أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 12th November,2001 العدد:10637الطبعةالاولـي الأثنين 27 ,شعبان 1422

محليــات

الفهد المفدّى
سنوات الكفاح والعمل ورحلة الحلم والإنجاز ذكريات عمرها 40 عاماً من شرف العمل معه
بقلم معالي الشيخ: مصطفى بن محمد علي إدريس
المستشار بالديوان الملكي
عملت معه عن قرب عندما كان وزيراً للداخلية فأذهلني بقدرته الجبارة على العمل ومواصلته في المكتب والبيت بلا توقف وبلا شعور بالجوع أو حاجة الى الراحة
كان يقول لي إذا طلبني للعمل معه مساءً: تناول عشاءك قبل أن تأتي،
لا تظنني بخيلاً وإنما لأني أنسى الأكل إذا بدأت العمل، ولا أريد أن أظلمك!!
يُهيئ الله أفذاذ الرجال لما اختارهم له من مهام جسام ورسائل سامية قبل ان يمكنهم من زمام الامور في اوطانهم بسنوات عديدة،
وفي مرحلة الاعداد والتهيئة يتيح سبحانه وتعالى لهؤلاء الافذاذ من الظروف التاريخية والمسؤوليات ما يجعلهم وجها لوجه امام خطر التحديات ونار المحن فينتصرون عليها ولا تزداد معادنهم بها الا صقلاً ولمعاناً،
الأمل الكبير
وقد هيأ الله سبحانه وتعالى كافة ظروف «النجاح» و«النضج» لخادم الحرمين الشريفين منذ فجر شبابه ووضعه في مواجهة تحديات المسؤوليات والامتحانات فما لانت عريكته ولا استسلم للصعوبات بل انطلق على طريق العمل الجاد المثمر لا يلوي على شيء واهبا كل وقته مضحيا براحته الشخصية من اجل خدمة وطنه، قاسياً على نفسه في اكثر الاحيان ولكنه كان سعيداً بالتضحية والراحة التي يبحث عنها الناس مغتبطاً بتلك القسوة التي اخذ نفسه بها ما دام ينجز لهذا الوطن ولابنائه أضعاف ما كان متوقعاً،
وقد اختط الفهد المفدى لنفسه هذه السياسة منذ ارتبط بأول عمل رسمي في الدولة سنة 1373ه وزيراً للمعارف فعرفنا ان اختياره لوزارة المعارف بالذات كان انطلاقا من وعي بعيد النظر وإيمان عميق بأن نهوض هذا الوطن لا يتم ولا يكتمل الا بالنهوض بالتعليم، وكان كثيرا ما يصرح في تلك الفترة عند الحديث عن نهضة الشعوب (لا أمل لنا الا في العلم)، وكان يقول ايضا (العقيدة الاسلامية عقيدة علم، ولن نكون مؤمنين حقا الا اذا ارتبطنا بالعلم، فرب العزة والجلال يقول: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)،
فلم يكن عجباً إذن ان نرى الفهد وزير المعارف آنذاك يفتح في كل يوم مدرسة حتى ارتفع عدد المدارس في عهده من (226) إلى (712) مدرسة ومعهدا وزاد عدد الطلبة فبلغ (203، 104) طالب وعند توليه كانت ميزانية المعارف 592، 671، 45 وغادر الوزارة وقد بلغت الميزانية (200، 012، 137) ريال،
شرف الاقتراب منه
وقد أتيح لي شرف الاقتراب من خادم الحرمين الشريفين بعد تعيينه وزيرا للداخلية سنة 1382ه وكنت في تلك الفترة انتدبت للعمل تحت رئاسة صاحب السمو الملكي الامير سلطان بن عبدالعزيز في اللجنة الخاصة بمجلس الوزراء التي تشكلت بعد قيام الثورة في اليمن وما تبعها من ظروف سياسية واحداث معروفة ادت الى خلاف بين البلدين،
كان خادم الحرمين الشريفين في تلك الفترة إلى جانب مسؤوليته عن وزارة الداخلية وزيراً للدفاع والطيران بالنيابة،
واقتضت الظروف السياسية في تلك المرحلة ان أعمل معه مباشرة فأتاح لي هذا الاقتراب منه ان ادرك في شخصه سر الطاقة الكامنة فيه على العمل، كان طاقة جبارة على العمل تدهش كل الذين يعملون معه او حوله، وكان برنامج حياته كما عرفناه لا يتغير في المكتب وفي البيت، فالعمل متصل، والانتقال الى البيت لا يغير في الامر شيئا وكان على كل الذين يعملون معه ان يجندوا انفسهم لهذا البرنامج الطويل المستمر، ورأيت الذين يعملون معه يشفقون عليه، وكان يلحظ ذلك، ويقول لبعضهم باسماً: (أبدا، ، لا تخشون علي من الارهاق، ، إنني في غاية الارتياح لما أقوم به، أما انتم فاعملوا ما تستطيعون وكفى ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها)،
وهكذا وجدت نفسي محبا للعمل معه، متشوقا لمعرفة سر الطاقة الهائلة المتجددة التي يتمتع بها حفظه الله فوجدت فيها ثلاثة أمور يؤمن بها إيمانا مطلقا اولها: إيمانه بالله سبحانه وتعالى ثم ثانيها: إيمانه بالعلم وثالثها: إيمانه بالعمل، وكان يتحدث دائما عن فكرة أن الاسلام دين العمل وأن لا مكان للكسالى والمتواكلين وانصاف المتعلمين في المجتمع المسلم المتحضر، ويردد قوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)،
فوائد العمل معه:
وقد أفدت من العمل معه فوائد جمة كان أهمها القدرة على الاستمرار في العمل لساعات طويلة دون كلل او ملل ودون شعور بالجوع او مرور الوقت،
ولن أنسى يوم طلبني للعمل معه مساء في البيت قال لي: (لا تنس ان تتناول عشاءك قبل الحضور إلي) ثم أضاف باسماً بتواضع ومرح: (لا تظنني بخيلاً وإنما لاننى أنسى الاكل اذا بدأت العمل ولا أريد ان أظلمك معي)!،
وفي الفترة التي أمضاها المليك المفدى وزيراً للداخلية ووزيراً للدفاع والطيران بالنيابة ونائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء استمر ايضا يؤسس للرسالة التي بدأها حين كان وزيراً للمعارف، رسالة اهمية انتشار التعليم وتعميق الايمان، من هنا وجدناه ينطلق في وزارة الداخلية يفتح المدارس والمعاهد لمنسوبي الوزارة منها (معهد اللغات) و(مدينة التدريب) و(معهد التربية البدنية) و(معهد قيادة السيارات) و(معهد ضباط الصف والجنود) وغيرها من المعاهد والمدارس التي تخدم التعليم الشخصي والتثقيف الأمني والتدريب العسكري، فقد كان يقول في هذه الفترة: (ان الامن الوطني الذي ننشده لبلادنا لن يتحقق الا عبر الاهتمام بالامن التعليمي)، وقد كانت هذه (النظرية) الشغل الشاغل لصاحب السمو الملكي الامير سلطان بن عبدالعزيز بالنسبة للقوات المسلحة التي أصبحت اليوم بعد أربعين عاما من مسيرته الخيرة معه غنية بالكفاءات العلمية السعودية بأعلى الرتب والدرجات الاكاديمية،
ولما كان العلم مرافقا للايمان ولا يبقى الانسان عالما بحق الا من خلال ايمانه بعقيدة أمته، فإن كلا من خادم الحرمين الشريفين وسمو الامير سلطان يؤكدان هذه الحقيقة في كل احاديثهما لرجال القوات المسلحة السعودية،
وقد لحظت ان هذه الفكرة كانت واضحة كل الوضوح في ذهن المليك المفدى منذ كان وزيرا للداخلية، وطالما سمعتها منه في خطبه التي يلقيها امام ابنائه الجنود في مناسبات تخريج دفعات العسكريين في مختلف المجالات،
أعظم اوقاته السعيدة:
ولم أره سعيدا كما أراه في مثل هذه المناسبات، وكأنه يريد ان يوضح لنا سر سعادته قال ذات مرة: (ان النمو الحقيقي لقوة الوطن يتحقق في الايام التي يتم فيها تخريج دفعات من طلابنا وجنودنا من الكليات العسكرية والعلمية، هؤلاء هم قوة الوطن وصُناع المستقبل الذي أراه ماثلا أمامي) وقد عبر عن هذه النظرة ذات مرة، وذلك عندما رعى جلالة الملك فيصل رحمه الله حفل تخريج احدى دفعات كلية الملك عبدالعزيز الحربية في 11 صفر 1388ه كان سمو الامير فهد بن عبدالعزيز في استقباله بصفته النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية ووزير الدفاع والطيران بالنيابة، وبعد اداء مراسم التخرج سلم جلالة الملك فيصل شهادات التخرج وهدايا التفوق وقف الفهد سعيدا مغتبطا كانت سعادته غامرة وارتجل كلمة مؤثرة وصادقة امام الملك فيصل عبر فيها بكل مشاعره عن السعادة التي ملأت جوانحه قال: (ليسمح لي سيدي جلالة الملك القائد الاعلى للقوات المسلحة ان أعبر عن اغتباطي بهذه الثمار اليانعة التي اعتاد هذا الصرح العلمي الشامخ تقديمها كل عام والتي تضم ابناءنا الذين اكملوا دراساتهم وتمرسوا في الفنون العسكرية)،
وركز في هذه الكلمة على الحديث عن المستقبل، واهمية اعداد العدة له بالرجال والعلم وقال: (ولا اعدو الحقيقة اذا قلت ان الكلية حققت في الماضي وسوف تحقق في المستقبل إن شاء الله الهدف الذي أنشئت من اجله، كعنوان مشرف لانطلاقة شعب المملكة العربية السعودية اعزها الله وقواها على الحق وقوى جيشها الباسل الذي هو في الحقيقة جيش الاسلام والعروبة وحارس المقدسات الإسلامية)،
وكان في ذلك الوقت مهتما بمسألة تطوير قوة الدفاع الجوي السعودي فنحن لا نستطيع ان نحمي قواتنا المسلحة البرية دون غطاء جوي قوي دفاعي وهجومي، ولذلك عرج حفظه الله في هذه الكلمة على ما حدث من تطور في هذا الجانب وقال بعد ان شكر جلالة الملك فيصل على اهتمامه (، ، ، هاهو مشروع الدفاع الجوي قد أصبح حقيقة واقعة، فقد استكمل بفضل الله وعونه جميع مرافقه التعليمية والتدريبية اما السلاح الجوي فقد خطا خطوات سريعة)،
ثم اختتم كلمته مبشراً جلالة الملك (كما سنبدأ بمشيئة الله بتنفيذ مشروعات المدن العسكرية التي ستكون صورة حية لوثبات الجيش العربي السعودي في مجال الاخذ بأحدث منجزات العصر)،
وتحققت بفضل الله وتوفيقه تلك الآمال والطموحات التي تحدث مليكنا المفدى في صدر شبابه وحلم بها وتوقع حدوثها، فقد واصل صاحب السمو الملكي الامير سلطان بن عبدالعزيز وزير الدفاع والطيران حفظه الله واصل الليل بالنهار، ومعه الكفاءات التي تحدث عنها الفهد المفدى لتحويل الحلم بسلاح طيران سعودي قوي الى حقيقة اما المدن العسكرية فقد انشئت اكبر المدن العسكرية واحدثها بسواعد رجال القوات المسلحة السعودية البواسل في هذا العهد الزاهر الذي يقوده خادم الحرمين الشريفين أيده الله ،
فراسة المؤمن
والخاطر الذي ظل يحضرني دائما ويمثل امامي شاخصاً كلما تأملت حجم الانجازات التي تحققت في عهد خادم الحرمين الشريفين هو تذكري باستمرار ما كان يتحدث عنه خلال الفترة التي اقتربت منه فيها وهي السنوات الاولى من توليه وزارة الداخلية، كان يتحدث عن طموحات، وكان البعض يراها في ذلك الوقت من الاحلام،
وقد وقفت مع نفسي ذات مرة متأملا في السبب الذي جعل الفهد المفدى في ذلك الوقت يتحدث عن (طموحات) كان يراها قريبة في حين رآها البعض بعيدة، فوجدت ان الفرق بينه وبين هذا النوع من الناس يمكن في البون الشاسع بين طاقة عمله وعمل هؤلاء، ان يعمل بطاقة عشرة رجال ويتمنى ان يكون عدد ساعات اليوم الواحد اكثر من 24 ساعة من حقه ان يرى احلامه قريبة المنال وممكنة التحقيق،
وقد بلغني إنه قال ذات مرة ان المسؤولين الذين يعملون في حدود ساعات العمل الرسمي لا يستطيعون الارتفاع الى مستوى طموحات شعوبهم،
لهذا لابد ان نقول ان الذي يزرع الطموحات بإخلاص يحصد الانجازات باستحقاق، وهذا ما وفقه الله الى تحقيقه في عشرين عاما من حكمه الميمون، ولو حلمنا بالفعل بما تحقق على يديه لما صدقت عقولنا ان يتحقق هذا كله في عقدين من الزمان، وبدون مبالغة لان ما هو موجود على أرض المملكة العربية السعودية من منجزات فضلا عن مآثره في العالم العربي والاسلامي، كل ذلك يشهد له امام العالم، وهو لا يحتاج لهذه الشهادة لانه قدم ما عمل خالصاً لمرضاة ربه وخدمة شعبه وأمته،
ومن هنا فإنني لا أعجب كما لم يعجب كل الذين عرفوه وعملوا معه ان يقول بعد وضع خطة التنمية الاولى سنة 1390ه: «استطيع الآن ان اتصور كيف سنكون بعد أربعين عاما اذا سارت الخطط الخمسية على الأسس الصحيحة في التنفيذ وخدمة الاهداف»،
فكر ثاقب:
الذين سمعوا منه هذه الجملة يدركون اليوم كيف كان حفظه الله بعيد النظر، وليس سرا ان جلالة الملك فيصل رحمه الله قد جعله من الركائز الاساسية في الاشراف على وضع هذه الخطة والعمل على تنفيذها قدر المستطاع رغم المعوقات التي تعرضت، كان الفيصل يعرف في الفهد طاقته الهائلة على العمل وقدراته في القيادة الادارية وإيمانه بأن هذا الوطن لا يمكن ان ينهض إلا على تأسيس بنية تحتية قوية ومتينة وقادرة على تحمل الصعاب وتجاوز الازمات،
واليوم بعد مضي أربعين عاما على ذلك الحديث أتساءل: هل استطاع خيال الذين سمعوا هذه العبارة منه ان يصل الى تخيل ما تحقق على يديه في عشرين عاما؟ أما هو نفسه فقد كان على ثقة من ذلك، وكان يستمد هذه الثقة من إيمانه العميق بالله ثم من عمله الدؤوب الذي لا يتوقف ومن تفاؤله بعمل الرجال من اصحاب العزائم الصادقة في هذه الدولة،
ومن يتأمل أحاديث الفهد المفدى وخطبه لا تلك التي قالها بعد مبايعته ملكاً على البلاد بل ايضاً ما قاله قبل ذلك منذ كان وزيراً للمعارف ثم وزيراً للداخلية، ونائباً ثانياً ثم ولياً للعهد، سيجد ان هناك فكرةً اساسية مشتركة تجمع ما قاله في كل العهود، وتؤكد انه لم يكن يقول كلاماً للمناسبات فقط، بل كان ينطلق من هدف اختطه لنفسه وظل يعمل من أجله لا يحيد عنه منذ شق طريقه على درب المسئوليات، هذا الهدف هو إحداث نهضة حضارية شاملة في هذه الدولة، والقفز بها الى الخطوط الامامية على ساحة سباق الحضارات،
لهذا وجدناه يصر على عنصرين اساسيين للنجاح والتوفيق الذي ننشده في كل ما تحدث به وعمل من أجله، هذان العنصران هما التمسك بالعقيدة الإسلامية الصحيحة والاهتمام بتنمية القوى البشرية الوطنية، وقد انطلق من التعليم عندما كان وزيراً للمعارف ليبدأ بالنشء، ، أساس التنمية الوطنية يعمق في نفوسهم من خلال التعليم والتربية الايمانية والعقيدة الصحيحة، لانه يكرر دائماً اذا صلحت عقيدة الانسان صلح عمله كله وبارك الله له فيه،
هذا هو الاسلام
يقول حفظه الله في خطابه الذي ألقاه في قاعدة الملك فيصل البحرية في 24/11/1404ه «القاعدة الأساسية التي نعمل بها هي تمسك هذه البلاد حكومة وشعبا بالعقيدة الاسلامية التي على أساسها أنعم الله علينا بالخير، وجعل هذه البلاد الآن في أحسن ما يمكن من العز والسؤدد، وهي القاعدة الاسلامية التي شرف الله هذه البلاد بها، وان تكون هي القاعدة الأساسية لها، والمنطلق لجميع أنحاء العالم، لما فيه اسعاد البشرية» ويخاطب الشباب جيل المستقبل فيقول للمبتعثين في 23/11/1404ه «العقيدة الاسلامية ليست شعاراً ولكنها قول وعمل، لا اندفاع ولا تراجع، ليس في الاسلام رهبانية، ولا في الاسلام خوف وتشدد ولا فيه انحلال، نعمة الاسلام انه دين وسط، فلذلك فإن التشدد المبني على غير أسس لا يفيد، والانحلال ضلال وفساد وانحراف عن العقيدة الصحيحة»،
وسيجد الدارس والباحث في كلمات وخطب الفهد المفدى حفظه الله تلك الواقعية في الخطاب التي لا يتوقعها أحد من ملك، ولكنها واقعية حض عليها الاسلام وتعامل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين، وهو قدوة المسلمين جميعا حكاما ومحكومين، لهذا نجد خادم الحرمين الشريفين حين يتخاطب مع أبنائه الطلاب ينزل الى عالمهم والى واقع معاناتهم، ولا ينطلق في خطابه اليهم من منطلقات مثالية صعبة التنفيذ فحين يتحدث عن الخطأ يذكربالتوبة، ففي كلمته للطلاب السعوديين المبتعثين للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية في 25/5/1405ه يقول بلغة الأب العطوف المدرك للمغريات التي يواجهونها في مجتمع غير مسلم:«، ، لا أعتقد ان هناك حاجة لأن أفصل الكثير من فضائل العقيدة الاسلامية، لأنكم لستم غرباء عنها، أنتم أبناء العقيدة الاسلامية، هذا لا ينفي أننا بشر، وأننا معرضون للخطأ والصواب، لكن ميزة ديننا ان المسلم إذا أخطأ وجد الطريق مفتوحا أمامه لتلافي هذا الخطأ، ، يعود الى رب العزة والجلال تائباً، والله غفور رحيم»، والحقيقة كما سبق ان أشرت ان هذه النزعة الايمانية لم تكن وليدة مرحلة من مراحل حياته، بل هي حياته كلها، تشربها من والده مؤسس هذا الكيان الكبير الملك عبدالعزيز رحمه الله الذي أقام هذه الدولة على دعامة الايمان والعقيدة الصحيحة، فلا غرابة ان تكون العقيدة الاسلامية فلسفة حياة الفهد المفدى ومصدر انطلاقه نحو فهم وتنظيم كل شيء في حياته الشخصية وحياة شعبه وأمته ونظام دولته، ولعل مثالا واحداً يكفي للتدليل على عمق هذا التوجه الفكري المبكر والأمثلة كثيرة بالطبع،
فكره التنظيمي
في سنة 1380ه رأس الفهد المفدى وفد المملكة العربية السعودية الى اجتماعات الجامعة العربية بالقاهرة، وحل شهر رمضان، ففوجىء المؤتمرون بالأمير السعودي الشاب ينشر مقالا في جريدة الأخبار المصرية الصادرة في 29/2/1960م:«الصوم دعوة للنظام»، وقد لفتت نظري فيه هذه العبارة التي ينبه فيها العنصر الحضاري في حكمة الصوم يقول:«الصوم دعوة الى النظام، وآية ذلك أننا نصوم في وقت واحد، ونفطر في وقت واحد،
والصائم يكون دائما وأبدا في قبضة النظام أمام مطالب الجسد، وحركات العقل ونوازع الروح، فلا يفلت من هذا النظام الأسمى لحظة واحدة من ليل أو نهار»،
ولو لم أكن اعرفه أنه حفظه الله كاتب هذا المقال، لقلت إن كاتبه مفكر تربوي من الطراز الأول أو عسكري تربوي من الطراز الأول لأن أساس التربية النظام والدقة والانضباط سواء كانت التربية العسكرية أو التربية التعليمية، والمليك المفدى اعتنى بهذا الجانب جانب «النظام والانضباط» لأنهما ما من صميم الحياة الاسلامية الحقة، وقد حمل هذا المنهج معه من وزارة المعارف الى وزارة الداخلية ثم على مستوى الدولة كلها، فيقوم بعد مبايعته الميمونة ملكاً على هذه البلاد في 21/8/1402ه بوضع أنظمة الحكم والشورى والمناطق، فأصدر حفظه الله في 26/8/1412ه الأنظمة الثلاثة، نظام الشورى ليتداول أصحاب الرأي في البلاد المشاركة بآرائهم لما فيه مصلحة الوطن، والنظام الأساسي في الحكم ونظام المناطق الذي يهدف الى رفع مستوى العمل الاداري والتنمية في المملكة، كما يهدف الى تحديد هياكل التنظيم الاداري المحلي، ويساعد امير كل منطقة على ادارتها وفقا للسياسة العامة للدولة، وبما يحقق الامن والرخاء للمواطنين، ووضع النظام وسائل المحافظة على اموال الدولة ومنع التعدي عليها، فضلا عن الاشراف على أجهزة الحكومة وموظفيها في المنطقة للتأكد من حسن ادائهم لعملهم،
مواهب متعددة:
ولا تجد جانبا من جوانب الدولة الا وتجد له الفضل الاساسي بعد توفيق الله سبحانه وتعالى في الاهتمام به وتطويره كأنه متخصص في مجاله، فمن التربية والتعليم «المعارف» الى الداخلية والامن الى القوات المسلحة الى وضع الانظمة والتخطيط لها ومتابعة تنفيذها الى مجلس الوزراء ومسؤوليات الدولة المتعددة التي حمل عبئها نائبا ثانيا ووليا للعهد حتى تاريخ مبايعته الى اليوم أيده الله ومع ذلك فحين نتتبع اهتمامه بالعلاقات الخارجية، ودوره المشهود في عهدي الملكين فيصل وخالد في رأب الصدع بين الدول العربية، ورحلاته الى الدول الغربية ذات الصلة بالصراع في الشرق الاوسط وقضية فلسطين، يجد المتتبع لهذا التاريخ الثري الطويل في الرحلات السياسية والدبلوماسية وكأن الفهد المفدى لم يكن يشغله الا العمل السياسي الخارجي وحده،
ولكن الحقيقة والتاريخ لا يملكان كان الا ان يقولا ان فهد بن عبد العزيز شخصية فريدة بحق وشخصية فريدة بتنوع اهتماماته وتعدد مواهبه، وطاقته الهائلة على العمل، وصبره ومثابرته وحكمته وبكل هذه الصفات وصل بصورة المملكة العربية السعودية الى مرحلة الثبات والاستقرار واصبحت هذه الدولة في نظر العالم كله ان ما يصدر عنها يمثل الموافقة الشرعية لمصلحة المسلمين قاطبة لا لمصلحة شعبها وحده، لان الفهد المفدى احتضن عالمه العربي والاسلامي كله، اهتم بقضايا المسلمين والقضايا الانسانية عامة،
وقد عبر عن هذا المعنى اكثر من مرة في اكثر من مناسبة فقال في خطابه للأمة في موسم حج 1409ه،
«المملكة العربية السعودية، لن تألو جهدا، في سبيل خير جميع شعوب الأرض وسعادتها، وفي مقدمة هذه الشعوب، شعوب الأمة الاسلامية، فهي القوة الثالثة، في عالم تسوده القوة، وتحكمه الهيمنة، وعلينا ان نشكل بتعاوننا، ما يمكننا من تكريس مبادىء السلام والتعاون بين شعوب الأرض»،
كما اهتم بقضايا الدول والأقليات المسلمة وقدم لها الدعم المادي والمعنوي خلال العشرين عاما الماضية بالمليارات، يقول بهذا الصدد في الخطاب السابق ما نصه:
«تعيش أقليات مسلمة، خارج أوطانها، وتعاني من أفراد وجماعات وأنظمة، تعمل على تجريدها من هويتها الاسلامية، وتمنعها من ممارسة أبسط حقوقها الانسانية وتحرص على تذويب خصائصها ومكوناتها الاسلامية،
ولذلك فالأمة الاسلامية، مدعوة اليوم الى التضامن والتكاتف، مع هذه الأقليات المسلمة، لدرء الأخطار المحدقة بها، مع أننا على اقتناع، بأن بعض الأنظمة، استطاعت ان تتفهم أوضاع تلك الاقليات، فمنحتها شيئا من حقوقها، ونأمل ان تحذو بقية الأنظمة المماثلة، حذو أنظمة أدركت ان بنيانها الاجتماعي، يستوجب التسامح والاخاء ولا يتطلب التعصب الأعمى»،
الثبات على المنهج:
وانتهجت المملكة العربية السعودية في هذا العهد الزاهر بقيادة خادم الحرمين الشريفين سياسة حكيمة في التعامل مع الدول العربية المجاورة حيث أصبحت بمثابة الشقيقة الكبرى لاخواتها في الجزيرة العربية والخليج، ورأيها وموقفها موضع اعتبار واهتمام من الدول العربية الأخرى، وهي سند قوي لهم وللدول الاسلامية جميعا اقتصاديا وسياسيا، وهي مع الذين لا يخالفون شرع الله، ومن تختلف معهم فان شعارها لا تتدخل في شؤون الغير،
ولم تتعامل المملكة بالمثل مع الذين أساءوا اليها أو حاربوها باليد واللسان او غيرها من الوسائل، وانما تعاملت بالمبدأ القرآني «ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» ولم تكتف بالتسامح مع المسيء بل أحسنت اليه ولم تضمر المملكة قط سوءا في يوم من الايام لشعب من شعوب الدول التي اساءت اليها فشعارها كما أعلنه مرارا مليكنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز مستمد من قوله تعالى «ولا تزر وازرة وزر أخرى»،
ومساند لكل الشعوب العربية والاسلامية، مشاركا في السراء مواسيا في الضراء ولم يجعل قط مواقف الخلاف السياسي بين الحكومات يقف حائلا دون مد يد العون للشعوب والامثلة على ذلك كثيرة اوضح من ان تذكر،
هذا هو قائدنا وإمامنا خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، وهذه هي دولتنا المملكة العربية السعودية التي جعلت الإسلام لها نظام حكم لدولتها ومنهاج حياة لشعبها، وجعلت أوامر الله ونواهيه مقياس تعاملها مع الأفراد والشعوب، ويكفيها فخراً انها الدولة الوحيدة على وجه الأرض التي لا ينكس لها علم عند موت صغير أو كبير، فالله أكبر من كل كبير، وما دام هذا العلم يحمل شعار (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فهو لا ينكس لأحد ويظل ليل نهار يرفرف مستعلياً بالله، معبراً عن عزة المسلم وعن كبريانه وعن إيمانه، لهذا عرفت سياسة المملكة العربية السعودية بين الدول والأمم بالثبات والاتزان ورباطه الجأش إذ لا يستطيع أحد مهما كبر حجمه ان يفرض عليها ما يخالف شرع الله، ، عقيدتها الإسلامية التي تعض عليها بالنواجذ من ملكها إلى خفيرها،
رؤيته لسنة 2000م:
وبعد فإذا كانت هذه كلمة وفاء نعبر بها عما يجيش به القلب لأ وفى الرجال لوطنه، ونستعرض إنجازاته فنعجب بها ونعجب لها، ويجعب لها العالم كله، ولكنها هذه الانجازات لم تكن عجباً بالنسبة له، وإنما كانت حقيقة واقعة يراها رأي العين ببصيرته القوية، وعزمه الأكيد، لهذا فإنه يجدر ان نختم هذه الكلمة بالقول بأن الفهد المفدَّى قد رأى هذا كله وتحدث عنه وتوقعه لوطنه قبل أكثر من ثلاثين عاماً عندما سألته مجلة الحوادث اللبنانية (عدد رقم 936) وهو لايزال وزيراً للداخلية، سألته عن توقعاته للمملكة العربية السعودية عام 2000م فقال ما نصه:
«أرى المملكة كما يتصورها أي مواطن سعودي، ، وأي حاكم صالح لبلده من حيث الوصول إلى المستوى الأكمل في مجال العلم، والمستوى الأعظم في المجال الاقتصادي، مع محاولة الاكتفاء الذاتي وعدم الاعتماد على الخارج فيما يتعلق بتفهم وممارسة علم التكنولوجيا الحديثة، إنني أغمض عيني الآن كي أعود وأفتحها عام 2000 على بلدي لكي أراها جنة خضراء، أرضها خير، ومدنها منارات وسماؤها دخان المصانع، وبناياتها جامعات وشعبها ينعم برضا ربه ويشكر نعماءه عليه،
بلدي عام 2000م هو بلد كل عربي، جيشه جيش العرب، وأهله أهل العرب، ومجده مجد العرب، بلدي عام 2000 هو الموسم الدائم لأرباب الفن والأدب والشعر والخلق والابداع، يحاول أهله بعث أمجاد الاسلام الأولى وإعادة حضارات المسلمين، حياته سباق دائم بين شبابه، وعمره تحفز نحو الأجمل والأحسن والأكمل والأعلى بلدي عام 2000 هو الأمل الكبير»،
تلكم هي فراسة المؤمن
وتوقعات المخلص المحب لوطنه وعبقرية السياسي الفطن
هذا هو الفهد المفدى
وذلكم كان ما توقعه قبل أكثر من ثلاثين عاماً
وقد حققه لشعبه ولأمته
فهنيئاً لهذا الشعب بالفهد وبإنجازاته
وهنيئاً بهذه الأمة الإسلامية التي أحبها
وليوفقه الله في تقديم المزيد،
ولينصره بتأييده وهداه
وليبارك الله في عمره ويحفظه ويرعاه
إنه سميع مجيب،


أعلـىالصفحةرجوع












[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved