| الثقافية
تدلف نحو أحد المطاعم الأمريكية السريعة في قلب طوكيو لتجد نفسك واقفا ضمن طابور طويل. الكل ينتظر دوره . لا يجد الناس هناك أدنى صعوبة في تنظيم أنفسهم من دون أن يطلب منهم ذلك. كما أنه لا يمكن أن يتجاوزك أحد. تنظر إلى قائمة الطعام لتكتشف أن ذات المطعم الأمريكي يقدم وجبة تسمى تسوكيمي، وهي أكلة يابانية خالصة ولكنها هذه المرة صناعة أمريكية. نفس الشيء يحدث في ذات المطعم في مدينة القاهرة، لكن لا أدري بالتأكيد أي نوع من الطعام كان.
هذا مثال بسيط لما يحدث في الحياة العامة والتي أعتبرها انعكاساً مباشراً لفهم الثقافة اليابانية. بنفس الطريقة، لم يخترع اليابانيون السيارات، بل جلبوا هذه الفكرة من الغرب وقاموا بصناعة محركات صغيرة وفعالة وأسسوا صناعة متطورة في هذا الحقل. أيضا، الحاسبات الآلية لم تكن اختراعاً يابانياً، بل استعاروا من الغرب نفسه هذه الأفكار وطوروها.
أيضا نفس الشيء ينطبق على المنتجات التكنولوجية والإلكترونية التي تشتهر بها اليابان. حتى ألعاب الكومبيوتر والتي بدأت في الغرب، تميّز بها اليابانيون وأصبحوا ينتجون الآلاف منها كما لو كانوا هم أصحابها بالفعل.
إذن مالذي يحدث؟
فكرة مستعارة يتم تطويرها ثم تغييرها لتصبح كما لو كانت جزءاً من الثقافة اليابانية. لا يوجد هناك فكرة يابانية خالصة وإنما الأمر هو استعارة للأفكار ثم التفرغ كليا لتطوير هذه الأفكار والبروز فيها. لهذا السبب، لا يغير الياباني عمله بسهولة. فهو فقط يتخرج من الجامعة ليعمل أربعين سنة في نفس الشركة ثم يتقاعد. لا يقف الأمر عند ذلك، بل يتعداه إلى أن تكون الشركة التي يعمل بها الفرد جزءاً من الشخصية التي يحملها. عندما تقابل شخصاً لأول مرة فإنه يذكر اسمه متبوعا بالشركة التي يعمل بها. أي أن الشركة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الشخصية نفسها. وقد يكون هذا هو السبب الذي يجعل الياباني يتقن عمله بشكل غير عادي.
هذه الصورة، أي استعارة الفكرة ومن ثم تطويرها، أصبحت هي الفلسفة اليابانية التي اعتمدت عليها في حياتها في الخمسين سنة الماضية. لكن، يبدو أن هذه الفلسفة والتي تعتمد على تبني أفكار الغرب هشة وذات أساس ضعيف، ولم تعد مناسبة في هذا العصر، إذ أن اليابان تعيش الآن فترة اقتصادية حرجة قد لا تنهض منها بسهولة.
من انعكاسات هذه الفلسفة، والتي يعتبرها البعض نتاجا طبيعيا لما تعرضت له اليابان من ضربات قاتلة في ناجازاكي وهيروشيما، هو الدور الضعيف والذي لا يكاد يرى أثره أحد في سياسة العالم، رغم أنها تنتمي إلى الدول الصناعية السبع في العالم. يمكن أن نلخص هذا الدور بالقول أنها تمشي في هذا الطريق متتبعة خطوات الولايات المتحدة الأمريكية، تلك الدولة التي خضعت لها في استسلام مهين بعد تلك الحرب المشؤومة . أي أنها باختصار تدور في نفس الحلقة المفرغة التي وضعت نفسها فيها.
لا يبدو في الأفق أي بوادر تشير إلى ما يمكن أن نصفه باستقلالية الفكر والفلسفة خاصة وأن أزمة الهوية قد بدأت تعصف باليابان منذ أواخر الثمانينيات الميلادية بعد انفتاحها على العالم، وهو أمر بالغ الصعوبة في تجاوزه لأنها تقع بين فكي الغرب والمتمثل بالاتجاه التقني والسياسي والذي تقف على هرمه الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وبين اللغة والثقافة التي استوردتها من الصين وتراكمت منذ آلاف السنين. أي أنها ممزقة بين تيارين متناقضين هما الشرق والغرب.
لكن يظل السؤال، هل تنجح اليابان من تجاوز أزمتها الاقتصادية الحالية، أم أن ذلك لا يمكن أن يتحقق الا بالاستقلالية الثقافية من الصين، وهو أمر بالغ الصعوبة والتعقيد، والاستقلالية السياسية من الغرب، وهو أمر صعب المنال على الأقل في الوقت الحاضر.
|
|
|
|
|