| مقـالات
القوة والضعف صفتان تتعاقبان على الحياة البشرية تعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر، والصحة والمرض، وغير ذلك من المتضادات التي اقتضى علم الله وعدله ورحمته وجودها في الزمان والمكان المناسبين، لحكم جوهرية مختلفة ومتعددة، لاندرك بمعرفتنا البشرية القاصرة إلا النزر اليسير منها، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى ببعضها، كعمارة الكون والابتلاء والاختبار وتسلسل الأسباب والمسببات من النتائج المفرحة والمحزنة، التي تتكرر على أنظارنا على مسرح الحياة كل يوم، بل كل ساعة وكل دقيقة.
وقد منح الله بعض الأمم والأفراد، بل والحيوانات أيضاً من القوة ما ينفرد به عن بني جلدته، ويظهره أمام نفسه وأمام غيره على الصورة الحقيقية له، بعد امتحانه وابتلائه من الله عز وجل، ولا غرابة إذا استعلت الحيوانات بهذه القوة، واحتكمت إليها في تنافسها مع ضعيفها على كسب الفريسة في صحراء مجدبة قاحلة قد لا تتكرر فيها الفرصة مرة أخرى، وفي حال لا حول له فيها ولا قوة، هذا الحيوان القوي قد يتمادى به الاستعلاء ويغتر بقوته فيناطح الصخور الصلبة ليبرز قوته أمام الضعفاء فينكر قرنه وتتراجع قوته.
كنا طح صخرة يوماً ليو هنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل |
أما الأفراد والجماعات والأمم فقد ميزهم الله بالعقل والحكمة والعودة إلى تعاليم السماء كلما جنحت بهم أهواؤهم عن الصراط المستقيم، وبين الله لهم الخير والشر، ووضح لهم العلل الكونية والشرعية، فكان عليهم جميعاً، وعلى الأقوياء منهم خاصة أن يحكموا ذلك كله في تصرفاتهم مع أنفسهم ومع الآخرين، ولكن الواقع المؤلم، والحوادث المريرة المتتالية يؤكدان تأكيداً قاطعا أن الأكثرية الساحقة من هؤلاء لم تستفد من ذلك كله عبر مراحل التاريخ البشري، وقد أخبرنا القرآن الكريم، ونقل لنا التاريخ أخبار أمم سادت ثم بادت حينما اختبرها الله بالقوة فطغت وبغت وعاثت في الأرض فساداً وظلماً للأمم الأخرى، فأرسل الله عليها الرياح العاتية العقيمة، والسيول الجارفة، والصواعق المحرقة، والزلازل والبراكين، وخسف بطغاتها الأرض وأغرقهم في البحر، وبقيت آثارهم شاهدة على ما حل بهم من ويلات ونكبات «فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين» الذاريات 45.
فقد ادعى فرعون الألوهية «فكذب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى» 21 24 النازعات وادعى مسيلمة الكذاب النبوة، وركنت قريش إلى عددها وعدتها، وتباهت بقوتها أمام المسلمين، وخاضت معهم معارك طاحنة غير متكافئة في الجانب المادي.
ولكن الله سبحانه وتعالى دحرهم جميعاً، وأعادهم صاغرين متذللين إلى صغوف الضعفاء، فأخذ الله فرعون نكال الآخرة والأولى، وقتل مسيلمة في حروب الردة شر قتلة، وفرق الله فلول قريش في عقر دارها.
وإذا طوينا صفحات التاريخ المليئة بالعظات والعبر، والتفتنا إلى الواقع القريب، نفتش أوراقه، ونستقرئ حوادثه وجدنا فيه ما يُلْجم أفواه الذين يعتمدون على قوتهم ويسلطونها سيوفاً مسلولة على المستضعفين الآمنين في مدنهم وقراهم.
فالنازيون كانوا يحدثون العالم من فوق برج عاجي، ويلزمونه بسماع أصواتهم، والمملكة المتحدة كانت لا تغرب عنها الشمس، والاتحاد السوفيتي ألقى قبضته على نصف المعمورة، حينما كانت القوة ثنائية لم ينفرد بها شرطي واحد، وبعض الأحلاف العسكرية كانت تفرض رأيها بالحديد والنار، فنزل الألمان عن البرج العاجي، وأرهفوا أسماعهم لأحاديث الأقوياء، وغربت الشمس عن المملكة المتحدة، وتقلصت أطراف دب المحيط المتجمد الشمالي، وغادر مكانه هزيلاً ليلاً يبحث عن المياه الدافئة، وانحلت بعض الأحلاف العسكرية التي هيمنت على العالم فترة من الزمن:
لكل شيء إذا ماتم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان |
وهكذا، فإن القوة لابد لها من ضعف، كما أن الضعف لابدله من قوة، والله سبحانه يداولهما بين الأمم والأفراد، وكما قال ابن خلدون في مقدمته، فإن الدول كالأفراد تمر بطفولتها وشبابها وشيخوختها وهرمها وموتها، ولم يعرف التاريخ أن القوة استمرت لمخلوق في الحياة الدنيا، حتى الحق والمثل العليا كلها يعتريها المد والجزر في كل المجتمعات البشرية، فما بالك بالشر والرذيلة والطغيان والجبروت والظلم، إنها من باب أولى وأحرى، ولله في خلقه شؤون.
'جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
|
|
|
|
|