| أفاق اسلامية
الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وبعد فإن مما أكدت عليه تعاليم الإسلام بل وشددت عليه (ضرورة وحدة الأمة واجتماع الكلمة)؛ ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك وتنوعت أساليبهما لتحقيقه قال تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) ثم تلا سبحانه هذه الآية بقوله تعالى: (وتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون)، وفي هذا تنبيه للأمة للزوم صفتها وتحذير لها من مشابهة أهل الكفر والزيغ والضلال في التفرق والتشرذم، وقال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)، وعن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، قال النووي رحمه الله صريح في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه، أه أجل وهل هناك أعظم ترابطاً من ترابط أعضاء الجسد مع بعضها،
ولقد حذر الإسلام من كل ما يخدش أو يخل بهذا البناء أو يكون سبباً في ذلك قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، ، )، وقال تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم)، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم) قلت وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: (نعم وفيه دَخَنٌ) قلت: وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر) قلت فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) أخرجه البخاري رحمه الله وغيره،
ولقد كان سلف هذه الأمة مثالاً رائعاً للمحافظة على اجتماع الكلمة ووحدة الأمة ونبذ أسباب الاختلاف والفرقة؛ لما يدركونه من الآثار السيئة المترتبة على ذلك، فعن علي رضي الله عنه قال: (اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي) أخرجه البخاري رحمه الله وأخرج أبو داود في سننه وغيره عن عبدالرحمن بن يزيد قال: صلى عثمان بمنى أربعا فقال عبدالله يعني ابن مسعود صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ومع عثمان صدراً من إمارته ثم أتمها ثم تفرقت بكم الطرق فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين قال الأعمش فحدثني معاوية بن قرة عن أشياخه أن عبدالله صلى أربعا قال فقيل له عبت على عثمان ثم صليت أربعا قال الخلاف شر)،
وما تخلل الأعداء صفوف الأمة وفرضوا سيادتهم عليها بل واستعمروا كثيرا من أقطارها إلا من خلال تفكيك الوحدة وتفريق الكلمة عن طريق إذكاء النعرات والتعصبات الإقليمية واللغوية والشعوبية والمذهبية، ، منفذين لعبارتهم المشهورة (فرِّق تسد) فتفرقة الأمة إلى طوائف ودول فذهبت ريحها ومعها خرجت روحها فتحول ذلكم الجسد الواحد للأمة إلى جثة هامدة لا حراك فيها الأمر الذي يسَّر على الأعداء الإجهاز عليها وتقطيعها إرباً وصدق الله حيث يقول (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)،
ولإدراك الأعداء أثر وحدة الأمة في رد كيدهم بالغوا في ترسيخ هذا التفرق وشددوا في حمايته والمحافظة عليه فوضعوا ضمانات لاستمراره من خلال إيجاد بؤر ساخنة وجروح عميقة بين كل طائفة وأخرى وبين كل بلد وآخر كل ما لاحت بارقة تقارب أو بادرة ائتلاف كشفوا هذه البؤر ونكأو هذه الجراح ليتجدد الصراع والألم فيستمر الإختلاف والتفرق،
ولئن كانت الأمة بحاجة الى اجتماع الكلمة ووحدة الصف في كل وقت فإن حاجتها إليه في هذا الزمن أكثر وفاقتها إليه أشد؛ فقد تكالب عليها الكفار بمختلف مللهم ونحلهم وجاؤها من كل حدب وصوب ورموها عن قوس واحدة، هذا مع ما تهيأ لهم في هذا العصر من تفوق في العدد والعدّة مما لم يتهيأ للمسلمين قريباً منه فضلا عن مثله،
ولذا، ، لزاماً على الأمة إن رامت عزاً ونشدت مجداً وفلاحاً في الدنيا والآخرة أن تلزم كتاب ربها وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم وتلتف حول علمائها الربانيين الذين رسخت أقدامهم في العلم وتجللوا برداء الورع والتقوى، وأن تنبذ أسباب الخلاف والفرقة، وأن تحافظ على اجتماع كلمتها ووحدة صفها من خلال إفشاء روح المودة والتراحم بين أفرادها وجماعاتها؛ تأسياً بجيلها الأول؛ قال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، ، )، فتتراحم تراحماً يقتضي إقالة العثرات، وتلمس الأعذار، واحتمال الخلاف فيما يسوغ فيه الاجتهاد، ، تراحما مبنيا على الإيثار ونبذ الأنانية وحب الذات، ، قال يونس الصدفي رحمه الله : ما رأيت أعقل من الشافعي رحمه الله ، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: (يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة)، وقال الإمام أحمد رحمه الله : (لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل اسحق بن راهوية، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً)، كل هذا مع ما يجب من التعاون على البر والتقوى والتناصر المضبوط بقوله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوماً فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره)،
أسأل الله تعالى أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يرد ضالهم إليه رداً جميلاً، وأن يعيد لهم عزهم ومجدهم لنشر دينه وإعلاء كلمته إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم،
* رئيس قسم الفقه في كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم
|
|
|
|
|