| مقـالات
لا يرتاب عاقل في أنه لا يصح ان يترك الانتاج الفكري كلاً مباحاً لكل احد من الكتاب والمؤلفين يؤلفون ماشاءوا ويقولون ما شاءوا دون مراعاة لضوابط تلائم خصوصية هذه البلاد ومن غير حرص على رونق هذا الانتاج ونضارته ودون عناية بضرورة تنقيته من الشوائب المضرّة به والتي غالباً ما يكون دافعها طلب الربح المادي أو المباهاة بالعلم والمعرفة.
ووزارة الإعلام هي الجهة المختصة بإصدار تراخيص المطبوعات ولذا فهي تستعين بمختصين من الافراد والمؤسسات العلمية في مراجعة ما يردها من مؤلفات بهدف التحقق من سلامة منهجها وفائدتها العلمية، مع التركيز على الملحوظات التي يجب استيفاؤها لمصلحة البحث العلمي وغض الطرف عما يحتمل الاجتهاد نتيجة اختلاف وجهات النظر في التحليل والاستقصاء.
هذا الالتزام ولَّد في الطرف الآخر - اي عند أصحاب الكتب والبحوث والدراسات - تذمراً عند الذين يريدون لانتاجهم العلمي ان يرى النور بسرعة دون إعارة اهتمام بالضوابط المطلوبة لهذا الانتاج، ودون إدراك لما يترتب على هذه الضوابط من اجراءات وتبعات لابد من تعاون الجميع لتحمُّلها من اجل المصلحة العامة.
وبدأ الحديث في المجالس والمنتديات الثقافية وغيرها عن هذا العمل الرقابي من وزارة الاعلام الذي لا ريب انها قصدت به تطهير الحركة العلمية الوطنية من الغثاء والاكتفاء بما ينفع الناس، وتعددت وجهات النظر حيال هذا الوضع بين معارض ومؤيد بحسب قناعة الشخص ووعيه ومستواه العلمي والثقافي.
والذي ظهر لي ان المتذمرين اصناف أربعة: صنف من الملتزمين بالضوابط العلمية وجودة الانتاج، وصنف تعاني بحوثهم من بعض الاخطاء او نقص المنهجية التي يمكن بشيء من الجهد تداركها، وصنف تتصف بحوثهم بالضعف العلمي والمنهجي الى درجة لا يمكن تداركها، وصنف من الملتزمين بالضوابط العلمية وجودة الانتاج لكن انتاجهم يتعارض بصورة أو بأخرى مع ضرورات اخرى أمنية او اجتماعية ونحوها.
اما الصنف الاول الملتزم بالضوابط العلمية فتقتصر مراجعة انتاجهم على الاطلاع فحسب وموقفهم لا يتعدى دعوى التأخير في الاجراءات نتيجة دورة الاوراق المعتادة، ويمكن تفهمهم للوضع بعد التعرف على ظروفه وفوائده ومردوده على انتاجهم الرصين بالذات، لان كثرة الانتاج الرديء يلحق ضرراً بالانتاج الرصين.
أمَّا الصف الثاني ممن تعاني بحوثهم من بعض الاخطاء أو ضعف المنهجية التي يمكن تداركها فيسعى المختصون الى رقع خللهم واثراء انتاجهم بالملحوظات العلمية التي ترفع قيمة العمل فموقفهم من مراجعة انتاجهم - في الغالب - يتسم بالتفهم والشكر احياناً على الملحوظات المفيدة، وقد تظهر حالات تذمر استنكافاً عن ان توجه لاصحابها ملحوظات دون اعارة اهتمام لسلامتها او فائدتها.
أمَّا الصنف الثالث الذين تتصف بحوثهم بالضعف العلمي والمنهجي الى درجة كبيرة فهذا الصنف هو مصدر ما يثار في المجالس من اساءة لوزارة الاعلام وللمختصين الذي يساعدون الوزارة في تمحيص ما يردها من مطبوعات، لان عمل وزارة الاعلام يستهدف بالدرجة الاولى الانتاج الرديء ومحاولة اصلاحه ان كان قابلاً للاصلاح او منعه اذا لم يمكن اصلاحه. واصبح هذا الصنف مثار عدة اسئلة حول هذا الموضوع.
اما الصنف الرابع الملتزم بالضوابط العلمية مع معارضة انتاجهم لضرورات اخرى امنية او اجتماعية ونحوها فيقدر لهم جهدهم ولكن ينبغي ان يقدِّروا الاسباب الموضوعية التي تمنع نشر انتاجهم العلمي على النحو الذي سأبينه لاحقاً عند الاجابة على بعض التساؤلات المطروحة.
فالسؤال الاول الذي يمكن ان يطرح هو هل هناك فوائد يمكن ان تجتنى من عمل مقص الرقيب ام ان الافضل ان تترك الساحة العلمية والثقافية كلاً مباحاً لكل أحد؟ وما صفة الرقيب المطلوب؟!
أمَّا عن اهمية مقص الرقيب فلن تجد في بلاد الدنيا كلها تراثاً فكرياً اصبح كلاً مباحاً بل انه في كل بلد مثقل بالضوابط التي تحفظ سلامته وتؤكد نقاءه ليقدم للاجيال بصورة زاهية تعبر عن عمقه وتأثيره.
اما صفة الرقيب المطلوب فهي مراعاة الصيغة العلمية الحقيقية التي تلتزم الامانة العلمية والعرض الصادق والتحليل المنطقي لمواد الانتاج الفكري بالنظر الى ظروفه المكانية والزمانية والظروف البيئية بمختلف مجالاتها وتأثيراتها.
وفي رأيي الشخصي أن الاجراءات التي تنتهجها وزارة الاعلام قبل إصدار تراخيص المطبوعات هي في صالح الحركة العلمية السعودية لان هذه الاجراءات تتعلق بالجانب الكيفي حيث تمثل حماية لمقتضيات البحث العلمي الجاد والرصين كي لا يصح في النهاية الا الصحيح.
وقد جنت الحركة العلمية في بلادنا ثمار هذا الاجراء فكل الذين يزمعون طبع دراساتهم او بحوثهم حتى من اساتذة الجامعات والمتخصصين اصبحوا يحسبون حساباً لتلك الاجراءات. وهذا بالطبع له فوائد حاضرة ومستقبلة يعود نفعها على الانتاج الفكري الوطني، هذا واجب وطني لابد ان ينهض به الجميع من مؤسسات وافراد مسؤولين او مواطنين.
ويجب ان نزجي الشكر لاولئك الرجال الذين يقومون بعملهم بجد ونشاط في الوكالة المساعدة للاعلام الداخلي من اجل تنقية انتاجنا الفكري وصبغه بصبغة ثوابتنا وقيمنا النبيلة برغم ما يتعرضون له من ضغوط العمل وكثافته وحرص المراجعين بل وإصرارهم على سرعة انجاز طلباتهم وقد روى لي اخي الاستاذ عبدالعزيز بن حمد الشدي صوراً جميلة من مثابرة اولئك الرجال برغم ضغوط العمل والظروف الخارجة عن إرادتهم.
فلهم منا الشكر والدعاء بقيادة الاستاذ الفاضل مسفر بن سعد المسفر وكيل وزارة الاعلام المساعد للاعلام الداخلي وبتوجيهات مباشرة من معالي الوزير الدكتور عبدالسلام الفارسي.
والسؤال الثاني الذي قد يطرح هو هل من المفيد ان تصبح بعض دول الخليج وغيرها من الدول القريبة والبعيدة العربية والعجمية محل استقطاب للدراسات والبحوث التي تمتنع وزارة الاعلام عن الترخيص لها بناء على المشورة العلمية او لاسباب امنية او اجتماعية؟
ويتساءلون كذلك: هل من المصلحة ان ينشر اصحاب تلك الدراسات والبحوث انتاجهم خارج الحدود فيصبح جزء من فكرنا بيد غير أهله؟!
والجواب أن هناك عدة اسباب لمنع انتاج علمي «ما» عند مراجعته او مراقبته فهي إمَّا اسباب علمية بسبب ملحوظات منهجية او ملحوظات علمية لا يمكن تجاوزها او لرداءة الانتاج ذاته، وإمَّا اسباب امنية، وإمَّا اسباب اجتماعية.
وفي جميع هذه الاسباب ينبغي على المنصف ان يقدر الدوافع اليها وان يعمل فيها النظر الفقهي والقواعد الشرعية الصحيحة ومنها أن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
نعم نقول: إن النظر المجرد والعاطفة الجياشة قد يدعوان الى ان ينشر الانتاج الفكري عارياً كما ولدته الاحداث والافكار ليصح حكم الاجيال الحاضرة واللاحقة عليه دون محاولة إلباسه بأية لبوس وبأي لون من اجتهادات المجتهدين ولكن لا يصح ان نتجاهل وفق القواعد الشرعية الاسباب الموضوعية التي قد تمنع تقديم هذ الانتاج بالصورة التي ولد بها.
وماذا يضير انتاجنا الفكري اذا نشر في غير موطنه؟ ثم اليس مثار التعجب والاولى بالتساؤل حقاً ان تصدر من بلادنا دراسات هزيلة لا تضيف مفيدا؟! وما الجدوى من اصدار دراسات باسم النزاهة العلمية وحرية الكلمة اذا كان فيها اضرار بنسيج المجتمع الوطني وبث التفرقة بين افراده او السخرية من طائفة من طوائفه؟!.
وفي هذه الحالة بالذات وإعمالاً للقواعد الفقهية الشرعية يجب ان نغض النظر عن صحة المعلومة او خطئها فكم من معلومة صحيحة في جانب سلبي تعدى اثرها الى من لا ناقة له ولا جمل في حدوثها. فلمصلحة من يضار ويؤذى شخص بسبب خطأ غيره؟ ولمصلحة من تضار طائفة بسبب موقف سلبي من شخص واحد منها؟
والسؤال الثالث الذي قد يثار هو: ما اثر هذا الاجراء في ظل العولمة وتغلغل وسائل الاتصال والتقنيات الحديثة وعلى رأسها الانترنت مما يجعل نقل المعلومات بسرعة كبيرة أمراً ميسوراً ان تقف امامه العوائق؟
والجواب ان هذا الاشكال ليس مختصاً بعمل وزارة الاعلام فقط بل هو مما يتعلق بالرقابة في مختلف المجالات الفكرية عامة. ثم انه كما ان وسائل الاتصال والتقنيات تتقدم فان وسائل تنقيتها وتهذيبها تتقدم كذلك والدول المختلفة بما فيها كثير من الدول الاوروبية المتقدمة تسعى الى حماية مجتمعاتها من الذوبان الفكري الذي تهددها به تلك التقنيات والعولمة، ثم ان الذين يستطيعون تجاوز وسائل التهذيب والتنقية هم بالمقارنة مع المجموع عدد محدود فضررهم محدود في دائرة انفسهم ومن يتعامل معهم.
وفي مختتم القيل أعلم ان حركة الانتاج الفكري المفيد لن تتأثر بالاجراءات التي تستهدف مصلحة هذه الحركة بالدرجة الاولى والدليل على صحة هذا الاستنتاج وفائدة المنهج وسلامته ان الدراسات والبحوث الجادة لم يتوقف نشرها وانه بين الفينة والاخرى يتحفنا ظهور الجديد منها والمؤكَّد ان العبرة بالكيف لا بالكم بل ان انتاجنا الفكري الوطني بحاجة الى غربلة الكم ليستقيم عود الكيف على طريق البحث العلمي الرصين القادر على كسب ثقة المطلع الناقد البصير من اهل هذه البلاد ومن خارجها.
ومع الأيام ستختفي هذه الاشكالات الناتجة عن عدم الوعي باهداف العمل الحاضرة والمستقبلة حينما تستقيم حركة الانتاج الفكري في مجال الدراسات والبحوث العلمية على منهج بصير مثمر وعند الصباح يحمد القوم السرى.
وبالله التوفيق
alsmariibrahim@hotmail.com
|
|
|
|
|