون هناك تناسب بين شدة العقوبة وألمها وبين مستوى خطورة الفعل الإجرامي ودرجة المسؤولية عنه، فيعتقد الجناة أن السلطات قد قصدت من العقوبة الانتقام منهم والتنكيل بهم، وهنا يتولد الحقد الذي يفرغه الجناة ضد المجتمع ومصالحه المحمية بعد الإفراج عنهم، فتنتفي منفعة المجتمع من العقوبة، والعقوبة القاسية التي تنتفي بها منفعة المجتمع تكون منافية للعدالة، لأن أساس العقوبة العادلة هو تحقيقها للمصلحة الاجتماعية،
3 أن تكون برامج الإصلاح وإعادة التأهيل قاصرة كمّاً وكيفاً عن تحقيق الأهداف المفترض تحقيقها، وبخاصة الرعاية النفسية والاجتماعية للسجناء،
4 أن تكون بيئة السجن غير مناسبة لتعديل سلوك السجناء، كأن تكون بيئة مكتظة، أو لا تكون هناك أنشطة كافية لشغل أوقات فراغ السجناء وتفريغ شحناتهم الانفعالية وطاقاتهم الجسمية،
5 ألا يكون المجتمع قد أخذ بالأسس العلمية في تفسيره للسلوك الإجرامي، كأن يكون ما زال ينظر إلى الجاني على أنه المسؤول الوحيد عن جرمه، ولا دخل للمجتمع ومؤسساته في خلق الظروف التي أدت به إلى السلوك الإجرامي، فيسيء معاملته أثناء العقاب وبعده،
6 ألا يكون المجتمع قد أخذ بالأسس العلمية في تحديد أهداف العقاب، كأن يكون ما زال ينظر إلى العقاب بوصفه إجراءً يهدف إلى الانتقام البدني والنفسي من الجاني، وينعكس ذلك على أسلوب ممارسات بعض العاملين في السلة التنفيذية أثناء تعاملهم مع السجناء،
7 عدم تقبل المجتمع للمفرج عنهم ومبالغته في وصمهم بالانحراف عن خلفية تفسيره الخاطئ للسلوك الإجرامي وأهداف العقاب،
8 عدم وجود برامج للرعاية اللاحقة والخدمة الاجتماعية تقدم العون اللازم والمشورة المهنية للمفرج عنهم، حتى يتكيفوا مع مجتمعهم،
ومما يلحق الضرر بالسياسة الجنائية أيضا أن تكون ممارسة المؤسسات الاجتماعية الرسمية والأهلية لجهود مكافحة الجريمة والوقاية منها وتنفيذ برامج الإصلاح وإعادة التأهيل، ممارسة آلية دون اطلاع ووعي تام بأن تلك الجهود تقوم على أسس ثلاثة، ويصبح الأمر كارثة عندما لا تأخذ كل أو إحدى السلطات الثلاث بهذه الأسس مجتمعة، ولا تنطلق في أداء واجباتها على هدي من وعي صحيح بهذه الأسس، أو يعتقد أحد من المؤثرين في السلطات الثلاث أنه يؤدي واجبه بمبادرة شخصية تطوعية، أو يتجرأ على الاجتهاد خارج هذه الأسس، وهي:
1 الأساس العلمي الذي يفسر أسباب السلوك الإجرامي، ويحدد العوامل الأكثر شيوعا في المجتمع ومدى انتشار الجريمة، وعلى ضوء ذلك تصاغ السياسة الوقائية للدفاع عن المجتمع،
2 الأساس التنظيمي «التشريعي» الذي بواسطته يتم تكييف الأفعال، وبواسطته أيضا يتم التفريق بين المخالفات والجرائم،
3 الأساس الاجتماعي والثقافي من دين، وعادات، وتقاليد، والتي تفرض على الأفراد احترامها وعدم التعدي عليها، وتعطي المجتمع والسلطات المعنية الحق في الدفاع عنها،
وعلى سبيل المثال نجد أن الأساس العلمي قد أفاد في تحديد نسبة معينة من الجرائم إلى عدد السكان «من 2% إلى 3%» فإذا تجاوزت الجرائم السقف الأعلى لهذه النسبة قيل بأن المجتمع خرج عن حدوده الطبيعية وأصبح موبوءا بالجريمة، وبواسطة الأساس العلمي أيضا يمكن للمتخصصين معرفة ما إذا كان سبب الارتفاع هذا راجعاً إلى عدم كفاية برامج الوقاية من الجريمة، ومعرفة ما إذا كان عدم الكفاية هذا في حالة ثبوته يعود إلى سرعة التطور والتغير الاجتماعي، أم أنه يعود إلى قصور معرفي لدى المتخصصين في رسم خطط التنمية بأهمية هذا الجانب فلم يضمِّنوا خططهم ما يكفي من تلك البرامج، ولم يدركوا ضرورة التوازن بين التطور المادي والتطور المجرد أو المعنوي المتمثل في الرموز والمعاني والأفكار والقيم والمعارف والمعايير، فصرفوا جل اهتمامهم إلى التنمية المادية ووجهوا الموارد والطاقات لخدمة هذا الغرض، الأمر الذي أدى إلى طغيان الجانب المادي على الجانب المعنوي،
وعندما يطغى الجانب المادي من التنمية تغدو الماديات هدفاً أسمى في الحياة يُجد في السعي إليه على حساب الجانب المعرفي والإنساني والفكري بعامة، وتصبح الماديات هي المعيار الذي يقيّم الإنسان على أساسه، ويعجز قسم كبير من المجتمع الجناة فيما بعد عن ملاحقة الإيقاع السريع للتطور ومجاراة بقية أفراد المجتمع الموسرين، ويكون ذلك إيذانا بظهور أنواع خطيرة من التفكك الاجتماعي والثقافات الفرعية، وكل ذلك يعمل على اضطراب التفكير لدى بعض الأفراد وتدني مستوى شعورهم بالانتماء للمجتمع، وشيئا فشيئا حتى تتكون لديهم مشاعر الحقد على مجتمعهم، ثم ينفصل البناء الثقافي لديهم «المعايير والأهداف» عن البناء الاجتماعي لمجتمعهم «أنماط العلاقات وطرق الوصول إلى الأهداف» ويصبح مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» من أهم قناعاتهم،
وقد يحدث رغم ما يظهر على المجتمع من تطور فكري أن يصرَّ بعض الأكاديميين والمتخصصين في القضاء وكثير من المتخصصين في المجالات الأمنية يصرُّون على أن مصطلح الوقاية من الجريمة يعني وسائل الضبط الاجتماعي، الرسمي منها والأهلي، قبل حدوث الفعل الإجرامي، أما الإجراءات المتخذة بحق الجناة بعد وقوع الفعل الإجرامي فهي إجراءات عقابية لا يتعدى هدفها زجر الجاني وردع غيره، في حين أن الوقاية من الجريمة في مفهومها الصحيح إطار عام للدفاع الاجتماعي والتصدي للجريمة، يشمل الإجراءات الوقائية القبلية «ما قبل الفعل الإجرامي» والإجراءات الوقائية البعدية «ما بعد الفعل الإجرامي» والإصلاح وإعادة التأهيل واحد من الإجراءات الوقائية البعدية، وحتى هذا الإجراء الوقائي البعدي يتحول من منظور مهني إلى إجراء وقائي قبلي عندما يكون الهدف منه الوقاية من جرائم العود، وهذا المفهوم الصحيح للوقاية من الجريمة يساعد على فهم حقيقة أن العقوبة ليست غاية في حد ذاتها،
ومما يسترعي الانتباه ويستأهل التأكيد عليه أن جهود الوقاية من الجريمة تعطي أفضل النتائج عندما تبنى وتنفذ على ثلاثة أبعاد هي: البعد الوقائي، والبعد العلاجي، والبعد الإنمائي،
وليست هذه الأبعاد مسؤولية مؤسسات عرف عنها ارتباطها الوثيق بالمجالات الجنائية فحسب، بل هي مسؤولية جميع الأفراد والمؤسسات الرسمية والأهلية في ترابط وتكامل تام، ولكي أبرهن على ذلك أضرب مثلا بمؤسسات قد يعتقد البعض أنها غير معنية بالجريمة بصورة مباشرة، وهي في حقيقة الأمر تستطيع الإسهام في مكافحة الجريمة والوقاية منها والتصدي لأسبابها وعواملها عبر هذه الأبعاد الثلاثة، وهي مؤسسات التعليم العام والتعليم الجامعي،
ففي البعد الوقائي تستطيع المؤسسات التعليمية حماية طلابها من الوقوع في براثن الجريمة، وذلك من خلال استيعاب من هم في سن الدراسة من أطفال وأفراد المجتمع، وتوفير المنهج الدراسي الملائم لمستوياتهم العقلية وميولهم والملبي لحاجاتهم والمرتبط ببيئتهم، وتزويدهم بالمعلومات والبيانات التي تبصرهم بمخاطر ومضار بعض الأفعال والسلوكيات، وتوفير خدمات الإرشاد النفسي والتوجيه التربوي والمهني والاجتماعي لمساعدتهم على مواجهة مشكلاتهم والتغلب عليها، وتهيئة فرص النجاح أمامهم، وتوفير القدوة الصالحة لهم،
وفي البعد العلاجي تعمل المؤسسات التعليمية على معالجة طلابها الجانحين أو من هم على وشك الانحراف، من خلال الاكتشاف المبكر لمشكلاتهم السلوكية وتحليل الأسباب التي أدت إلى تلك المشكلات ومساعدتهم على التكيف مع الوسط الذي يعيشون فيه، وإحالة من يحتاج منهم علاجا متخصصا إلى المؤسسات العلاجية مثل العيادات النفسية وعيادات ومستشفيات معالجة مدمني المخدرات، أو مؤسسات إيواء وتقويم الأحداث الجانحين والمعرضين لخطر الانحراف مثل دار الملاحظة الاجتماعية ودار التوجيه الاجتماعي،
وفي البعد الإنمائي يتوقع من المؤسسات التعليمية أن تتصيد مواطن وأوجه الاستقامة لدى طلابها فتنميها، وتنمي لديهم الاتجاهات السلبية تجاه الرذيلة والانحراف وأفعال الشر والضرر الخاص والعام، وتقدم لمن معرض منهم لعقوبة أو تقويم أو علاج من مشكلة سلوكية ما يحتاجون إليه من الخدمات في فترة النقاهة والمتابعة أو ما يسمى فترة الرعاية اللاحقة،
وهذه الأبعاد الثلاثة لمكافحة الجريمة مترابطة ترابطا قوياً ومتداخلة فيما بينها أيا كانت المؤسسة التي تقدمها، فالمقصود بالبعد الوقائي في هذا الصدد منع الجريمة قبل وقوعها، ويقصد بالبعد العلاجي منع الجريمة من الوقوع مرة أخرى بعد سبق وقوعها «جرائم العود» ويقصد بالبعد الإنمائي استغلال ما لدى الفرد من عوامل ومكونات إيجابية والعمل على إنمائها لتقوية دفاعاته ضد عوامل السلوك الإجرامي وتبصيره بعواقب الأمور، وبالتالي فإن البعد الوقائي ينطوي على العلاج والإنماء، وكل بعد من هذه الأبعاد الثلاثة ينطوي، بالضرورة، على البعدين الآخرين، كما أن هذه الأبعاد تتبادل التأثير في كل الأحوال،
إنه مهما تعددت المنطلقات، ومهما اختلفت الآراء حول الأولويات في مجال مكافحة الجريمة والوقاية منها فإن التنمية الشاملة تظل الجانب الأكثر اتفاقا على أهميته في هذا المجال بين الباحثين والعلماء في مختلف التخصصات، فتنمية المجتمع تنمية شاملة، وتزويد أفراده بالمعارف التربوية والثقافية التي تعلي من قيمهم وترتقي بها، لا تؤدي فحسب إلى بناء أفضل وقاية له من عوامل السلوك الإجرامي، وإنما تؤدي أيضا إلى تحسين علاقته بنظمه الرسمية والأهلية، وتعمل على تقنين معاملته مع غيره من المجتمعات، وتبصير أفراده بحدود قدراتهم، ومعرفتهم لما هو بحاجة إليه من قدرات وإمكانات تجعلهم قادرين على الرفض أو القبول تبعا لمصلحتهم عندما تعرض عليهم المجتمعات الأخرى التعاون، أو تطلب منهم الالتزام بالاتفاقيات الإقليمية والدولية، وتؤدي أيضا إلى تمكينهم من التعامل بكفاءة مع الأحداث، وزيادة ولائهم لمجتمعهم ونظمه في مواجهة القوى المهيمنة والانعكاسات المتبادلة بين الأحداث والمتغيرات، تلك القوى والانعكاسات التي لها القدرة على التأثير في حياة المجتمع الاقتصادية والسياسية والثقافية والتشريعية وحتى الدينية في غياب التنمية الشاملة والمعارف والأفكار الصحيحة، وبخاصة أن هناك مؤشرات على أن تلك القوى والانعكاسات تؤسس لمرحلة جديدة بدأت تتشكل فعلا، ظاهرها الحرص على تطبيق المبادئ الأساسية للمحافظة على كرامة الإنسان وآدميته، واحترام حقوقه المدنية والجنائية، والقضاء على العوائق التي تقف في وجه تحقيق تجانس ثقافي بين المجتمعات للحيلولة دون اندلاع صراع بين الحضارات تزداد بسببه الأحقاد وأعمال العنف والإرهاب وتشتعل لأجله الحروب، وباطنها: تعميم ثقافة وحضارة يرى الأقوياء أنها الثقافة والحضارة الإنسانية الأفضل،
وليس هناك من شك في أن أفراد المجتمع سيتذكرون عند الشدائد إن كانت نظم مجتمعهم الرسمية والأهلية قد قدمت لهم الرعاية الكافية والتنمية الشاملة والعدالة المنشودة فيتفانون في الدفاع عن مجتمعهم ووطنهم، أم ان هناك من استأثر بهذه الرعاية فيكلونهم إلى مواجهة أطماع القوى المهيمنة وانعكاسات الأحداث بمفردهم، لأن الرعاية الكافية والتنمية الشاملة والنظم الرسمية والأهلية العادلة في هذا العصر هي ما يعطي للوطنية معناها، ومن فقدها فلا وطن له، ولا شيء بعدها يستحق أن تبذل من أجله الروح،
وليس هناك من شك أيضا في أن السجناء السابقين، وبخاصة الشباب منهم، لن يشاركوا بإخلاص في الدفاع عن مجتمع يعتقدون أنه ظلمهم أو أهملهم، ويزيد في خطورة الأثر الناتج عن غياب عدد كبير من السجناء عن مجتمعهم أثناء سجنهم، أو نقص ولائهم لنظم مجتمعهم وإخلاصهم في الدفاع عنه بعد الإفراج عنهم أن يكون عدد سكان المجتمع قليلا، الأمر الذي يخلف فراغا وشرخا عميقا في بناء المجتمع يضعف من قدرته على ملاحقة عجلة التطور من حوله، ويجعله عاجزاً عن مواجهة الأخطار إذا ما أحدقت به،
للتواصل الفكري: ص ب 10810
الرمز البريدي 61321 أبها
|
|
|
|
|