| مقالات في المناسبة
ثمة أحداث كبرى لاتنسى، ولا تمحى من الذاكرة، تظل معلماً بارزاً وشاهداً حياً على مرحلة من التاريخ، والشعوب العريقة تجعل من تلك المنعطفات المهمة في حياتها بؤر ضوء ومشاعل مجد تحتفل بها دون ان تتخذها عيداً وتعتبرها محطات تنطلق منها الى آفاق جديدة تستشرف مستقبلها وتستذكر ماضيها وتعمل على تفعيل حاضرها.
وتولي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز مقاليد الحكم في المملكة ليس حدثاً عادياً، بل هو من تلك المنطلقات المهمة في تاريخ بلادنا الحبيبة، ومرور عقدين من الزمان على هذه المناسبة يحدونا الى استقراء ذلك الحصاد الوفي من المنجزات، والى قراءة ما حفلت به هذه الحقبة من الوقائع الجسام والاحداث العظام، ويلفتنا في منعطفات هذه المسيرة الظافرة تلك الحنكة السياسية التي تمتع بها خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الامين وسمو النائب الثاني حفظهم الله، فقد ادار دفة الامور في احلك الظروف واقساها ببراعة نادرة ومهارة فائقة ليقود السفينة الى بر الامان والاطمئنان مما اعترف به قادة شعوب الارض واقر به كبار ساستهم.
واذ كانت المنجزات السياسية التي تحققت في عهد خادم الحرمين الشريفين ظاهرة للعيان لا تخفى على كل ذي بصيرة فان المجالات الاخرى التي تتراكم فيها غمار الحصاد وتنمو سنابله، والتي تتكئ على البرامج الطويلة المدة والخطط المدروسة تبقى بعيدة عن الانظار، خفية مذخورة وعلى رأس هذه المنجزات التعليم.
لقد كان التعليم في عهد خادم الحرمين قبل أن يتولى مقاليد الحكم في البلاد وبعد توليه حفظه الله هماً رئيساً من همومه فنهض به تأسيساً ورعاية، وكان لإعداد المعلم المكانة الاولى في البرامج والخطط.
من الحقائق المقررة ان المعلم في مختلف مراحل الدراسة الركن الركين في العملية التربوية التي تتسع دائرتها لتشمل مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والسياسية، وما اوتيت امة من الامم الا من قبل نظام التربية فيها، فهي سلوك وعلاقات ومعاملات واخلاق، من هنا كانت مهمة الانبياء والرسل محورها تعليمي تربوي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معلماً ومربياً «انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق».
والامة التي تدرك مكانة المعلم فيها وتوليه جل اهتمامها يظل بنيانها متيناً، وتبقى متراصة الصفوف موحدة امام الملمات، وتتشكل منها صخرة الصمود التي لا تهزم.
وقد ادركت حكومتنا الرشيدة منذ وقت مبكر ذلك، فكان ضمن اولوياتها الرئيسة اعداد المعلم كان همها الاول والاساس في ترسيخ وتوطيد دعائم التعليم بإعداد المعلم اعداداً جيداً، وكانت فلسفة الاعداد التربوي فيه بينة واضحة منذ البداية تقوم على استثمار الممكن من الطاقات وتوظيفها في عملية البناء.
وقد كان من يمن الطالع ان يتبنى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز مسيرة التعليم منذ بواكيرها الاولى، فعلى يديه الكريمتين بدأ تشكيل وزارة المعارف بمختلف هياكلها وكوادرها، اذ خرج بها من عنق الزجاجة حيث كانت مديرية عامة للتعليم بإمكانات محدودة فرضتها طبيعة المرحلة، وظل ايده الله يتابعها الى ان بلغت في عهده الميمون ذروة تطورها وسنام ازدهارها وآتت اكلها في هذه المساحة الشاسعة من المدارس والمعاهد والمؤسسات الشامخة.
ونحن اذ نحتفل بمرور عقدين من الزمان على تولي خادم الحرمين الشريفين حفظه الله مقاليد الحكم في المملكة العربية السعودية لنستذكر بكل التقدير والاعتزاز ما حققه من انجازات يشار اليها بالبنان في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية الاجتماعية والسياسة والتعليمية. لقد كان للمعلم في سياسته الراشدة ايده الله موقع مهم ولسوف يسجل التاريخ بأحرف من نور ما بذله من جهد وما ارساه من فلسفة تربوية تنظر الى العملية التعليمية نظرة رحبة الافق ممتدة المدى اذ تتجاوز مجرد التعليم واكتساب المعرفة ومنح الشهادة الى اهداف استراتيجية تتمثل في اعادة صياغة الفكر وبلورة الشخصية، لذا كان اهتمام خادم الحرمين الشريفين بالثقافة الرديفة ممثلة في الانشطة المختلفة، فكان تأسيسه رعاه الله لمجلة المعرفة نقلة نوعية في فهم لباب التعليم وادراك مراميه، من هنا كان حرص وزارة المعارف متأسية بهذه الرؤية البعيدة البصيرة على تفعيل الانشطة المختلفة فاولتها الاهمية التي تستحقها وجعلتها من الوسائل المهمة في اعداد المعلم وتطويره، فإعادة اصدار مجلة المعرفة مقتدية بالرائد المؤسس حفظه الله.
ولو ألقينا نظرة خاطفة على مراحل إعداد المعلم وتطويره في المملكة لأدركنا أبعاد الفلسفة التربوية الكامنة التي أرسى دعائمها خادم الحرمين الشريفين حفظة الله .
لقد بدأت عملية الاعداد بما يسمى «معلم الضرورة» وهذه البداية تذكرنا بقصة كفاح مرير وجهاد انتهى بنا الى ما وصلنا اليه من تطور يشهد به القاصي والداني، فمعلم الضرورة الذي لم يتزود الا بالنزر اليسير من الخبرة نجح في ان يسد ثغرة في جدار العملية التعليمية ويسجل انتصارات لا تخطئها عين المؤرخ البصير لقصة التعليم في بلادنا، كان الوفاض يبدو خلياً، ولكن الارادة كانت صلبة والعزيمة قوية.
ثم كانت معاهد المعلمين الثانوية التي تلقت نخباً من الطلاب النابهين في الدراسة المتوسطة لتمد الساحة التعليمية برجال المعرفة، وقد نجحت هذه المعاهد في اعداد جمع مبارك من المعلمين المؤهلين تأهيلاً يقوم على الاساسيات التربوية، انفقوا جزءاً من الوقت في التدريب الميداني للقيام باعباء تلك المرحلة.
وقد ادركت حكومتنا الرشيدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين ومن سبقه من اخوانه ملوك المملكة العربية السعودية ان هذه مرحلة لابد من تجاوزها، فكانت الخطوة الثانية الرائدة هي انشاء الكليات المتوسطة لاعداد المعلمين التي كانت تمنح درجة الدبلوم، وكان الملتحقون فيها الطلاب والدارسين «اي المعلمين على رأس العمل». يتخصصون في مجالين دراسيين وذلك لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المعلمين في المرحلة الابتدائية،ولم تكن هذه قفزة في الفراغ، ولكنها كانت ضمن خطة متكاملة لاعداد المعلم وتطويره فهي تقدم المزيد من المعلمين الجدد ليأخذوا مكانهم في سلك التدريس في هذه المرحلة من مراحل التطور، وهي تعيد تأهيل المعلمين الذين لم تتح لهم هذه الفرصة من قبل، وهنا يتم تحقيق هدفين في وقت واحد.
ولما استنفذت هذه المرحلة اغراضها كان الامر السامي الذي اصدره خادم الحرمين الشريفين بألا يقل مؤهل المعلم عن البكالوريوس، فبادرت وزارة المعارف الموقرة الى تحويل الكليات المتوسطة الى كليات للمعلمين تمنح درجة البكالوريوس واعادة النظر في المقررات والبرامج.
وكانت الخطوة الرائدة في السنين الخمس الاخيرة تتمثل في الحرص على ابتعاث والموافقة على منح التفرغ للمعيدين والمحاضرين لإكمال دراساتهم العليا «الماجستير والدكتوراه» من اجل تكوين كوادر مؤهلة من اعضاء هيئة التدريس السعوديين المؤهلين، وقد حققت البرامج التي وضعتها الوزارة برعاية خادم الحرمين الشريفين خطوات واسعة في هذا المجال.
لقد سارت عملية الاعداد قدماً ولم تتوقف يوماً من اجل تأهيل المعلمين والعاملين في سلك التدريس بعامة، فكانت الدورات التي تعقد على نحو متصل من اجل تأهيل المديرين ومشرفي المختبرات وحوسبة الادارات واعداد معلمي الحاسب الآلي وجعل اتقان استخدام الحاسب الآلي شرطاً للتعيين في مجال التعليم. تم كل ذلك بتوجيه ورعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الذي يتابع هذه المسيرة وهو في قمة هرم المسؤولين، بل ظل ذلك شاغلاً رئيساً من شواغله حفظه الله ورعاه، لقد تحققت مقولة المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكريم المكارم |
حفظ الله خادم الحرمين الشريفين واخوته وابناء الامة ورعاهم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
|
|
|
|
|