| أفاق اسلامية
الحمد لله شرع الدين فأكمل وأنعم فأتم، لا مبدل لكلماته ولا معقب لأحكامه، ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه وما نهى عنه فباطل لأنه لا ينهى إلا عن مفسدة، قال تعالى: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) أخبر عن نفسه سبحانه وأمرنا فقال في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، وأظلم الظلم الشرك بالله (إن الشرك لظلم عظيم) وكل الرسل عليهم صلوات الله وسلامه كانت غايات رسالاتهم ومقاصد دينهم إقامة العدل في كل شأن قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
والإسلام عقيدة وعمل آداب ومعاملة، وشريعتنا إلهية المصدر واضحة المعالم تدعو إلى العدل في السلم والحرب، وتنهى أتباعها عن التعدي والظلم، تعاونٌ على البر والتقوى وتباعدٌ عن الإثم والعدوان، سمعٌ وطاعة وتوحد صف، صونٌ للحرمات واحترامٌ للأوامر والتنظيمات ما دامت في إطار الشريعة. ولقد جاءت نصوص كثيرة في محكم التنزيل تأمر بالعدل وتحث عليه في عدة مواضع (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعِمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً) فهذا خطاب للولاة والأمراء والحكام والقضاة ويدخل في ذلك بالمعنى جميع الخلق بالأمر بأداء الأمانة وهو أمر عام في حق الأبرار والفجار وأمر بالعدل في الأحكام، عدلٌ في إيوان الحاكم وأروقة المحاكم، والقاسطون يوم القيامة على منابر من نور، وفي الحديث المتفق عليه شمول (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) وتحذر النصوص القرآنية أن يحملنا الهوى والعصبية وبغض قوم أو فئة أو شخص على ترك العدل (ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
لقد سمع الصحابة رضوان الله عليهم هذه الآية فحفظوها أمثلة حيةً للمقتدين من ذلك قول عبدالله بن رواحة رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارها وزرعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم قال: والله لقد جئتكم من عند أحسب الخلق إليّ ولأنتم أبغض إليّ من أعدادكم من القردة والخنازير ومايحملني حبّي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا الكلمة التي اشتهرت وسارت في الآفاق: بهذا قامت السموات والأرض. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ينبغي ذكر فضل أهل الفضل ولا يمنع منه شنآن أو عداوة، والعبد إذا رزق العدل وحب القسط علم الحق ورحم الخلق واتبع الرسول واجتنب مسالك الزيغ والبدع أ.ه.
وقال الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) هكذا جاء التوجيه القرآني وجاء في صحيح السنّة (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا يا رسول الله: هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذ فوق يديه). والقصاص منتهى العدل لكن الزيادة جوروحيف ولذلك أشارت الآية إلى حرمة التجاوز وهو الاعتداء فمن ظلم أخذ من حقه بقدر المظلمة جزاءً وفاقاً والعقوبات بقدرها (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) كما أن من المقرر شرعاً أن المعصية لا تقابل بمعصية فمن كذب أو خان لا يحل الكذب عليه أو خيانته وإن حلّت عقوبته بغير ذلك ومن نال من العرض أو المال أو الدم لم يأخذ من أبويه أو ولده أو قريبه (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فإن وقع شيء من ذلك فهو العدوان الذي نهى الله عنه كيف لا؟ والله سبحانه نهى عن الاعتداء في حال الجهاد قال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين).
وهذه الآية محكمة فلا يقاتل المسلمون إلا الذين هم بحالة من يقاتلهم ولا يعتدون بقتل النساء والصبيان والشيوخ والرهبان والأُجراء الذين لا يقاتلون، حتى لو قتلوا نساءنا وأطفالنا وغموّنا بذلك فليس لنا أن نفعل بهم ذلك.
فالعبد عليه أن يلتزم أمر الله ويسلك طريق العدل ولو اعتدي عليه ويجب العدل في البر والفاجر والمبتدع والكافر وقبول ما يأتي به من الحق لا لأنه قاله ولا يرد لأجل قوله فإن هذا ظلم للحق، فالمسلمون يعدلون في حق غيرهم ويطلبون من غيرهم العدل في حقهم ولذلك كانت الهجرة الأولى للحبشة، والعدل كما يكون في الأفعال يكون في المقال (وإذا قلتم فاعدلوا) في الشهادات والأيمان والأحكام، والعدل لكل أحد في كل وقت وكل حال، ولما جاءت التكاليف على الإنسان جاءت عدلاً في حقه (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) فأعماله محسوبة له أو عليه (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) وشريعة الإسلام أكّدت بنصوصها وقواعدها على حفظ الضروريات الخمس وهي الدين والنفس والعقل والمال والعرض ولذلك شرعت العقوبات بنوعيها المالي والبدني والبدني بأقسامه الثلاثة القصاص والحد والتعزير، كل ذلك لأجل العدل بين الناس لئلا يعتدي أحد على أحد، ولقد اتسع العدل الإسلامي حتى شمل البهائم فأوجب العدل والرفق في حقها فترعى وتطعم ولا تحمل ولا تعمل أكثر مما تطيق، وفوق العدل الإحسان (في كل كبد رطبة أجر) وإذا قلنا إن الدعوة الإسلامية بحاجة إلى إبراز سمات الإسلام فإن من السمات العظيمة التي عرف بها العدل، فلا أعدل من شريعة الإسلام التي شملت كل ميادين الحياة وشئونها والتي هي وسط بين الإفراط والتفريط والتي استوعبت بعدلها المسلم والكافر وجاءت أحكامها للقريب والبعيد فعدلها لم يقتصر على العدل بين أتباعها بل تعداه إلى العدل مع خصومها، ذلكم لأنها الشريعة الخاتمة ورسولها بُعث للناس كافة.. أسأل الله القدير أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يوفق المسلمين لإدراك الصواب والعمل به والعدل في الأقوال والأفعال والحمد لله رب العالمين.
* رئيس محاكم الطائف
|
|
|
|
|