| الثقافية
يتململ «حمدان» ورنين الهاتف ينخر أذنيه.. يضع الوسادة حتى يتقى ضجيج الرنين الا ان الجهاز ظل يعاند الهدوء.. يرفع السماعة بعد ان اصصدمت يده بحافة السرير.. النوم يرقد بين ملامح وجهه وصوته.. ألو.. ألو.. ألو!! يعيد السماعة مصحوبة بقليل من التنهدات وذرات الضجر لم يعتد «حمدان» على الازعاج في النهار فكيف بمنتصف الليل!
يستلقي على السرير في محاولة لاستعادة النوم.. يغطي وجهه بالوسادة المحشية بوبر الاغنام! الا ان النوم حزم أمتعته للرحيل على أمل العودة. يحاول ترويض نفسه ويفكر.. من المتصل؟ أيعقل ان يكون...؟ يسترخي الجسد المرهق، ويعاود «حمدان» الحنين وهو يتذكر عبق ماضيه.. قبل تلك النظرة.
يلوح امام عينيه شريط الذكريات.. حرصه على الانضباط في نسق حياة يميزه عن غيره من الشباب كان يتألم عندما يسمع من صبية وشباب الحارة بعض الكلمات الجارحة.. الشايب، الموسوس، أبو كرتونة «نسبة الى ان حياة جديدة لم تستعمل بعد».. يتذكر نومه مبكراً والاخلاص في العمل هدوءه في التعامل.. صراحته وكيف ان الحقد والضغينة منزوعان من تصرفاته.
اختلف الأمر تماما بعد ظهر ذلك اليوم الرمادي.. لحظة عودته من العمل.. حين وجد «حنان» في منتصف الشارع امام منزلهم.. اشارت الى بيت جيرانهم، لم يتوقع «حمدان» ان للجيران طفلة صغيرة فرب البيت كبير في السن، قادها الى باب البيت المفتوح بزاوية ضيقة.. دفعها للدخول وهو يربت على كتفها محذرها بلطف من الخروج ..رفع رأسه الى الباب لتسقط عيناه على فتاة بياض وجهها كقطعة من الثلج ممزوجة بحمرة المغيب!
عاد للبيت متعثرة خطاه.. قد شاهد بدراً يطل من خلف الباب.. لم يصدق عيناه.. أصيب بالهوس من جمال يكتنزه ذلك البيت.. بيت الجيران .. شعرها الاسود القاتم كشلال من خيوط الحرير صفت بعناية تنسدل برقة على الكتفين .. عينان تغطيهما رموش تلقي بظلالها على وجنتين ناعمتين كبشرة رضيع.. حاول النوم تلك الليلة فلم يستطع.
كيف تجاورنا طيلة هذه السنين ولا اعلم بها؟ اين كنت؟
ظل «حمدان» ينظر عبر نافذته لذلك البيت.. يحاول ان يكتشفه للمرة الاولى.. لم يحدق النظر به قبل ذلك أبداً مثل هذه المرة.. ينظر للباب الخارجي البني الذي ظهرت عليه آثار عبث الاطفال يدقق النظر ويحدث نفسه..
كم مرة لمست هذا الباب؟ وكم هو سعيد بها؟ ياليتني كنت بابا لبيتهم! أو إناء تشرب فيه!
تتبع «حمدان» اخبار «شيماء» عن طريق اخته التي اخبرته باسمها وانها تدرس في الجامعة بالسنة الاخيرة تخصص الاحياء.. ينظر للبيت عند خروجه للعمل وذهابه للمسجد بل اصبح يخرج بكثرة لعل الصدف تجره الى مشاهدتها.. مع انطفائه شمس ذلك النهار غاصت عيناه في عينيها دون ان يتكلم وقد تجمد في وقفته بذاك المحل القريب.. احس لحظتها بحمى شعور مجهول لم يعرفه من قبل يسري بينهما عبر خطوط خفية.. تتراقص جوانحه على نغمات تدق طبول الجنون يحس بالحمى تنتقل بينهما عبر نبضات وردية وهمسات سحرية معطرة بقطرات تفوح بالعشق.. تتحدث لغة قلوب كلماتها من خارج كل القواميس!
انتشى فرحا يوم علم ان غرفتها تطل على الشارع عندما شاهدها بعد ما لفحته شمس الهوى واحرقه لهيب العشق وصار كل يوم جديد يزيد من انصهاره فيها.. كانت تتجرد من الحلي والاساور اللماعة عن ذراع كلؤلؤة تضفي على المحارة رونقها .. بدت له حورية برية تطارد فرشات ملونة في ربيع لا يحده حد. طارده احساس غريب اخذ يلتهم مشاعره فانكب على كتابة الشعر والخواطر وكان أكره ما يكره ان يسمع الشعر قبل تلك النظرة التي اورثته الهوى.. اصبح يتألم عندما يسمع اغنية تتعلق بلوعة المحب وعذابه.. وكان يردد قبل منامه ودموع رقيقة عصية على النزول تلمع في عيونه:
أنت الذي حطيت بالقلب رمحين
رمح العيون ورمح وردي شفاتك |
وما ان يسكن اليه النوم حتى يبدأ مسلسل احلامه تضفي عليه البهجة والامل فيتمنى ان تستمر الاحلام حتى تصبح حياة.. يعصر الذاكرة فتستحضر أول رسالة بعث بها (لشيماء) عبر «حنان» كتب فيها عبارات تلين لها الجبال وتدمع منها البحار وتذوب فيها النار وبعد ان أيقن ان الرسالة وصلت تأخر الرد كثيراً رغم كتابته لرقم هاتفه الخاص وكم تمنى ان يجد رداً على الرسالة مع «حنان» أثناء عودته من العمل.. الا ان المجهول بدأ يطوق عنقه والصمت ينهش دهاليز جوفه وهو يتحرق شوقاً ان يعلم ما تكن له؟ أهو الود والوفاء أم الصد والجفاء؟
أخذ يغني بصوت عال استغربته والدته وهو ينشد:
أرسلتك يا عزوتي كم مرسول
وابطى جوابك يا حبيبي عليه |
* * * *
يستيقظ «حمدان» على ضربات زوجته «شيماء» وكلمات من العتب الحار لتأخره عن العمل وتوصيل طفلتيه «نوف وشوق» للمدرسة!
|
|
|
|
|