| مقـالات
قال أبو عبدالرحمن: كالعادة أقدم لشهر رمضان المبارك، وبين يديه ما يلامس القلوب بالبرهان العلمي، وكنت ذكرت في إحدى المناسبات علاج توماس الأكويني للحيرة بين الدين والفلسفة والفلسفة هي المعادلة للعقل ؛ فذكرت أن الإيمان بالشرع إيمان علمي برهاني من ثماني جهات، ويهم هاهنا بيان الجهات التي يقوم عليها الإيمان بالمغيب، وأقدم لذلك بأن كل أمر أُدُّعيتْ غيبيته؛ فذلك الادعاء يشمل الوجود ولوازمه من تحديد الكيفية والكمية بوصف مطابق أو تشبيه مقارب.. ومادة الوصف والتشبيه: الواقع المشاهد.. وذلك الادعاء لا يخلو من ثلاث حالات لا يتصور العقل غيرهن:
الحالة الأولى: ادعاء ما ليس بواقع افتراءً وتخيلاً: إما لأنه غير ممكن في الواقع ببرهان يحيله، وإما لأنه ممكن ولكن البرهان نفى تعيُّنه وحدوثه.
الحالة الثانية: ادعاء ما ليس بواقع والبرهان لا يحيل وقوعه، بل وقوعه ممكن ، ولكن الحكم بوقوعه افتراء وتخيل وإن كان ممكناً: إما لأن البرهان نفى وقوع تعيُّن ووقوع هذا الممكن، وإما لأن البرهان لم ينفه ولكنه لم يرد بوقوعه وتعيُّنه؛ ذلك أن الممكن لا يصح الحكم بوقوعه وتعيُّنه إلا بشرطين هما: تخلف المانع من إمكانه، ووجود المقتضي لوجوده بالصفة التي هو عليها كَمَّاً وكيفاً بالوصف أو التشبيه، أو الاستنتاج العقلي من آثاره.
وهذان الادعاءان يشملان ما يحكيه القصاص كصاحب عرائس المجالس من محالات في توصيف كيفي وتقدير كمي لشيء صحيح وجوده بغير ما ذكروه كوجود الملائكة، ويأجوج ومأجوج، أو لشيء محال أو غير متعين كما يقال عن بدايات الخلق من غير وحي صحيح الثبوت، ومن غير برهان علمي.
الحالة الثالثة: واقع مغيَّب صحيح تخلف المانع من نفيه، وتعيَّن برهان الإيمان به كوجود الله سبحانه بصفات الكمال، ووجود الملائكة والجن وأحوال الآخرة؛ فالإيمان بالله بصفات الكمال إجمالاً قائم بالبرهان العلمي الحسي القطعي التجريبي من الواقع المشهود الذي يحتِّم خالقاً مالكاً مدبراً غير منازع في الخلق والتدبير والملك والهيمنة والقيومية.. إلخ، ويصدر عنه كل ما لايقنع العقل بسواه من سببية ترجع إليها كل الأسباب، وعناية، وغائية تُعرف بها واحدية الخالق، وواحدية القصد، وعظمة ولطف وإبداع وحكمة وعلم وقدرة وهيمنة ذي الوحدانية في كماله وما صدر عنه من أفعال... وهذا هو دين العقلاء الذين وُجدوا على فترة من الرسل.. ثم جاء البرهان التفصيلي بالوحي الذي تأسس الإيمان به علمياً بالبراهين العلمية العقلية المحضة، والعقلية الحسية: بأن هذا البشير النذير مرسل من ربه؛ فالتحم هذا البرهان عن صدق أن هذا الرجل مرسل من ربه بالبراهين العلمية المسبقة عن كمال الله.. ومن كماله الصدق والبراءة من الجهل والنقص؛ فكان هذا الإيمان العلمي مقتضياً الاستسلام المطلق للوحي بشرط صحة ثبوته، وصحة دلالته ، والعلم المطلق بأن العقل العالم، ووسائله الحسية في الإدراك كلها مخلوقة، ومعارفه مهما بلغت من الحيوية منحة من خالقها لا تأخذ من علمه إلا بمقدار؛ فهي قاصرة محدودة، وهي لا تهتدي إلا بتربية كونية وشرعية من خالقها.. فأما التربية الكونية فهي غرز المبادىء الفطرية منذ بداية الوعي العقلي بعد الغريزة الإرادية في المهد.. ثم نمو العقل وحيويته أو كسله وفق الصحة والمرض، وكثرة الشاهد الحسي أو قلته، والاستسلام لنوازع الشر والباطل والقبح بباعث الأهواء والحمية وشهوات الجسد باللذائذ.. ومن اللذائذ إرضاء ما يصدر من سلوك عن الغضب.. ويقابل هذا الاستسلام التجرد من بواعث الغرائز الأمارة بالسوء، فتظهر الغرائز الخيّرة المضادة، وتظهر الإرادة الرجولية للعقل في الموازنة بين الغرائز بما يستقيم مع الفطرة التي هي سنة الله الكونية التي لاتجد لها تبديلاً ولا تحويلاً في الأنفس و الآفاق.. وتستمر هذه التربية الكونية من رياضة للسلوك بالعقل، ومن دأبه على التزود العلمي بالشواهد الحسية.. ثم يظل النقص حتى يُرد إلى أرذل العلم.. وأما التربية الشرعية فهي حقائق أخبار الوحي، وحقائق أمره ونهيه التي سبق الإيمان العلمي بعصمتها إذا صحت دلالة وثبوتاً، ففي هذه التربية تحديد مجال العقل بحريته تارة، وبتقييده تارة: بأن يفهم ما يُلقى إليه، ويميزه من غيره، ويقف عند حدود مراده.. وفي التقييد علم يقيني للعقل بأن صحة وكمال معارفه مرهون بغريزته «مبادئه الفطرية» وبمدى شواهده الحسية.. وقد أثبتت له خبرته أن ما استجد له من شواهد حسية هذا اليوم كان غائباً عنه بالأمس.. ومعنى هذا أنه لا يحيط علمه بكل واقع حسي، وأن من الواقع الحسي ماهو سابق لوجوده، ومنه ما يستجد في حياة المفكر من صنع البشر، أو خلق الله المستجد.. ومنه ما سيوجد بعد وفاة المفكر.. وبهاتين التربيتين «الكونية، والشرعية» تيقن العقل أن الضمانة لاهتدائه العبودية المطلقة لخالقه سبحانه.. وبهذا يحس بضرورة اللجأ إلى الله بالدعاء الذي وصل إليه بالوحي الثابت لديه بالبرهان العلمي كما في قوله تعالى «وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله» سورة الاعراف 43، و«لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين» سورة الانعام 77، ويقول في قنوته: اللهم اهدنا فيمن هديت.. ويقول في استفتاحه لصلاة التهجد: اهدني لما اختلف فيه من الحق.. ويبتهل الى الله منزل الوحي (ذي البراهين العلمية) بالاستدامة على الهداية كما في قوله تعالى «ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا» سورة آل عمران 8، ومن حرية العقل الشرعية، وقدرته الكونية يعمل بكل وسعه في دنياه: لاكتشاف مغيب بقوانين علمية، كمعرفة بعض قوانين الكون، والتعرف على ما غاب في البر والبحر والأفلاك، وينظِّم حرفته ومهارته صناعة وزراعة وتجارة وطباً.. إلخ.. أو يعمل بكل وسعه في ايجاد مصنوع يخترعه من المادة وبالمادة التي خلقها الله.. لا حجر عليه في كل ذلك إلا بتوظيف كشفه وصنعه للحق والخير والجمال، وهي قيم وجودية بخبر الشرع وأمره ونهيه، وبجبلة العقل إذا لم يخدش فطرة مبادئه هوى تبعيَّةٍ ما.. ومن قدرة العقل الكونية وعبوديته الشرعية يجتهد بكل مداركه ووسائله الموصِّلة في فهم وحي الله كما أراد الله: بلا تحريف أو تعطيل يستبطن الحيلة في الانسلاخ من عبوديته لله، وبلا زيادة تفسد إيمانه بكمال دين ربه، وبلا نقص يظهر استنقاصه لدين ربه، فالزيادة والنقص منازعة لله في حكمته وعدله وعلمه، إذن الإنسان لايعلم الواقع المشهود، والواقع المغيب، والوجود المكذوب او المفترض إلا بعقله حيوية ومحدودية.. وشرط مدى العلم السلامة الكونية القدرية في العقل، والسلامة الجسدية في الحواس الموصِّلة المعارف الى العقل تصوراً، وكثرة الشواهد الحسية،. وقوة الذاكرة على استحضار الشواهد لتجريد التصورات وتركيب الأحكام منها والأمانة والصدق مع الوجدان العقلي الغريزي الفطري في حيرته ويقينه وفقاً لثبات او اختلال الهوية التي يترتب عليها الواجد المتعين، والممكن رجحاناً او احتمالاً، والمحال الممتنع، ذلك ان تسلسل معارف العقل بُنى رياضية فيقيني بأن 3+5=8 مبني على معرفة هوية ثابتة لمعنى ثلاثة، وخمسة، وزائد.. ويقيني بأن 53=2 مبني على معرفة هوية ثابتة لمعنى خمسة، وثلاثة، وناقص.. ومن هذه البُنى انطلق الى مقادير اكثر، فيقيني بأن 235X523=55225: لا يحوجني الى أن أجمع 235 حصاة، ثم أفرغ مكاناً أضع فيه 235 حصاة، ثم 235 حصاة، ثم 235.. وهكذا بعدد 235 مرة.. ثم بعد ذلك أعد المجموع واحدة واحدة، لأصل على نتيجة الجمع، وهي 55225، لأن في ذاكرتي هوية 3، وهوية 5، وهوية 2، وهوية * الرامزة لعد ماقبلها وما بعدها بعدد أحد العددين مثل 5*2، فأعد الخمسة مرتين، أو أعد المرتين خمس مرات.. وقد يحصل السهو فأرجع الى عد الوحدات البسيطة ضرباً وطرحاً وزيادة وقسمة حتى تثبتها الخبرة، فأبني عليها، ولا أشك فيها، وإنما أتيقظ الى صحة البناء عليها لا إلى صحتها في ذاتها.. وهكذا العقل صح لديه بالبرهان العلمي أنه سبيل العلم، وأن علمه في حيويته محدود، وأنه بالخبرة الحسية اهتدى الى خالق الخبرة الحسية له الكمال المطلق بشواهد الكمال في الكون المرافق لواحدية القصد للواحد الخالق الملك المدبر؛ فكانت هذه أول بنية.. ثم قام برهانه العلمي بخبرته الحسية وغريزته الفطرية أن آيات هذا الرجل قاطعة بأنه رسول من ربه، فهذه بنية ثانية، وكان عَلِمَ أن الرب له الكمال المطلق، ومن الكمال المطلق الصدق والعصمة والحكمة، فقام له برهان رابع: أن هذا الذي جاء به الرسول من عند الله حق بلا ريب، ثم استمع لما جاء من ربه مع علمه بحيويته ومحدوديته: فأيقن أن صحة علمه مرهونة بهداية ربه الشرعية، فدفعه هذا اليقين الى مقتضاه من السلوك، وهو تدبر وحي الله، ليعرف ضمان الصحة من الهداية الشرعية؛ وبالتدبر للهداية في وحي الله وجدتها على هذه الأنحاء:
1 هداية كونية قدرية في الأنفس.. قال تعالى الصادق المعصوم خبره وأمره ونهيه بالبراهين العلمية: «ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى» سورة طه50، وقال «الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى» سورة الأعلى 23، فذلك هداية الغريزة والوعي والعقل والسمع والبصر.. قال تعالى «ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين» سورة البلد 810.
2 هداية كونية في الآفاق.. قال: تعالى «وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر» سورة الأنعام 97، وقال تعالى «وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون» سورة النحل 15.
3 هداية شرعية بيانية إيضاحية أوجبها الله جل جلاله على نفسه في الثواب والعقاب، فقال تعالى «وماكان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون» سورة التوبة 115، وقال تعالى «قل الله يهدي للحق» سورة يونس 35، وقال تعالى «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم..» سورة الإسراء 9، وقال تعالى «.. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل» سورة الأحزاب 4.
قال أبو عبدالرحمن: هذه الهدايات من فضل الله وعدله، فضمن سبحانه الهدايتين الكونيتين، والهداية الشرعية البيانية.. وأما فعل الاهتداء فجعله سبحانه من قدرة البشر واختيارهم، فهم قادرون على النظر كوناً، والفهم عقلاً من مرادٍ بيّنه الله بلغاتهم.. فمن تعطلت قدرته عن الاهتداء الكوني وليس عنده من يرشده رفع الله عنه الحرج، ولم يكلفه اكثر من القدرة فيصلي لله اي وجهة إذا فقد العلم أو الرجحان.. ومن فقد القدرة على فهم البيان سأل أهل الذكر، وإن كان قادراً على الفهم وأخطأ بعد بذل الوسع فله أجر ومعذرة، ولهذه الحرية قال تعالى «إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً» سورة الإنسان 3، وقال تعالى «قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه..» سورة يونس 108، فمجيء الحق من عند الله هداية شرعية إيضاحية، والاهتداء اختيار البشر.. والذين لم يهتدوا وعندهم القدرة، وحرية الاختيار لم يضلهم الله ابتداء، وإنما سبق علمه جل جلاله بأنهم سيملكون القدرة والحرية، وأنهم سيختارون الضلال.
وبقيت الهداية الرابعة، وهي الهداية الكونية القدرية التوفيقية الصادرة عن إعانة الله، فإلى لقاء إن شاء الله.
|
|
|
|
|