| مقـالات
لئن كانت بعض الشرائع المفروضة على أمم قبل الإسلام، وفرضها الله على أمة محمد، فإنها في عمومها تشمل أصل العبادة في مفهومها العام، وجاءت لبعض الأمم باختلاف، في الكيفية وتحديد الزمن والهيئة وتعني في خصوصيتها نوعاً من العبادة، أعطى لتلك الأمة نمطاً مميزاً اختصّتْ به. والإسلام لما كان هو الدين الخالد الذي رضيه الله، لخير أمّة أخرجت للناس، وأكمله الله عن النقص والعيوب فقد كانت التشريعات فيه التعبديّة والتعامليّة، وفي الشؤون الخاصّة والعامّة، تتّصف بالكمال، وبالشمولية في أيّ زمان، وبأي بيئة، لأنه دين اليسر والسماحة، ودين لا يكلّف النفس فوق طاقتها: «لا يكلِّف الله نفساً إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت»(البقرة 286). وشهر رمضان الذي تظلّل سحابته بلاد المسلمين في كل مكان، ويستروح كل مسلم مهما كان موقعه نسمات عطرة، من روحانية هذا الشهر الكريم، الذي كانت له خصوصيات كثيرة: صحيّة في البدن، ونفسيّة في الأحاسيس، وروحانية في القلوب، وتكافليّة في المجتمع وترابط في الأسرة ومع الجماعة.. فهو فرصة سنوية يتجدّد بها صدأ القلوب، لتطهر وقسوة الطباع فترقّ، وشحّ الأيدي لتلين بالعطاء. هذه المناسبة السنوية التي تتكرر بعد كل أحد عشر شهراً يهلّ رمضان في الشهر الثاني عشر، حيث يتجدد الإيمان وتغتسل القلوب مما قد يكون حصل بها من الآثام. فهو شهر أوله رحمة ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، وهو فرصة لمراجعة النفس في أعمالها، والقلوب في معتقدها ونيّاتها، وميدان للتسابق على العمل الصالح، لأنه عمل بدنيّ خاصّ لله وعمل تعبديّ يخلو الصائم في أدائه لهذه العبادة بربّه التزاماً ونيّة وأمانة.. فلو أكل أو شرب وهو في جوف داره، أو مع خلوته بنفسه فإنه يعتبر خائناً للأمانة ولكنها رقابة الإيمان، وتذكّر الجزاء لتكبر الرقابة الذّاتيّة في مثل هذا النصّ الكريم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه» ومسابقة إلى الخيرات، تذوّقاً لها براحة قلب، واستشرافاً لما وراء ذلك من ربح يتطلّع إليه كل مسلم بعد أن أبلغه الله هذا الشهر الكريم، لينهل من المعين كل من استجاب لهذا النص الترغيبيّ: «ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه». فهو ركن من أركان الإسلام الخمسة، ومتى سقط من هذه الأركان واحد، انهدّ البيت كلّه. والله سبحانه وتعالى لا يكلّف إلا ويعين، وإنما كانت التشريعات التي هي خفيفة على المستجيب ولذيذة الطعم على المحبّ لها والطائع للأوامر.. لكنها ثقيلة على العاصي والمعاند.. فالصيام قد فرضه الله على الأمم قبلنا، ولعنادهم ومعصيتهم أوامر ربهم التي جاء بها أنبياؤهم فقد انقسموا ما بين متشدّد ومعاند فالمتشدّد فرض على نفسه رهبانية ما كتبها الله عليهم، فأثقلوا على أنفسهم وزادوا في شرع الله ما لم يؤمروا به ومعلوم أن الزيادة كالنقص في الحكم سواء.. لأنّ المطلوب الوقوف عند الحدود التي رسمت، والأوامر التي قيّدت. والمعاند عدّل وبدّل في الصّفة والكيفية كيفما يحلو له، فمنهم من جعل الصيام في الأيام الشتوية دائماً لأن هذا أهون عليهم،ومنهم من جعله في ساعات من الليل دون النهار، ومنهم من جعله عن أنواع معيّنة من الأطعمة.. وهكذا.. أما أمة الإسلام فقد امتثلوا أمر خالقهم عندما خاطبهم ربهم سبحانه في أمر التكليف بصفة محبّبة إلى النفوس المستشرفة كانت تاجاً على رؤوسهم يعتزّون به، هي صفة الإيمان: «يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر » (البقرة 183 184). فجاء في القرآن الكريم تشريع وتخفيف: تشريع للعبادة ووقتها، وما يحلّ للصائم وما يحرم عليه. وتخفيف لأصحاب الأعذار، فكان تعريف الصيام على هذا: لغوياً وشرعياً: الإمساك أي الكفّ عن الطعام والشراب والنكاح تقرّباً إلى الله واستجابة لأمره والوقت: من طلوع الفجرالثاني إلى غروب الشمس: «وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموّا الصيام إلى الليل» (البقرة 187). والصيام واجب على كل مسلم ومسلمة حسب هذه الشروط:
الإسلام: فلا يجب على كافر أو كافرة حتى يدخل كل منهما في الإسلام. ومن أسلم في أثناء الشهر صام من وقت إسلامه دون السابق.
العقل: فلا يجب على مجنون حتى يعقل، البلوغ: فلا يجب على الصغير حتى يبلغ، لكن يؤمر به الصغير حتى يتعوّد عليه إذا أطاقه لما جاء في الحديث: «رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم الصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق».
والقدرة على الصوم: فلا يجب على العاجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى شفاؤه، ويطعم عن كل يوم مسكيناً.
وأهل الأعذار يفطرون ويقضون في أيام أخر، إذا زال العذر كالمسافر والمريض والحائض والنفساء.
ومن إعانة الله للمؤمنين على أداء هذه العبادة أن جعل سبحانه حواجز تمنع صدّ الشياطين عن الصائمين:
فالمردة تغلّ وتسلْسل، وأبواب الجنة تفتح، وأبواب جهنم تغلق، والدعوة إلى الخير ترغّب. يجمع هذه الخصال حديث صحيح رواه النسائي رحمه الله عن عرفجة رحمه الله قال: «عدنا عُتيبة بن فرقد فتذاكرنا شهر رمضان فقال: ما تذكرون؟ قلنا: شهر رمضان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار، وتغلّ وفي الرواية الثانية تسلسل فيه الشياطين، فينادي منادٍ كل ليلة يا باغي الخير هلمّ ويا باغي الشرّ أقصر». والشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم ليوسوس ويحثّ على الشرّ، ويثبّط عن الخير قد ضيّق الصوم عليه في المجاري، فكان ضعيفاً هزيلاً، لأن العبادة وذكر الله تنهكه، يقول صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا مجاريه بالجوع والصيام» والجوع يدخل معه العطش.. ذلك أن الإنسان إذا أكل أو شرب انبسطت نفسه إلى الشهوات، وضعفت إرادة النفس ومحبتها للعبادة فتركن إلى الكسل وفي هذا تزهيد في العمل الصالح والصيام يقوي النفس على الزهادة في الدنيا وشهواتها ويرغّب فيما عند الله مما وعد به الصائم والقائم، ويحثّ على الرحمة بالآخرين والعطف على المساكين، والبذل لهم، والسعي في مصالحهم، لأن الصيام يؤدّب النفوس لتحسَّ في تحملها بما يحسّ به الفقراء والمساكين فيكون في هذا الإحساس مصالح عديدة من الأقوياء للضعفاء، ومن الأغنياء على الفقراء ومن القادرين على المتنفّعين.
وما أعظم الأثر عندما يعلم الصائم أن الله سبحانه قد اختصّ بمجازاة الصائم ومن رضي عنه مولاه، وتولّى جزاءه، فإن عطاءه سبحانه كبير وخيره لا حدود له، لذا يجب أن يخلص الصائم النيّة، ويثبّت دعائم العمل صحة وقوّة.. جاء في الحديث الصحيح عن الله جلّ وعلا أنه قال: «كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي الصوم جُنّة» وفي رواية: «الصوم لي وأنا أجزي به».
ثم ما أعظم ما اختصّ الله الصائمين به: مكانة وأجراً ومغفرة ورضواناً.. فخلوف فم الصائم.. وهو ما يخرج منه من بخار المعدة ورائحة الفم مع الجوع والعطش وإن كانت مستكرهة في نظر الناس.. فهي: «أطيب عند الله من ريح المسك». وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره ليجد الطعام والشراب الذي يقضي على ما أصابه من جوع وعطش طوال نهار رمضان، حيث يجد لذلك لذة وطعماً يفرح به لكن الأعظم هي الفرحة الثانية: عند لقاء ربه يوم القيامة، لما يجد في رحمته من رضا، وأجر عظيم لأن الصوم جّنة أي وقاية من النار ومن غضب الله.
أن الله جل وعلا ميّز الصائمين عن غيرهم يوم القيامة، بنداء فوق رؤوس الأشهاد: أين الصائمون؟. فإذا تكامل عددهم أدخلوا مع باب خاص بهم لا يدخله غيرهم فإذا دخل آخرهم أغلق، يقال له: الريَّان، فقد روى البخاري ومسلم حديثاً عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن في الجنة باباً يقال له الريّان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم يقال: أين الصائمون؟. فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد».
أن في شهر رمضان ليلة خير من ألف شهر، يعني أن العمل فيها وقيامها تعدل في الأجر من واصل العمل الف شهر، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، وجاء في ذلك روايات منها: أن رجلاً ممن كان قبلنا رابط في الجهاد نهاراً وفي العبادة ليلاً، ألف شهر فتعاظم ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخصّ الله أمة محمد بهذه الليلة، ومنها ما جاء في الحديث الذي أخرجه مالك في الموطأ رحمه الله: أنه سمع من يثق به من أهل العلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمّته: أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر». وليلة القدر يرى الكثيرون من أهل العلم، أنها في العشر الأواخر من رمضان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأواخر يجدّ في العبادة، ويشدّ المئزر ويوقظ أهله، فقد أخرج البخاري ومسلم ومالك في الموطأ، والترمذي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور العشر الأواخر في رمضان ويقول: تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان». وفي رواية أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحرّيها، فليتحرّها في السبع الأواخر». هذا علاوة على كثرة العتقاء من النار طوال هذا الشهر: ولكي يكون المسلم حريصاً على صحة صومه، حتى ينال بذلك العطاء الجزل الذي أعدّه الله للصائمين، فإنه مأمور أولاً: بحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والبهتان.. فقد جاء في الحديث الصحيح: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» ولما أخبر صلى الله عليه وسلم عن امرأتين كادتا تموتان من الجوع والعطش أمر بإحضار إناء لتقيئا فيه، فقاءتا: دماً ولحماً عبيطا فلما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صامتا عمّا أحلّ الله وأفطرتا على ما حرّم الله، كانتا تأكلان لحوم الناس» يعني بالغيبة والنميمة. ولذا يجب: مراعاة: تأخير السحور ما لم يخش طلوع الفجر، وتعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس والحرص على الزيادة في أعمال الخير وفي مقدمة ذلك: المحافظة على الصلوات جماعة وفي أوقاتها، وأداء حق الله في المال بالزكاة لأهلها الثمانية، والإكثار من الصدقة والنوافل والذكر، والدعاء والاستغفار وقراءة القرآن، والدعاء عند الفطر بما أحب، وأن يكون الفطر على رطب أو تمر، فإن عدم ذلك فعلى الماء وأن يحفظ لسانه فإن شتمه أحد فليقل إني صائم، ولا يسبّ من سبَّه بل يعفو ويصفح وذلك أعظم لأجره.
أما مفسدات الصوم فهي:
الأكل والشرب عمداً أما الناسي فلا يفسد صومه.. خروج دم الحيض والنفاس، فإذا رأت ذلك المرأة فسد صومها.
الجماع في الفرج في نهار رمضان محرم ومن جامع عليه القضاء والكفارة وهي عتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً من قوت البلد.
حقن الإبر المغذية وحقن الدم في الصائم بسبب النزيف مثلا، أما الأبر التي لا تغذي مع العضل، فقد اختلف العلماء فيها ومثل ذلك بخّاخ الرّبو والأولى عدم ضرب الإبر إلا لضرورة حتى يفطر خروجا من الخلاف.
التقيؤ عمداً وهو إخراج ما في المعدة من طعام أو شراب عن طريق الفم فإن كان من غير قصد لم يفطر به.
الردّة عن الإسلام وهو من عاد إلى الكفر بعد أن كان مسلما لأن عمله بذلك يحبط نسأل الله السلامة والعافية.
ويراعى في هذا: أن يكون عالما ذاكرا مختاراً، فإن كان جاهلاً أو ناسياً لم يفسد صومه.
وكل ما لا يمكن الاحتراز منه كغبار وما يشبهه، ورعاف ونزيف واحتلام وغلبة القيء، وما إلى ذلك فإنه لا يفطّر.
كل من أفسد صومه بشيء من الأمور السابقة أو كان بسفر فإن عليه القضاء من أيام أخر، كما يجب على المسلم في حالات صعبة وفيها انقاذ لنفس مؤمنة، كإنقاذ غريق أو واقع في مهلكة أو في حريق وغير ذلك، أن يفطر حتى يتقوّى على هذا العمل ومثله القتال عندما يهجم العدوّ أو تحلّ آفة بالناس في أنفسهم أو أموالهم أو مزارعهم ويفزع الآخرون لمساعدتهم فالفطر من أجل التقوّي للمصلحة واجب، والقضاء من أيام أخر.
وللصوم فؤائد جاء بعضها مجملا في الموسوعة العربية العالمية: دينية ودنيوية.. وفي غيرها من الكتب.
فمن الفوائد الدينية: أن في رمضان ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، من عبد الله فيها، كان أجره أجر من عبدالله في ألف شهر، وأن الله يعين عباده فيه على الأعمال الخيرية البدنية بالصلاة والصّيام، وكفّ الأذى وحفظ اللسان والإكثار من قراءة القرآن، وما إليه بالزكاة والصدقة وإطعام الطعام بتفطير الصائم. فإن من فطّر صائماً ولو على مذقة من لبن أو ماء فله مثل أجره. وأن الصيام وقاية من عذاب جهنم، وخصّ الله الصائمين بباب في الجنة اسمه الرّيان لا يدخل معه غيرهم، فإذا انتهوا أغلق.. وفيه تربية للنفس، وتعاون في المجتمع، وتكافل بين أبناء المسلمين حيث يجود الغني على الفقير، ويتراحم الناس فيما بينهم ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه وفي شهر رمضان تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار، وتصفّد الشياطين، ومن قام ليلة القدر التي التي هي في العشر الأواخر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه.
أما الفوائد الدنيوية فهي كثيرة: منها أنه مدرسة يتدرّب فيها المؤمن على الأخلاق الكريمة، وبالصوم يجاهد نفسه ويقاوم شهوتي البطن والفرج، فيتعود الصبر وتقوى الله، لتقوى بذلك إرادته كما أن الصوم يعوّد العبد الدّقة والنظام في حياته فهو يتناول طعام السحور إلى طلوع الفجر، ويتناول افطاره عند الغروب، ولا يؤخره ويفيده في صحته وقاية من كثير من الأمراض، والصوم يعوّد على رقابة الله فالصائم يمتنع عن الطعام والشراب والجماع ولا رقيب عليه إلاّ الله، والصوم يجعل الغني يحسّ جوعاً وعطشاً بما يحسّ به الفقراء فيجود عليهم وهو صحة للبدن كلّه كما أنه يكسر حدّة الشهوة ويحمي من الانزلاق في الفواحش: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» حديث اتفق عليه الشيخان.
وقد أدرك سلف الأمة فضائل رمضان: فكانوا يدعون الله ستة شهور أن يبلّغهم رمضان فإذا خرج سألوا الله ستة أشهر أن يقبل منهم عملهم في شهر رمضان الذي مضى.. وهذا من حرصهم على هذا الشهر واهتمامهم باغتنام الفرص فيه التي لا تعوّض.
حوادث في الكعبة:
ذكر الأزرقي في تاريخه، عند ذكر جبّ الكعبة ومالها عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كان في الكعبة على يمين من دخلها جبّ عميق، حفره إبراهيم خليل الرحمن وإسماعيل عليهما السلام، حين رفعا القواعد وكان يوضع فيه ما يهدى للكعبة من حلي أو ذهب أو فضة أو طيب أو غير ذلك، وكانت الكعبة ليس لها سقف، فسرق منها على عهد جرهم مال، مرة بعد مرّة وكانت جرهم ترتضي لذلك رجلاً يكون عليه يحرسه، فبينما رجل ممن ارتضوه عندها، إذ سوّلت له نفسه، فانتظر حتى إذا انتصف النهار، وقلصت الظلال، وقامت المجالس وانقطعت الطرق، ومكة إذْ ذاك شديدة الحرّ بسط رداءه ثم نزل في البئر، فأخرج ما فيها فجعله في ثوبه، فأرسل الله عزّ وجل حجراً من البئر فحبسه حتى راح الناس فوجدوه فأخرجوه، وأعادوا ما في الثوب في البئر، فسميتْ تلك البئر الأخسف، فلمّا انخسف بالجرهميّ وحبسه الله عز وجلّ، بعث الله عند ذلك ثعباناً وأسكنه في ذلك الجبّ في بطن الكعبة أكثر من خمسمائة سنة يحرس ما فيه فلا يدخله أحد إلاّ رفع رأسه وفتح فاه، فلا يراه أحد إلاّ ذعر منه، وكان ربّما يشرف على جدار الكعبة، فأقام كذلك في زمن جرهم، وزمن خزاعة، وصدراً من عصر قريش.
حتى اجتمعت قريش في الجاهلية على هدم البيت وعمارته، فحال بينهم وبين هدمه، حتى دعت قريش عند المقام عليه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم معهم، وهو يومئذ غلام لم ينزل عليه الوحي بعد، فجاء عقاب فاختطفه، ثم طار به نحو أجياد الصغير (أخبار مكة 1: 295).
ونقل الأزرقي في موطن آخر من تاريخه: أخبار مكة ما نصّه: عن حويطب بن عبدالعزى. قال: كانت في الكعبة حِلقٌ أمثال لجم الخيل أو البهم يدخل الخائف فيها يده فلا يريبه أحد، فجاء خاكف ليدخل يده، فاجتذبه رجل فشّلتْ يده فلقد رأيته في الإسلام، وإنه لأشلّ (أخبار مكة 1: 106).
وقال في موطن آخر: إن جرهم لما طغت في الحرم دخل رجل منهم بامرأة منهم الكعبة، ففجر بها، ويقال: إنّما قبّلها فيها فمسخا حجرين واسم الرجل إساف بن نباء واسم المرأة نائلة بنت ذئب فأخرجا من جوف الكعبة، وعليهما ثيابهما فجعل أحدهما بلصق الكعبة والآخر عند زمزم، وإنما نصبا هنالك ليعتبر الناس بهما، فلم يزل أمرهما يدرس، حتى جعلا وثنين يعبدان، وكانت ثيابهما كلما بليت أخلفوا لهما ثياباً، ثم أخذ الذي بلصق الكعبة فجعل مع الذي عند زمزم، وكانوا يذبحون عندهما ويتمسّحون بهما، وكان الطائف إذا طاف بالبيت يبدأ بأساف فيستلمه، فإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فيستلمها، فكانا كذلك حتى كان يوم الفتح فكسرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما كسر من الأصنام.
وقيل بعدما أخرجا من الكعبة نصب أحدهما على الصفا والآخر على المروة للاعتبار، ثم تقادم عهدهما حتى صارا يتمسّح بهما من وقف على الصفا والمروة ثم صارا وثنين يعبدان فلما صار أمر مكة والحجابة إلى قصيّ، حولهما من الصفا والمروة، فجعل أحدهما بلصق الكعبة، والآخر في موضع زمزم، ويقال: جعلهما جميعا في موضع زمزم وقيل اسم الرجل أساف بن عمرو واسم المرأة: نائلة بنت سهيل من جرهم.
|
|
|
|
|