| متابعة
* رام الله نائل نخلة:
زفت إلى عريسها... ولكن وسط الدموع التي تدفقت من أعين النساء اللواتي غنين كثيراً لوالدها القابع خلف القضبان منذ ستة وعشرين عاما بدون توقف.
«سمّانة» الاسم الذي اختاره لها عندما جاءت إلى الدنيا كانت في عامها الأول عندما دخل أحمد جباره (65عاما) الملقب أبو السكر السجن ليكون أقدم أسير فلسطيني في تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية في السجون الاسرائيلية ومايزال...
سمانة، التي نضجت رويداً رويداً وهي محرومة من والدها إلاعبر شبابيك السجن الرهيب زفت إلى عريسها الخميس الماضي ولكن أنى لها أن تسعد وتتذوق الفرحة ووالدها يقبع هناك، تحول بينها وبينه جدران السجن وقضبانه وأقبيته.
والدة العروس وزوجة الأسير «بهية جبارة» التي جاءت إلى مقر الصليب الأحمر في رام الله لتشارك بعض الأطفال احتجاجهم على استمرار اعتقال زوجها منذ ستة وعشرين عاماً، وسط صمت عالمي غير إنساني رهيب وتتحدث عن تلك الساعات: «انها أصعب لحظات في حياتي، طوال تلك الفترة الممتدة من العمر كنت أواسي زوجي بالصبر وأمده بالعزيمة، ولكنني لم أجد غير البكاء والبكاء أمام مشهد ابنتي وهي تزف إلى عريسها».
وتتابع والدموع تتقاطر من على وجنتيها: «في زماننا، تحول القضبان بين الأب وابنته حتى في اللحظات التي لن تتكرر، كيف لو انه كان هنا، ليطبع قبلته على جبين سمّانة التي كانت الأجمل بيننا، ويمسكها من يدها كما هي عادتنا ويقدمها إلى عريسها يوصيه بها خيراً، في كل الأعراس في فلسطين يحدث هذا، إلا في عائلة أبو السكر لم يحدث لماذا؟».
الأسير المحرر القادم من هناك، عيسى قراقع، الذي يتجول يمنة ويسرة في أرجاء الضفة الغربية بمدنها وقراها ومخيماتها يحرك العواطف والضمائر والعقول لنصرة الأسرى الذين تركهم خلفه، ينظم المسيرات ويشارك في الندوات والمؤتمرات، ويكتب من على مكتبه في نادي الأسير الفلسطيني في مدينة السلام بيت لحم رسائل السلام المحملة بالرجاء من كل محبي الحرية في العالم الضغط على إسرائيل القوة المحتلة للإفراج عن الأسرى الفلسطينيين يقول قراقع: «يبدو أن أبا السكر يرى عمره يتجدد داخل جدران السجن المظلم في ابنته، التي نمت وكبرت من بعده وغرست صحراء سجنه بزهور شبابها اليافع وهو يقتحم الحياة ليهب السجين الأمل ويفتح الشبابيك المغلقة على الحرية المتجددة في جيل الشباب».
أبو السكر الذي دخل عقد السبعينات من عمره يرقد الآن في مستشفى سجن الرملة يتلقى العلاج من نوبة قلبية أصابته قبل شهر إلى جانب السكري والضغط والأمراض التي تنهش جسده المثقل بالحزن والألم وتعب السنين خلف القضبان، تنتابه مشاعر متناقضة فهو الذي ينتظر العودة إلى ترمسعيا القرية التي ولد فيها وعاش ما عاشه من عمره خلف القضبان ليحضن ابنته ويضع حداً لسنيّ الألم الطويل مثله مثل غيره من الأسرى القدامى الذين أهملتهم اتفاقيات أوسلو وكل الاتفاقيات اللاحقة، ولم تشملهم صفقات مبادلة الأسرى خلال الثمانينات.
ليس غريباً ان يرتبط اسم أبو السكر بنخلة سجن عسقلان، التي راقب اللحظات الأولى من بداية غرسها التي تغطي الآن بفيئها وظلالها ساحة سجن عسقلان، المتنفس الوحيد لسبعمائة معتقل يقبعون في هذا السجن.
آلاف الأسرى مروا على أبو السكر كما يقول من التقاه هناك، كلهم خرجوا من أمامه، وودعهم واحداً تلو الآخر، يحملهم قبلاته وأشواقه إلى أهله وأبنائه وأحفاده وهو ما يزال قابعاً هناك في نفس الغرفة المظلمة.
خليل الهريني، الأسير المحرر العائد لتوه من عند والدها يعقد قرانه والحب يملأ قلبه لهذا الرجل الثابت الذي لاتهزه الأعاصير، قادم من عند أبي السكر ويحمل في قلبه الحكاية كلها، حكاية السجين الفلسطيني المنسي الغارق في ظلمة الزنزانة والقابض على الجمر منذ أكثر من ربع قرن لعله يوصل الرسالة، ويكمل دورة الأرض.
الهريني الذي وقف مبكراً وما زال يقف بجوار عائلة أبو السكر يشاركهم فرحتهم وأحزانهم ويخفف عنهم همومهم وألم فراقهم وبعدهم الطويل عن رب البيت الذي طالت غيبته قرر كما يقول أن يكون واحداً من الأسرة ليتزوج سمّانة خريجة جامعتين، الأولى منهما لا تقل أهمية عن الثانية جامعة السجن التي أسسها والدها في كل المعتقلات الاسرائيلية طوال ست وعشرين سنة من النضال والكفاح والتضحية، أساسها قائم على تذويب الحلم الصهيوني في هذه الأرض، والثانية جامعة النجاح الوطنية التي احتضنت بكل فخر ابنة المناضل الكبير أربع سنوات قبل أن تزف إلى عريسها.
يقول الهريني والحناء الفلسطيني ما زال عالقاً بقوة على يديه: «لماذا هذا الصمت إزاء هذه المأساة الإنسانية التي أذابت كثيراً من القلوب حسرة، وهل هناك أقسى من أن يحال بين الأب الشيخ وفرح ابنته» عريس في اليوم الثالث من زفته لم يجد سوى الدموع ليبتعد من المكان والسؤال ذاته: الى متى يبقى مئات الأسرى الفلسطينيين والعرب الذين يقبعون في السجون الاسرائيلية نسياً منسياً، لا تلتفت إليهم لا الأمم المتحدة ولا أمينها العام ولا لجانها ولا هيئاتها الكثيرة.. لتستمر آهات الأمهات وعبرات الأطفال وأنين الزوجات.
وفي الأيام القليلة الماضية كتبت بهية جبارة، سفيرة المعاناة والمأساة لكل الأسرى الفلسطينيين رسالة خطتها بدموعها ودمها إلى جاك شيراك، الرئيس الذي يتربع على عرش الدولة التي ارتبط اسمها بالحرية والعدالة والمساواة طالبته فيها بالعمل على رفع المعاناة والظلم الواقع على زوجها.
وجاء فيها: «لا يمكن للذاكرة البشرية ان تتخيل ان جندياً قاتل في مراحل الصراع لأجل تحرير بلده من الاحتلال، كي ينعم بالأمان والاستقرار يبقى أكثر من نصف قرن داخل سجنه، وزنزانته، لتمر عنه كل المراحل والعهود، ويري بأم عينيه أطراف الصراع يوقعون اتفاقاً تلو اتفاق، لسلام بين شعبين، فلا يشمله هذا السلام ولا يعطيه حتى بصيصاً من الأمل في العودة إلى أهله، وبيته، وأولاده».
التوقيع بهية جبارة فلسطين.
|
|
|
|
|