| مقـالات
وحين نقبل بالتعايش السلمي بين النظريات المعاصرة ـ وهو ممكن ـ مستبعدين لعبة الموت أو النفي أو الأثرة، فليس شيء خارج الثقافة، إذا لم يُختصر (النقد الثقافي) في نسف الأنساق والتفحلن الحطيئي على الشعراء الذين ملؤوا الدنيا، وشغلوا الناس، والعمل على تحويلهم إلى شحاذين ومداحين.
فالثقافة رؤية تعويمية انفتاحية حمالة، فكأنها هاجسٌ لعولمة النقد، وكسرٌ لحدود التنوع. ذلك أن كلَّ ما سطره القلم على الورق، وكل ممارسة واعية، وكل سلوك اجتماعي، وكل ما ثقفه الإنسان بأي حاسة أو بأية وسيلة، وعلى أي شكل جاء الاكتساب، وبأي صيغة تمت الممارسة، يعد ذلك كله من الثقافة وإليها. وأي قول في هذا أو عنه هو قول في الثقافة، وليس من الضربات اللازبة أن تكون الثقافة ونقدها وقفاً على ضرب النسق الاجتماعي أو الفكري أو الديني أو السياسي، واتخاذ الشعر كبشاً للفداء. وليس من لوازم المشروع أن يكون حرباً ضارية ضد ثقافة الأمة، ومآلات المشروع حين تحدونا إلى واحدية المفهوم، ندخل في مضائق المقاصد والنوايا التي يشدنا إليها الفعل. وليس في كتاب المشروع شيء يحمل على حسن الظن وسلامة المقاصد؟ فالثقافة التي لا نبرئها، ولا نزكيها، ولا نمانع من التحرف لإصلاحها، لا نجد مبررا لإتيان بنيانها من القواعد، وقد تكون المكيدة للشعر على أيسر التصورات تحقيقاً لمقولة (جابر عصفور): إن الزمن زمن الرواية، وهو ما حشد له الشواهد والبراهين في كتابه: (زمن الرواية) الصادر عام 1999م، ولكن صاحب مشروع التشعرن والتفحلن أخطأ الطريق. وبصرف النظر عما سلف فإن القول في الثقافة أو من خلالها على تلك الطريقة، يتحول معه الكتاب كلهم أجمعون إلى نقاد، وذلك الخلط العجيب يفوّت على ذوي التخصصات فرص الامتياز عمن دونهم أو عمن يخالفونهم الهم، ولا أحسب الراشدين من العلماء والأدباء يقبلون بهذه الخلطة.
قد لا يكون هذا التخوف قائماً، وقد لا تكون تلك الرؤية مسددة، ولكننا مع من لا يحسنون تحرير مسائلهم في أمر مريج، وحين نقتفي أثر المشروع فإنه يمر بنا على سفاسف الأشياء، ولم لا يكون الأمر كذلك والمشروع قد استهل تنزيله بـ(لعبة البلوت)، وتلك بداية تفتح على صاحبها أكثر من تساؤل وتضع حوله أكثر من علامة، فهل أصبحنا فارغين إلى حد أن يذهب أساتذة الجامعات إلى استهلال مشاريعهم بالحديث عن الألعاب الشعبية؟ ومن المسلمات أن الإفضاء إلى آفاق الثقافة يؤدي في النهاية إلى الانفلات. فالذي يكتب عن الخدمات البلدية أو الصحية أو العمالية أو التعليمية أو المرورية أو المواصلات أو الاتصالات أو عن أي ظاهرة سلوكية أو عن الألعاب الشعبية أو عن سائر الظواهر (الفلكلورية) يعد ناقداً ثقافياً، وها هو صاحب المشروع قد ضرب لنا الأمثال حين استهل مشروعه بالحديث عن واحدة من اللعب الشائعة ليجسد القطيعة مع المتعاليات، واقتفاء لأثر هذا المشروع فإن صفحات الرأي السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الصحف وكتاب المقالات والزوايا ومعدي البرامج الرياضية والترفيهية كل أولئك نقاد ثقافيون، وتمشياً مع هذا الانفلات لا الانفتاح لا يكون فقهاء ولا أهل ذكر يسألون في مجال اختصاصهم. وقد يأتي من الفارغين من يخترع مصطلح (النقد البلدياتي) أو النقد المنزلي) أو (النقد المروري). و كنا قد عرفنا من قبل (النقد الرياضي و (النقد الفني) ثم يكون من حق أي واحد من هؤلاء وأولئك أن يميت ما شاء من المصطلحات، منكباً عن ذكر ما أنتجته من ضوابط وطرق وأفعال إجرائية، وسعتها الكتب، واتسعت لها الصحف والمجلات جانباً، وعندئذ نكون في حوسة من أمرنا. ولا شك أن مندفعاً كهذا سيجد المتطوعين للهتاف، ممن لا يملكون الحضور إلا على أكتاف الآخرين. والدهماء (المتنخْوِبون) هم الذين ينشرون القول الفارغ من ذهنيات فارغة، ويصنعون النمور الورقية، ولو أنهم يقرؤون ماجدَّ ويتابعون ما حدثَ ويلاحظون التحولات المستمرة، لما بهرهم التهريج، ولما أوجسوا خيفة من الحبال والعصي. والدخول في فوضى القول كالدخول في فوضى الحواس يفقد الأمة الضبط والربط، وليس من المصلحة انفلات الأمر، فالتخصص ظاهرة العصر، ولكل علم أو فن أصوله وقواعده ومناهجه، والتخصصات الدقيقة في سائر العلوم والآداب ظواهر حضارية. نقول هذا ونحن نعايش في مشاهد القوم عبثاً وفوضى فـ(الوجودية) و (الدادية) و (الفوضوية) مذاهب فكر وأدب وسياسة، لها أشياع وأتباع، ولن نعدم من ضعاف النفوس من يرث رفاتها، وقديماً قيل: (لكل ساقطة في الحي لاقطة).
وإذا فقدت المشاهد سراتها، وخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا جد التحصيل وأهمية التأصيل، حلَّت الفوضى محل الانضباط، وقام التيه مقام الرشد، وذلك ما ينتاب مسارح الفكر والأدب، وهو الذي حدا بالعقلاء للتفكير في اكتشاف البنى العلمية وملامح الثورات العلمية وضرورة العلم، كما هو عند (توماس س. كوهن) و (ماكس بيروتز) و(فرنك كليش) في (بنية الثورات العلمية) في ترجمتين للدكتور علي نعمة، وأخرى لشوقي جلال، وكتاب (ثورة الأنفوميديا) ترجمة حسام الدين زكيا و (ضرورة العلم) ترجمة وائل أتاسي، ومثل هذه الكتب وتلك الهموم يمكن استدعاء نظائر لها في تراثنا العلمي والفكري مما هو حاضر الذهن المتابع. وحين نمتعض من إيجاف الفارغين نشير إلى عمالقة في الفكر والأدب المعاصر كانت لهم مبادرات ثقيلة الوزن عميقة المعرفة شمولية التصور نختلف مع بعضهم، ولكننا نحترم جدهم، ونثمن اقتدارهم، ولا ننكر أثرهم السيئءء والحسن، ومن منا لا يعرف (الجابري) و (العروي) و و(الحنفي) و (المحمودين) وحتى أساطين الحداثة ينطوون على علم وفكر سخروه لخدمة الآخر، والمخجل أن الفارغين لا يتوفرون إلا على الحشف وسوء الكيل، وموقفنا معهم يذكرنا بمقولة المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال |
وفي إطار التفلت من إسار العلوم المؤصلة والمقعدة والمشروطة، يحسن بنا استعادة مصطلح طار به الذواقون ثم ثوى كسوالفه، هو مصطلح (الكتابة) الذي ذر قرنه في أعقاب انحدارات إلى درك الفوضى، و(الكتابة) مصطلح تداوله البعض في سبيل إلغاء أنواع الفنون، وإلغاء التنوع الفني، وتمايز الموهوبين من المقتدرين والأدعياء، بحيث لا تكون قصة، ولا رواية، ولا شعر، ولا سيرة ذاتية، ولا مقامة، ولا مقالة. فالمسألة قلم يجري على ورق، لينتج كتابة.
والمحتفون بمثل هذه المصطلحات أو الفارغون منهم ـ على الأقل ـ لا يدرون ما النوايا ولا الأهداف التي يسرها المتآمرون على الكلمة الطيبة، وهذا ما حفزني دائما على تخفيف وطأة الاتهام، فالمتابعة المتأنية الرفيقة للمتعالقين مع المستجدات تكشف عن بلاهة وسذاجة، وخلو ذهني، تمكن من معرفة الجذور الفلسفية. للظواهر الأدبية والفكرية ولا تمكن من معرفة أهداف الحضارات المستكبرة التي تسعى لاقتلاع جذور المناوئين لها. وبالعودة إلى هم التفلت نجد إن هناك دعوة للانفلات، تتمثل بثلاثة مصطلحات، استقبلناها ببلاهتنا المعتقة، ولم نلق لها بالا هي:(الكتابة) و (الأدب المفتوح) و (النقد الثقافي) وقد بشر بها على فترات من تطوعوا لتجسير أنفسهم، وتوطئة أكنافهم لعبور الآخر الينا، كما جسّرت دجلة والفرات بتراث الأمة لعبور التتار. وما بأيدينا من بدائل إن هي إلا مصطلحات غربية تلقفتها المشاهد الثقافية والأدبية، وأشاعها أدعياء المشاريع ومدعو المبادرات، ثم صدقهم السرعان من الكتبة الذين يشايعون الطواري باهتياج أعزل، ليكون لهم حضور لا ينالونه إلا بالتبيعة للتبعيين.
وكل هذه الظواهر التي يحملها الجالبون على اكتافهم كما الأوزارلما تزل على مستوى التنظير، فالفنون قائمة، والتخصص محترم، والنقد الأدبي على أشده، والنحو والصرف سيدا الموقف، وكيف يموت ما وسعته ملايين الكتب وآلاف المخطوطات، وحفظته صدور الرجال، ووعته أفهامهم، واستمد وجوده من الذكر الحكيم المحفوظ بوعد الله، ومن أوفى من الله؟. والفاجعة ليست فيمن يطلع كل يوم بمذهب مجلوب، الفاجعة في دهماء يغرر بهم، وآخرين يدعون المعرفة والنخبوية، ويتصدرون المشاهد في زمن التصوح، ثم لا يستبدون، الفاجعة في هذه الدهماء التي ألغت نفسها، وعطلت وعيها وألقت قيادها لمن لا يحسن الورد والصدور، ولمن لم يؤسس، ولمن لم يستقر على قول. هذه الدهماء قبلت بموت (المؤلف) وبموت (النحو) وبموت (النقد الأدبي) وتصورت أن مثل هذه الإطلاقات مبادرة فذة، لا يقول بها إلا عبقري لا يفري فريه. وليت هذه الدهماء حين طفح كيلها بالوفيات تسأل صاحبها: عما إذا كانت هذه (التقليعة) هي نهاية التاريخ، بحيث ننفض أيدينا مما علق عبها من مذاهب وتيارات، وبحيث نرتب أمورنا على ضوء ما هو قا ئم، أم أن في الجعبة مشروعاً خامساً لم يؤذن له بعد؟ ويا ليت هذه الدهماء النخبوية بمؤهلاتها ومهماتها المعطلة أو المغيبة بطوعها واختيارها تكون جريئة مستبدة، فتسأل صاحبها عما خلف من كتب عن الحداثة والبنيوية واللغة والمرأة والفحولة، هل هي في إطار المنسوخ حكماً ولفظاً؟ أم في إطار الممنسوخ حكماً دون اللفظ؟ وهل يجوز أن تقرأ ويستفاد مما فيها؟ أو أنها تمات كما مات النحو والمؤلف والنقد.
وحين نلحقها بالموكب الجنائزي، فعلى من يكون العوض عما أنفقنا من الجهد والوقت والمال للشراء والقراءة والاستيعاب والتمثل؟ وكيف نخلي الذهنية مما علق بها من هذا القول الملح بمشروعيته. لقد قيل عن (الحداثة) و(الحداثيين) ما كنا نتوقع أنه إيمان بالمبدأ لا يتزعزع، وقيل عن (البنيوية) و(البنيويين) ما كنا نتوقع أنه نهاية التاريخ، ومن قبل قيل عن (الماركسية) و(الوجودية) وعن عشرات المذاهب والتيارات المجلوبة ما لا مزيد عليه، وها نحن نستمع إلى منكر من القول عن النقد البديل، وعن التوليدية البدلية عن النحو. فهل سيكون قول آخر يلحق النقد الثقافي بما ثوى من مذاهب ومناهج؟. إن من مصلحة المشاهد أن يمارس أصحابها التجريب والإضافة. ومن حواتم المعرفة أن نستبطن المستجدات، وأن ننقب في بطون الحضارات ما جد منها وما سلف، وأن نلوب افاق المنجزات الإنسانية، لنعيش حضوراً مشرفاً يليق بنا. وليس من العقل أن يمارس الجالبون لسقط المتاع النفي والاستبدال، ولاسيما إذا كانت البدائل لا تفي بالحاجة، وليست من عند أنفسنا. إن على أساتذة اللغة والنحو والصرف والبلاغة والأدب والنقد أن يسألوا أنفسهم: هل ما يلقونه على طلبتهم يأخذ طريقه إلى المشاهد الأدبية والفكرية، ويستخدم لشرح النصوص وتفكيكها والوصول إلى أعماقها الدلالية وبنيتها اللغوية وسماتها الفنية، أم أن ما يعلمونه داخل أروقة الجامعات يسبقهم إليه زملاؤهم في المشاهد، ليطلقوا عليه رصاصة الرحمة، معلنين موت النحو والنقد؟ وحين يلدون للموت الناجز ألا يعدون ذلك من العبث المسرف، وكيف يستقيم أمر أمة تنفق الكثير على تعليم النحو والنقد الأدبي، ومن بين أبنائها من يحكم بموت ذلك، ألا يكون ذلك من باب العبث والتبذير. وحين نسلم بالتجديد وسنة التداول، ونقطع بأن لكل زمان حقه في صياغة ذويه، وأننا خلقنا لزمان غير زمان السالفين الأولين فإن هناك ثوابت ومتغيرات. وإشكالية الثابت والمتحول من أعقد الإشكاليات وأخطرها وأدقها وأكثرها حساسية، والخطأ فيها يعني الدمار، والثوابت غالباً ما تكون في المبادئ، والمتغيرات تكون في الوسائل، وقد يجر سوء التعبير على صاحبه سبة الدهر، وهذا ينطبق على أصحاب الاطلاقات الطائشة كالقول بالموت، فالنحو العربي من ثوابت الأمة، ولكن وسائل توصيله وأساليب أدائه من المتغيرات، ولو أن المبهورين بما جد من وسائل أحسنوا الجلب وجودوا الدعاية لما وقعوا في الشبهات، وقد تحال مفرقعاتهم إلى هذا التأويل، ولكنهم قوم يجهلون الفرق أو التفريق بين الأهداف والوسائل.
وحين نتحدث عن مقاصد (النقد الثقافي) محلياً، ونستبعد الأهداف والمقاصد عند أساطين الحداثة ممن اتخذوه معول هدم للثقافة المضادة، فإنما هو فيمن نحسن الظن بهم، ونطمئن إلى سلامة الفكر عندهم: إما بقوة الوازع المهيمن أو بجهلهم لمقاصد ما يجلبون. أما أساطين الحداثة وقادة الظلامية في الوطن العربي فنواياهم تختلف كثيراً. لقد مارس (المبشرون) عمليات (التنصير) ولم يفلحوا، وتحولوا إلى مهمة أشد نكاية وأعمق خبثا، وهي إخراج المسلمين من دينهم بالإفساد والتحريش والتشكيك. و (الحداثيون) تفانوا في (حدثنة) الأمة، ولما لم يفلحوا، قلبوها إلى ضرب الثقافة السائدة باسم (النقد الثقافي) الذي تلقف رايته من عرفوا بعشق الطوارئ، ومعاذ الله أن نتهم الذواقين الذين كما الأطفال، تمتد أيديهم إلى الجمرة وإلى التمرة. وذلك معولنا لدرء الإدانة، وإلا فإن آثارهم تنبئ عما تحفظ عليه. ومن الغباء الالتفاف على وثائق الإثبات، والقول بأن (الحداثة) هي التجديد، وكيف يقال ذلك، والحداثة حركة فكرية بينّة العوار، ومن أحال إلى التجديد فهو كمن أحال الاستهزاء بالله وبرسوله وبآياته إلى الخوض واللعب، وحين نمضي مع الإحالة إلى التجديد فإن واجب من فهم الحداثة هذا الفهم أن يحدد موقفه من الحداثيين الذين ضربوا الثوابت وأسقطوا القيم وأحاطت بهم وثائقهم القولية والسلوكية. والتاريخ يعيد نفسه «وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل».
وحين لا يكون (النقد الثقافي) منطوياً على نوايا مشبوهة، ومن الممكن أن يكون كذلك، فإنه في بعض تجلياته نقد إصلاحي، يتقاطع مع (النقد الإسلامي) وقد يكون امتدادا للنقد الأخلاقي الذي وضعه القرآن الكريم وتوجيهات الصادق الأمين وتأكيدهما على أهمية الكلمة. و (النقد الإسلامي) تجسيد لهذا الهم، فهو بمقاصده يحمل هم استقامة الأمة كما أمرت، وهو ما حمل البعض على التنبؤ بهذا التقارب، وذلك التنبؤ كمن جعل (عالمية الإسلام) مشروع (عولمة) مقابلة. والقول في مثل ذلك مؤشر تقصير في فهم المقاصد لكل من (العولمة) و (العالمية) وكيف يمكن التجنيس مع اختلاف المرجعية. و(النقد الثقافي) في إطار هذه المقاصد يوحي بكمونه في الثقافة العربية، وهو كغيره من مفردات الحضارة، يلوب آفاق الحضارات الأخرى، يصطبغ بصبغتها، وينهض بمهماتها، وله في كل حضارة مقاصد، وفي كل فترة مهمات، وعند كل متخذ رسالة، وهو قد تحرك من رحم الحضارة، ليتحول إلى هاجس مشروع جديد قديم، يزاحم بمنكبه الغض وجناحه القصير مرتكزات الحضارة وثوابتها، وحين يحاول المتسلطون إكراهنا على القبول بواحدية الرؤية وواحدية المذهب، أفلا يكون الأدب ونقده أحق مما سواهما؟ وكيف يتأتى لمستنسخ من الآخر أن يبعد النجعة، ويمعن في النكاية، يقول بالمشروع ولا مشروع، ويحكم بالموت ولا فوت.
وكيف يكون مشروعاً ولما يكن بمفهومه التراثي غائباً، والمتابعون للتراث ولعصر الموسوعات بالذات يجدون ملامحه ماثلة للعيان، وهو بكل مفاهيمه يلم به كل كاتب من حيث لا يدري ومن حيث لا يقدر، ومن ثم لا يكون مبادرة من أحد بهذا المفهوم. أما حين يراد له ومنه خلاف ما هو عليه، وبخاصة حين يركز على ضرب الأنساق والسوائد وسيادة الثقافة ذات المرجعية، أو حين يسعى النقاد الثقافيون إلى إدانة الثقافة القائمة ونسفها، فإنه يكون شيئا آخر وهو ما سنوفيه حقه عند القراءة النقدية لكتاب المشروع، ونحن في الحالين مخولون لنفي الجدة وإنكار المشروع والتصدي لنقض الغزل وهدم المحكم من البناء، وحين نسلم بأن واقع المسلمين وأخلاقياتهم بحاجة ماسة إلى إصلاح، وأن الإصلاح يتطلب ممارسة نقدية، فإن علينا أن نبحث عن نقاط الضعف الحقيقية وأسبابها المشروعة ونعالجها، لا أن نفترض أسباباً، ولا أن ندين الشعر العربي بتشكيل الأنساق السيئة، ونختصر إخفاقات الثقافة كلها بالتشعرن، ثم نبيح لأنفسنا بأن نكون الخصم والحكم. وحين تختصر الخطايا بالشعرنة نغفل عن أدواء حقيقية، ونمكنها من أن تعيث الفساد، ونكون كمن يصارع طواحين الهواء لافتراض مذنب غير قائم في الواقع.
ونود أن نشير في هذا السياق الجدلي إلى أن جوهر الخلاف ليس في التحول من (النقد الأدبي) إلى (النقد الثقافي)، فمن حق أي أديب أو مفكر أن يتخذ المنهج الذي يراه، وأن يعمل في الحقل المعرفي الذي يجد نفسه فيه، جوهر الخلاف في اختراع الخطيئة، وصياغة الإدانة، وطريقة التنفيذ، وعدم الاكتفاء بالتحول. ولو ترك النقاد لناموا، كما القطا الذي قالت عنه الأعرابية محذرة قومها :(لو ترك القطا لنام). إذ بإمكان المتعالقين مع الآخر أن يدلوا بدلائهم في آبار المعرفة تاركين الدلاء الأخرى تنزع مما شاءت، أما حين تكون المسألة أثرة وتصفية وإماتة فإن من حق المتضررين التحفظ على تلك التعديات، والتخلص من فرض أحادية الرأي والمذهب والآلة وضمان حق الاختلاف الذي قضي عليه بنغمة الموت.
|
|
|
|
|