| في ذكرى البيعة
اعتمد منهج خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حفظه الله في الحياة والحكم على الاسلام في كل صغيرة وكبيرة انطلاقا من المبدأ الرباني الذي ينص على قوله تعالى:{ما فرطنا في الكتاب من شيء} وقوله تعالى:(وكل شيء أحصيناه كتابا). وكان ينطلق من ان العقيدة الاسلامية إذا ما جعلناها محور حياتنا رسخ الايمان في قلوبنا، وانقادت لنا الدنيا طائعة. المهم ان نتمسك بالثوابت ونعمل بها، ونبتعد عن الشبهات والمبطلات والبدع، فما أكثر أعداء الاسلام الذين يتربصون به في الداخل والخارج، وما أكثر الذين يحاربون هذا الدين جهلا به وما أكثر الذين يحاربونه أيضا علما به. كان الفهد يردد: «رجائي ان تكون القاعدة التي ننطلق منها هي القاعدة الاسلامية ليس هناك في الاسلام لا تعصب ولا تساهل بل الرحمة والعطف والقوة التي هي مبنية على أسس ولا يمكن ان نجعل المسلم متوازنا إلا إذا اتخذ بما كان عليه السلف الصالح من قواعد وأسس والحمد لله وهذا واضح لنا، وبلدكم قائدة للعقيدة الاسلامية».
بهذا ينفي خادم الحرمين الشريفين عن الاسلام كل الصفات السلبية التي يحاول الملحدون ودعاة الشر الصاقها بالدين الحنيف. فالاسلام دين الوسط لا يدعو الى التعصب والتصورات الضيقة التي تختزل الانسان في جانب دون آخر من جوانب كينونته، كما انه ليس دين تساهل وتسيب، لأن هاتين الصفتين لن ينجم عنهما سوى الفساد والفتنة واختلال الكيان الاجتماعي ككل.
قوة وإيمان
وانطلق الملك فهد بن عبدالعزيز يخدم الاسلام في الداخل والخارج منذ يوم مبايعته ملكا على البلاد في 21/8/1402ه بعزيمة وقوة وايمان يخاطب الشباب مستقبل الأمة ويخاطب كل فئات الشعب كل فيما يخص رسالته في الحياة، اقترب من الجميع بتواضع وتحسس آلام شعبه وأمته وهمومها، وكان يحذر كلما حانت الفرصة من غدر أعداء هذه الأمة ومن كيدهم ويؤكد انهم بكل ما يفعلون من تجنيد مستمر لكل ما يقدرون عليه يريدون افساد عقيدتنا، وابعادنا عن ديننا بالغزو الثقافي تارة، وتحت ستار الشعارات البراقة تارة أخرى، وتحت دعوى الدراسات والاستشراق تارة ثالثة، يقول المليك المفدى:
«ندرك تماما ان أعداء العقيدة الاسلامية ليسوا بقليل بل أقوياء ويعتقدون ان الالتفاف الاسلامي انه ربما يؤثر عليهم أو تكون قوة أخرى منافسة نحن لا يهمنا الأمر كمسلمين لأننا مؤمنون بعقيدتنا وفي الوقت نفسه مدركون كذلك انه لا مفر من احترام العقيدة الاسلامية والأمة العربية هي منطلق العقيدة الاسلامية وهذه البلاد بالذات أكرمها رب العزة والجلال وأخرج منها محمداً صلوات الله وسلامه عليه وأبان للأمة الطريق سواء كانت الأمة العربية أو غير العربية كافحت في سبيل العقيدة كفاحا مريرا حتى وصلت هذه العقيدة الى أرقى المستويات».
انها غيرته على الدين وحرصه على نقاء العقيدة، والتحذير من مكائد الكائدين وعبث الجاهلين، انه شعور عميق بثقل المسؤولية وعظمة الأمانة التي تحملها المملكة العربية السعودية وارثة أرض النبوة ومهبط ومنطلق الدعوة. وما أكثر ما كان الفهد يردد قوله تعالى في معرض استشعاره بعظمة الأمانة:(إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين ان يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان).
ومن هذا المنطلق كان خادم الحرمين الشريفين يرى رسالة المملكة العربية السعودية نحو شقيقاتها الدول العربية واخواتها الدول الاسلامية، رسالة تتميز عن رسالة أي دولة أخرى، رسالة تفرض عليها ان تسخر كل طاقاتها وامكاناتها لخدمة الاسلام والمسلمين، فإن كانت على عامة المسلمين فرض كفاية فإنه يراها على المملكة العربية السعودية فرض عين.
رسالة المملكة
وفي كل خطبة من خطبه أو لقاء من لقاءاته مع الكبار والصغار ورجال الدول والرعية، ومع الشباب والشيوخ وفي الندوات الداخلية والمناسبات الوطنية وفي المؤتمرات والمحافل الدولية يؤكد ويؤكد على رسالة المملكة العربية السعودية نحو العقيدة الاسلامية ونحو الأمة الاسلامية بلا كلل أو ملل، بل هو قول المؤمن الصادق الراسخ الايمان بأهدافه السامية التي يعيش من أجلها:
«إن أهداف المملكة العربية السعودية هي العمل على ارساء دعائم شريعة الله، والعمل بها في جميع شؤونها ثم استخدام جميع الموارد التي حبانا الله بها، وبذل كل مجهود في سبيل تحقيق التنمية الشاملة، ورفع مستوى المعيشة لتمكين المواطن في جميع أرجاء البلاء من العيش برخاء وطمأنينة، وقد مكن الله عزوجل هذه البلاد من تحقيق أكثر الأمور، وسوف نشاهد أمامنا المزيد بفضل الله وقوته ثم بفضل التعاون وسعي جميع المواطنين على اختلاف أعمالهم ومناطقهم في سبيل تحقيق هذه الأهداف».
وقد حذر خادم الحرمين الشريفين من الفتن الداخلية، ومن أصحاب العقائد ا لمنحرفة، ومن الجهلة الذين يسيئون للدين في الداخل والخارج، والذين يريدون تصدير أباطيلهم الى المملكة وطن العقيدة النقية.
ويعتبر خادم الحرمين الشريفين بعض الظواهر السلبية التي يحاول خصوم الاسلام الصاقها به، مشاكل خارجية لا تمت الى روح الاسلام بصلة أو قرابة بل هي فتن يراد تصديرها الى بلاد الاسلام بقصد خلق البلبلة والفوضى وبالتالي اضعاف الأمة الاسلامية وشغلها عن واجبها الاسلامي ومهامها التاريخية في النهوض بمستواها ونشر أفكار الخير والفضيلة عبر ربوع المعمورة.
ويدعو خادم الحرمين الشريفين الى مقاومة كل البدع والظواهر الهادفة الى تشويه صورة الاسلام، على الرغم من ايمان خادم الحرمين الشريفين بأن كل محاولات الخصوم وقوى الشر والالحاد والفتنة سيكون مصيرها الفشل الذريع، لأن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ الشريعة الاسلامية الخالدة من كل شر وأذى ومن كل تزييف وتحريف.
الخاطر العظيم
وكان من ثمار هذا الاهتمام بحمل همم وهموم شعبه وأمته ان باح لحكومته وشعبه بالخاطر الذي كان يراوده ويلح عليه ليجسد به حقيقة ما يعمل لخدمة الاسلام والمسلمين ويؤكد تواضعه لله سبحانه وتعالى. فأعلن في كلمته التاريخية الشجاعة التي القاها في حفل افتتاح مركز تلفزيون المدينة المنورة مساء الاثنين 24/2/1407ه الموافق 17/11/1986م:
«بسم الله الرحمن الرحيم. يطيب لي أن أعلن لكم اليوم من مدينة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام عن رغبة ملحة تخامرني منذ شاء الله ان أتسلم زمام الحكم في وطني العزيز باستبدال مسمى صاحب الجلالة بلقب أحبه ويشرفني أن أحمله هو خادم الحرمين الشريفين وسوف يعمد هذا رسميا منذ الآن في الخطاب وفي الكتاب وسوف تصدر من الديوان الايضاحات اللازمة لاستخدام الصيغة الجديدة».
في 29 صفر 1407ه صدر توجيه ملكي كريم من الملك فهد بن عبدالعزيز الى سمو ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني يطلب احلال عبارة «خادم الحرمين الشريفين محل عبارة صاحب الجلالة في كل المخاطبات والمكاتبات وان يمنع استعمال كلمة مولاي أو كلمة المعظم أو أي عبارة أخرى تدل على التبجيل والتعظيم» وبهذا يكون قد جعل كلمته مطابقة لعمله، وعمله مطابقا لكلمته، واتخذ اسما على مسمى، وكما نجح في خدمة وطنه وشعبه نجح في قيادة مسيرة المملكة التنموية والحضارية نجاحا باهرا، فقد أحرز المزيد من الاهتمام والتقدير والاحترام على الصعيد العربي والاسلامي والدولي، حتى غدت المملكة تحظى بمنزلة رفيعة ومركز مرموق بين دول العالم على كافة الأصعدة.
وزارة الدعوة
فعلى الصعيد المحلي أنشأ خادم الحرمين الشريفين وزارة الشؤون الاسلامية لتعنى بتحقيق أهدافه في خدمة الاسلام والمسلمين حيث انشئت هذه الوزارة لمعالجة ما يتصل بالشؤون الاسلامية والدعوة ومؤسساتها المتنوعة، وكلها تصب في عمق الدعوة ونصرة الاسلام وخدمة المسلمين في كل بقعة من بقاع العالم، وتعميق دراسة القرآن الكريم، ليفهمه الشباب والناشئة من أبناء المسلمين فهي تتولى الاشراف على مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة، علما بأن المجمع يقوم بطبع القرآن الكريم وقد قام حتى الآن بطباعة مائة وعشرين مليون نسخة من المصحف الشريف، وترجمة معانيه الى ثلاثين لغة مختلفة، ووزعت على المساجد ومراكز الدعوة والأفراد، خارج المملكة وداخلها، والى حجاج بيت الله الحرام، كما قام المجمع بتسجيل القرآن الكريم كاملا بأصوات العديد من القراء المجودين، ويتم توزيع هذه التسجيلات خارج البلاد وداخلها، وقام المجمع بطباعة كثير من الكتب الاسلامية التي تفيد كل مسلم وهو بصدد طباعة تفسير القرآن.
وفي مجال الدعوة تتبع الوزارة ادارتان نشيطتان، وهما ادارة داخلية وأخرى خارجية، وهاتان تتوليان الاشراف، ويبلغ عدد المكاتب التابعة لها ثلاثين مكتبا خارج البلاد وأكثر من الفي داعية موزعين على أكثر من تسعين دولة في العالم، وبالاضافة الى فروع الوزارة الثلاثة عشر في الداخل هناك قرابة مائة مكتب تختص بدعوة الجاليات وارشادها وتوعيتها، كما ان الوزارة تقيم اللقاءات للدعاة في خارج المملكة، وتقوم بايفاد الدعاة الى عدد من الدول للتوعية والارشاد في المواسم المختلفة، كما انها تهتم ببناء المساجد، وقد بلغ عدد المساجد خمسين ألف مسجد، وتقوم الوزارة بالعناية بهذه المساجد والمحافظة عليها، وساهمت ببناء كثير من المساجد في العالم الاسلامي إذ بلغ عددها ألفا وثلاثمائة وتسعة وخمسين مسجدا، بالاضافة الى مائتين وعشرة مراكز اسلامية، وتشرف الوزارة على جمعيات تحفيظ القرآن، حيث تحتضن الوزارة المجلس الأعلى للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم، التي يبلغ عدد حلقاتها 8990 حلقة وفصلا يدرس فيها 219780 دارسا ودارسة، وقد اتم حفظ القرآن الكريم منهم 2630 دارسا، وتنتشر هذه الحلقات في الجوامع والمساجد في مناطق المملكة، المختلفة وفي بعض السجون، كما تقوم بطبع الكتب والرسائل النافعة بمختلف اللغات ونشرها ابتغاء وجه الله تعالى داخل المملكة وخارجها.
وفي مجال الشؤون الاسلامية: تتولى الوزارة الاشراف على شؤون الجمعيات والمراكز والأقليات، والجاليات الاسلامية في الخارج ولإقامة دورات العلوم الشرعية واللغة العربية لأبناء المسلمين، كما تقوم الوزارة من خلال الوكالة المختصة برعاية الأوقاف وصيانتها والحفاظ عليها وتنمية غلالها واستثمارها والتشجيع عليها وقد افتتح في عهد خادم الحرمين الشريفين عدد من المشروعات الوقفية في المدينة المنورة مثل وقف البوصة والنشير الذي افتتحه صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد، ونائب رئيس مجلس الوزراء، ورئيس الحرس الوطني، وبلغت تكلفته مائتي مليون ريال وكذلك وقف الداودية الذي افتتحه صاحب السمو الملكي الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز أمير المدينة المنورة وبلغت كلفته أكثر من مائة مليون ريال وتشرف الوكالة على مكتبات المساجد والمكتبات الوقفية مثل مكتبة الملك عبدالعزيز رحمه الله وتشرف على مكتبة مكة المكرمة ومكتبة الشيخ عارف حكمت ومكتبة الطائف وغيرها من المكتبات العامة الموقوفة وتحتضن الوزارة مجلس الأوقاف الأعلى الذي يشرف على مجالس الأوقاف الفرعية في مناطق المملكة المختلفة التي أنشئت للحفاظ على الأوقاف ورعايتها ويقوم مركز البحوث والدراسات الاسلامية التابع للوزارة بإعداد الدراسات والبحوث التي تعزز وتساند أعمال أجهزتها المختلفة وقد صدر عنه العديد من البحوث النافعة والمفيدة.
مجلس التعاون الخليجي
فعلى الصعيد الخليجي، يقول خادم الحرمين الشريفين:«لقد وفقنا الله ان ننشىء مع أشقائنا في الخليج داخل دائرة الجامعة العربية، دائرة قوية فعالة هي مجلس التعاون لدول الخليج العربية ليكون نموذجا لما يجب ان يكون عليه مستوى التعاون بين الأشقاء العرب، وليصبح دعامة تقوي من جامعة الدول العربية ودرعا للعرب يصد الأذى ويعمق الأواصر».
وقد شكل مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي برز للوجود في عام 1981م والذي يضم «المملكة العربية السعودية، دولة الامارات العربية المتحدة، قطر، الكويت، سلطنة عمان، ودولة البحرين» اضافة حقيقية لمساعي المملكة العربية السعودية نحو الوحدة والتضامن، وتعزيز العمل العربي المشترك، وحشد طاقات الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية في هذه المنطقة والانطلاق بها نحو الوحدة العربية الشاملة.
وذلك ايمانا من المملكة بالمصير المشترك للأمة العربية وبالترابط الذي لا ينفصم بين شعوبها، وادراكا منها بأن حماية المقومات العربية، والحفاظ على المصالح الحيوية للأمة، ومواجهة تحديات المستقبل لا تتحقق إلا في ظل تضامن عربي فعال مبني على أساس العقيدة الاسلامية والشرعية العربية.
فالمجلس جاء انشاؤه متمشيا ومنسجما مع مواثيق جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الاسلامي وقراراتها، وكذلك متمشيا مع مبادىء حركة عدم الانحياز، وميثاق الأمم المتحدة، فمجلس التعاون لم يأت على حساب تلك المنظمات الاقليمية والدولية، بل جاء ليدعم أهدافها، وفوق ذلك لتجسيد الروابط العميقة التي تربط بين شعوب هذه الدول، وليجعل من التعاون والتنسيق بين هذه الدول منطلقا أساسيا نحو تحقيق أهداف شعوبها في النهضة والوحدة والرخاء والأمن والاستقرار، فالعوامل التي تربط بين هذه الدول عوامل راسخة تضرب بجذورها في أعماق تاريخ المنطقة، فالأصول الدينية والحضارية والثقافية واحدة والامتداد الجغرافي والتاريخي واللغوي واحد، وكل تلك العوامل عززت من الواقع المصيري والآمال والتطلعات المشتركة لشعوب هذه البلدان لتكون في كتلة واحدة، خاصة في ظل ما يشهده العالم من تجمعات وأحلاف وتكتلات سياسية واقتصادية تطمح الى تحقيق أهدافها واستراتيجياتها في الساحة العالمية.
وقد أسهمت المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حفظه الله بدور أساسي في قيام هذا الكيان وتعميق أهدافه ونجاحها، فقد حرص حفظه الله على سلامة مسيرة المجلس ومتابعة خطواته والحث على تعميق روابط العلاقة بين دوله. وقد أمر خادم الحرمين الشريفين بتشييد المقر الدائم للمجلس في الرياض بكلفة قدرها 272 مليون ريال. وقد ساهمت المملكة في هذا الاطار بحل كافة النزاعات الحدودية بين الأعضاء قدر المستطاع، ووصلت بمكانة خادم الحرمين القيادية في نفوس الجميع الى نتائج ايجابية لذلك بفضل الله وتوفيقه.
لقد استطاع المجلس ان يحقق بعد تجربة أكثر من عشرين عاما من التعاون والتكامل في المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين أعضائه نموذجا ناجحا للوحدة العربية وهو ما أكده خادم الحرمين الشريفين ذات مرة في حديث أدلى به لمجلة المجالس الكويتية في 15/3/1405ه قال فيه:«ان انشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية جاء تجسيدا صادقا وأمينا لآمالنا الكبيرة في خلق تعاون جماعي يهدف الى تحقيق تطلعات وآمال شعوبنا بالأمن والاستقرار والنماء والرخاء على هذه الرقعة الغالية من وطننا الاسلامي العربي الكبير.. والحقيقة التي لا جدال فيها ان قوة هذا الكيان واستمراره هي في الوقت نفسه مصدر قوة ومنعة للكيان العربي الكبير، وان هذا التلاحم بين أي جزء من أجزاء هذا الوطن لابد أن يكون حاجزا صلبا أمام الأخطار والتحديات في هذه المرحلة المهمة من تاريخ أمتنا العربية والاسلامية».
تحديات المرحلة
وقد أدى مجلس التعاون الخليجي بقيادة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله دورا مميزا في التكامل الأمني بين دوله، فقد سعت المملكة الى وضع استراتيجية أمنية موحدة تكفل التعاون بين مختلف أجهزة الأمن في جميع دول المجلس لتأمين مسيرة الازدهار الحضاري.
ولقد كانت حرب الخليج الأولى بين العراق وايران عام 1980م أول تحد للاتفاقية الأمنية ومدى فاعليتها، وقد تخطت الاتفاقية ذلك الاختبار بتحقيق التنسيق الأمني المنشود بين مسؤولي الأمن في أجهزته الرسمية في الدول الست الأعضاء في مجلس التعاون، ووضعت المملكة كدولة رائدة في مجال الأمن كل تجربتها الطويلة والناجحة في مجال الأمن بين أيدي أشقائها في دول المجلس، مما ساعد على توفير القدرة التعاونية الجماعية لمواجهة أي خطر خارجي يهدد أمن الدول الست أو أمن المنطقة الخليجية الحيوية بالنسبة للاقتصاد العالمي.
وكان الغزو العراقي الغادر لدولة الكويت في أغسطس 1990م التحدي الثاني لمدى قوة وتماسك الوحدة الأمنية لدول المجلس، ولما كان الغزو عسكريا فإن ذلك فرض على دول مجلس التعاون تطوير التعاون الأمني بحيث يرتبط بتعاون عسكري دفاعي يكون في مثل ذلك التحدي الخطير الذي مثله الغزو العراقي، وما صحبه من تهديد مباشر لأمن دول المجلس بل وحتى لوجود واستمرارية كيانها.
وهنا وقفت المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حفظه الله موقفا شجاعا بالتصدي للعدوان العراقي الغادر ودفع الظلم الذي وقع على الكويت، ولقد كان لذلك الموقف السعودي أثره في تنشيط مشاعر الوحدة الوطنية والانسانية للاخوة بين أبناء الأسرة العربية الخليجية الواحدة، فتوحدت الرؤية كما توحدت الارادة السياسية، وبدأ التحرك التعاوني نحو انشاء كيان عسكري دفاعي تحت قيادة موحدة، فكانت «قوة درع الجزيرة» حيث تبرعت المملكة بمبلغ مليار ريال لبناء مقر دائم لقواتها لتكون على أتم استعداد لمواجهة المخاطر والتحديات التي قد تواجهها دول المجلس مستقبلا.
القضايا العربية
وهكذا كان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز يحقق الطموحات ويواجه التحديات على كافة المستويات المحلية والعربية والاسلامية والدولية.
وقد كان لقيادته الحكيمة أثرها على مجلس التعاون الخليجي وعلى تفاعله مع القضايا المستجدة على الساحتين العربية والاسلامية، ومصداقا لذلك كان لخادم الحرمين الشريفين دوره المتميز في معالجة القضايا العربية. فقد زار جميع البلاد العربية أكثرمن مرة وشارك في كثير من الاجتماعات والمؤتمرات العربية، وصار وسيط خير ومحبة وسلام بين الدول العربية، ووقف الى جانب كل شعب عربي في قضاياه، فتاريخ القضية الفلسطينية يحفظ لخادم الحرمين الشريفين خلال أكثر من ربع قرن عملا متصلا للدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في أرضه، وشرح هذه القضية العادلة لقادة زعماء العالم.
وحرصا على استتباب الأمن والاستقرار في المنطقة من غير تفريط في الحقوق العربية المشروعة طرح مبادرته السلمية المعروفة لحل مشكلة الشرق الأوسط، وهي المبادرة التي حملت اسم «مشروع فهد للسلام» والتي تحولت الى قرارات تبناها مؤتمر القمة العربية الثاني عشر الذي عقد في فاس بالمملكة المغربية عام 1982م والتي اطلق عليها «المشروع العربي للسلام» حيث حازت هذه المبادرة على اهتمام كثير من دول العالم فضلا عن الدول العربية، والدول الاسلامية التي تبنتها في مؤتمر القمة الاسلامي الذي عقد في الدار البيضاء.
أما جهود خادم الحرمين الشريفين لحل القضية اللبنانية التي تفاقمت منذ عام 1975م، فقد أثمرت من خلال احتضان المملكة للبنانيين في مؤتمر الوفاق الذي عقد بالطائف عام 1989م والذي أعاد الهدوء الى لبنان وعمل على المصالحة بين اللبنانيين.
وعمل خادم الحرمين الشريفين على تعزيز الدعوة الى التضامن الاسلامي التي تعد من أهم ركائز السياسة السعودية. وقد تبلورت الدعوة الى التضامن الاسلامي في مؤتمرات القمة الاسلامية، ومنظمة المؤتمر الاسلامي، ورابطة العالم الاسلامي وعدد كبير من المؤسسات التي في طليعة أهدافها جمع كلمة المسلمين، واحتضنت المملكة مؤتمر القمة الاسلامي الثالث عام 1981م الذي عقد بجوار بيت الله الحرام بمكة المكرمة وفي الطائف، وكان حدثا تاريخيا مميزا. كما عمل بشكل متواصل على دعم الجمعيات والمراكز الاسلامية انسجاما مع المسؤولية التاريخية التي أخذتها المملكة على عاتقها تجاه الأمة الاسلامية.
وهنا يبين خادم الحرمين الشريفين طبيعة العلاقة بين بلاده وباقي المسلمين، بكونها لا يجب ان تخرج عن جانب الاخوة الاسلامية الحقة، التي تعمل وفق المصلحة المشتركة والتعاون المتبادل الذي تمليه القناعات الراسخة بضرورة تكثيف كل الجهود وتوجيه كل الطاقات والامكانيات لنصرة قضايا الاسلام والمسلمين.
ولا يعتبر العاهل السعودي والقائد العربي المسلم مجال التعاون حكرا على الدول الاسلامية فحسب، بل يمتد التعاون والرعاية الى المسلمين الذين يعيشون في دول غير اسلامية.
وقد بينت الأحداث ان المملكة تبعا لتوجيهات عاهلها، لم تبخل على العديد من الدول غير الاسلامية بالعون والمساعدة في لحظات المحن والكوارث الطبيعية والحروب والمجاعات، مجسدة بذلك ترفع المسلم الحق عن كل النعرات وسعية لفعل الخير، وهذا الأمر هو الذي شرح قلوب العديد من أبناء تلك الدول للايمان، وأعلنوا اسلامهم بعد ان رأوا نبل الاسلام مجسدا في الآيادي البيضاء لخادم الحرمين الشريفين.
مع الأقليات المسلمة
واهتم خادم الحرمين الشريفين بالأقليات المسلمة، وشعر بواجبه نحو كل أرض يعيش بها ولو انسان واحد يشهد ان لا إله إلا الله. ووصلت خدمات المملكة العربية السعودية الى أقاصي الأرض تنفيذا لهذا المبدأ. وظل يدعو باستمرار ان للأقليات المسلمة على بقية المسلمين حقا، ان المسلمين الذين يعيشون ضمن أكثرية غير مسلمة وفي ظل حكومات غير مسلمة لهم علينا أكثر من واجب، وان المملكة العربية السعودية تستشعر هذا الواجب وتؤديه قدر ما تستطيع لكن ما تؤديه المملكة لا يجعل هذا الواجب يسقط عن غيرها من الدول.
وقد عبر حفظه الله في كثير من خطبه وكلماته عن شعوره نحو المسلمين في أقاصي الأرض وعن احساسه بمشكلاتهم وتفقده لأحوالهم، ونحو الواجب الذي يجب ان يتخذ نحوهم لا في أوقات الشدة فحسب بل في أوقات الرخاء، فالمنصرون بالمرصاد ودعاة الأفكار الهدامة واعداء الاسلام في كل الملل والنحل ينتهزون فرصة انشغال المسلمين عن اخوانهم ويريدون اشغال المسلمين بأنفسهم ليتفرغوا لهذه الأقليات. ومن هنا كانت وقفته حفظه الله مع هذا الأمر حين قال:
«تعيش أقليات مسلمة خارج أوطانها وتعاني من أفراد وجماعات وأنظمة تعمل على تجريدها من هويتها الاسلامية وتمنعها من ممارسة أبسط حقوقها الانسانية وتحرص على تذويب خصائصها ومكوناتها الاسلامية وان ذلك أمر خطير يلحق أفدح الضرر وأعظم المخاطر بتلك الأقليات المسلمة الأمر الذي ينبغي معه التنبيه لما يراد بها من تنكيل وهو أبعد ما يكون عن حقوق الانسان التي نادت بها القوانين الدولية وقبل ذلك وبعده أقرها الاسلام في صلب تعاليمه السمحة ولذلك فالأمة الاسلامية مدعوة اليوم الى التضامن والتكاتف مع هذه الأقليات المسلمة لدرء الأخطار المحدقة بها مع أننا على اقتناع بأن بعض الأنظمة استطاعت ان تتفهم أوضاع تلك الأقليات فمنحتها شيئا من حقوقها ونأمل ان تحذو بقية الأنظمة المماثلة حذو أنظمة أدركت ان بنيانها الاجتماعي يستوجب التسامح والاخاء ولا يتطلب التعصب الأعمى».
وتحدث خادم الحرمين عن أسباب ضعف المسلمين، وقوة الاسلام وعدالته التي وصلت الى أقاصي الأرض، وذهبت دولة الاسلام لكن الاسلام باق لم يذهب ولن يذهب الى قيام الساعة.
يقول حفظه الله في هذا الشأن:
«العقيدة الاسلامية آخت بين العالم أجمع ونزلت للبشر أجمع. فمنهم من اتبعها ومنهم من خرج عن نطاقها، ونرى الآن مسلمين في روسيا والصين، ومعنى هذا ان العقيدة الاسلامية راسخة وقوية، ومع ما يعانيه المسلمون في كثير من البلدان لا يزالون محتفظين بعقيدتهم الاسلامية بصرف النظر عن ان الالتزام مبني على قواعد وأسس كلنا يعرف بالنسبة للعقيدة الاسلامية تطورها وبعد ذلك انحسارها الى درجة انه الصق بالعقيدة الاسلامية أمور كثيرة هي بريئة منها تماما ومن قرأ ما كتب في الصحاح وما صحح من قبل أئمة المسلمين أدرك أين وصلت العقيدة الاسلامية وكيف انحدرت.
ولم تنحدر إلا عندما تركها أبناء العقيدة الاسلامية وشدتهم الدنيا بملاهيها وزينتها وعندما انحدرت العقيدة الاسلامية ولله في ذلك حكمة لأن رب العزة والجلال يرى الناس إذا تمسكوا بعقيدتهم نصرهم وأعزهم وإذا أهملوا عقيدتهم ذلهم وخذلهم».
أسباب النصر
ويخلص فكر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز الى ان النصر لن يتحقق إلا بعودة الأمة الى التمسك بالشريعة الاسلامية والعودة الى الأخذ من الأصل والنهل من المنابع، وانه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وان احترام العرب الذين حملوا هذه الرسالة من احترام الرسالة واحترام الاسلام فيقول في يقين راسخ:
«نؤمن ايمانا متكاملا أنه لن يكون نصر الأمة الاسلامية سواء كانت عربية أو غير عربية إلا بالالتفاف حول العقيدةالاسلامية. وندرك تماما ان أعداء العقيدة الاسلامية ليسوا بقليل بل أقوياء ويعتقدون ان الالتفاف الاسلامي ربما يؤثر عليهم أو تكون قوة أخرى منافسة نحن لا يهمنا الأمر كمسلمين لأننا مؤمنون بعقيدتنا ومتمسكون بعقيدتنا، وفي الوقت نفسه مدركون كذلك انه لا مفر من احترام العقيدة الاسلامية والأمة الاسلامية والأمة العربية هي منطلق العقيدة الاسلامية».
ومن هذا المنطلق الاسلامي كانت المملكة العربية السعوديةعضوا فعالا في المجموعة الدولية، فهي من الدول المؤسسة للأمم المتحدة، ومن الدول النشطة في مختلف المؤسسات الدولية المنبثقة عن الأمم المتحدة ولها جهود عالمية بارزة تتناسب مع رسالتها في المجموعة الدولية سياسيا واقتصاديا وفي كل مجال آخر. اضافة الى مركزها الاسلامي المتميز الذي يستقطب اهتمام واحترام أكثر من ألف مليون عربي ومسلم.
ومع التغيرات الدولية كانت مكانة المملكة وما تزال تزداد عمقا ورسوخا، وقد كان للزيارات التي قام بها خادم الحرمين الشريفين لعدد كبير من الدول أثره في توطيد علاقات المملكة بهذه الدول.. وقد كان لخادم الحرمين الشريفين مواقفه المشهودة في التغلب على الأزمات السياسية والاقتصادية، وكانت وقفته التاريخية من قضية أسعار البترول وحجم الانتاج في دول «الأوبيك» موضع تقدير العالم كله. حيث كان دوره الحيوي في علاج هذه القضية عاملا مساعدا على الاستقرار العالمي آخذاً مسألة السلام ومصالح الدول بعين الاعتبار، حتى ان كثيرا من السياسيين في العالم أطلقوا عليه لقب «رجل السلام» لعقد كامل من السنين نظراً لحرصه على معالجة القضايا المتفجرة بكل حكمة وروية من منظور مصلحة العالم والمصلحة الاسلامية والعربية.
وقد شهد عهد خادم الحرمين الشريفين أحداثا كثيرة، استطاع بما اتصف به من الخبرة والحنكة السياسية والكفاءة والحكمة ان يوجه هذه الأحداث الى ما فيه خير المملكة وخير الأمة العربية والاسلامية والعالم أجمع.
|
|
|
|
|