| الثقافية
ما أجمل حقول القمح وهي تتباهى بجمالها لحظة اكتسائها بإشراقة صباح يوم جميل والفرحة تغمرها حين تتخذ سنابلها من أهداب الشمس حراسا لها في صمت حركي وهمس وتناغم وانسجام وتوافق عجيب، لترسم لوحة جمالية على جبين الكون، إنها لوحة إبداعية آسرة لروح الناظر إليها فتخلد في صفحات السجل الجمالي لديه.
فهذا المنظر نشاهده من خلال نافذة غرفة ضيافة مضيفنا الذي دعانا إلى وجبة إفطار وكنا مجموعة أصدقاء، كل منا ينظر إليه حسب حسه الجمالي وشفافية أبعاده الذوقية مبتهلين للخالق المبدع أن يحمي هذه الحقول لسنابلها وأن تظل الشمس في سمائها لا تغيب.
وفي غمرة استمتاعنا بهذه اللوحة الرائعة الأخاذة طلب منا مضيفنا التوجه إلى سفرة الطعام فجلسنا حولها وفوجئت برجل همسه صراخ وابتسامته قهقهة وفلسفته في الحياة يعيش ليأكل يجلس بجانبي! بدأ مدير السفرة يقوم بعمله واضعا أمامي طبق حساء يطفو على سطحه حبات بازلاء، حساء له رائحة زكية، شهي. حاولت أن أتذوقه ولكن تأملي لحبات البازلاء الطافية على سطحه جعلني ما بين شك ويقين بأن وجودهن دلالة على وجود غيرهن، فتبادر إلى ذهني أن أبحث في قاع الإناء فوجدت ضعفهن لتبدأ علامات استفهام وتعجب تترامى ما بين حسية بعدي رأسية الحالتين. وكأني بها تمثل سلبية الإيجابية وإيجابية السلبية عندما تتحول إلى معنوية في واقعنا أحيانا لتصبح نتيجة تفرضها ميلودراما تفاعلنا الحياتي في حاضر ماضينا ومستقبل حاضرنا فتفرز اسقاطات تكون سببا في انكسار القاعدة الاستراتيجية لمفهوم المعقول واللامعقول. وإذا مَنْ همسه صراخ يوجِّه إليّ انتقاداً، لماذا أكلم نفسي؟ فقلت: الزم الصمت فأنت رجل أجوف مثل حبات البازلاء تلك التي تطفو على سطح هذا الحساء، فظهرت علامات عدم الرضا على وجهه. بعدها أشغله منظم السفرة بتغيير الطبق الذي تحت يده لأصرف نظري لما في يدي الأخرى..
عود ثقاب أسنان كنت أحمله والعبرات تهزه ينظر إلى الحائط، ينظر إلى مشط خشبي مستطيل الشكل قديم وضعه مضيفنا من ضمن مقتنيات أثرية فسألت عود الثقاب عن سبب بكائه فأجاب بامتعاض: ألا ترى ابتسامة ذلك المشط؟ إنه يضحك علي وأنا من بني جلدته!
وما إن سمع المشط حوارنا حتى بدأ يهمهم مخاطبا عود الثقاب: كلا يا بني، إن بكاءك بسبب من كنت بيده يتناول حساء فقط فأيقنت بحرمانك من شيء.. فأعتقد أنك في موقف لا تحسد عليه تجلى فيه سر ضعفك الذي يذكرني بمن ينتظر أن يعطى السمكة متجاهلا المثل الذي يقول «أعطني شبكة ولا تعطني سمكة».
هذا المثل الذي حاولت جاهدا أن أتمرد وأتفوق على اعتيادية نصه ومضمونه بأن أصنع الشبكة بجهد ذاتي فأنا المشط من هنا تبدأ معاناتي فتجد ابتسامتي دائمة، فهي الآلية التي تحتمها أيدولوجية البحث عن مكونات الوسيلة حينما أُلامِس صيوان عقل الإنسان ومركز حواسه وآمر ملكاته. فلو كنتَ مكاني وعرفتَ ما يدور بصيوان عقله لبكيتَ ألماً وضحكتَ فرحاً وحزناً حسب قيمه ومبادئه وثقافته وفكره. فأنا لست مثلك دائما أتوج أول اهتماماتي بمثالية الوسيلة لأفوز بسمو الغاية فأستخلص معطيات ما أريد من الأدباء والمفكرين وممن لديهم ثقافات في جميع الاختصاصات، وأحفظ جميع قصائد الشعراء الذين لامست صيوان عقولهم.
وما أن انتهى المشط من كلامه، ألح عليه عود الثقاب أن يلقنه بعض القصائد فسأله ولماذا؟ قال: لأتثقف ثقافة شعرية وأكون شاعراً وأبرز على الساحة. فرد المشط: ان الساحة «لا تحتمل» فاعتقد عود الثقاب أنه من حيث المساحة، فقال: إني «نحيف» فزادت ابتسامة المشط أثناء رده على عود الثقاب: لا لأنك نحيف ولكن لأنك «سخيف» وأمثالك كثير.
عبدالعزيز بن خالد الشدي
|
|
|
|
|