| مقـالات
في مقال سابق استبشرت خيراً بفصل السجون عن الأمن العام وربطها بصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف، واليوم أتفاءل بتعيين اللواء علي بن حسن الحارثي مديراً عاماً للسجون.. ليس لأنني أعرفه حق المعرفة، وإنما لأن أول مرة قابلته فيها قبل سنوات كانت في بهو أحد المساجد في عاصمة المملكة (الرياض).
واليوم أيضاً استبشرت وتفاءلت وفرحت معاً بانعقاد ندوة (الإصلاح والتأهيل) برعاية صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز، والجميع في سجون المملكة وفي مختلف القطاعات الأمنية فرحون بهذه الندوة ويتمنون لو أن الظروف أتاحت لهم فرصة المشاركة فيها، فمنشأ الفكرة التي تمخضت عنها هذه الندوة ليس بعيداً ولا غريباً عنهم، والكل في تلك القطاعات وفي جامعة الإمام محمدبن سعود الإسلامية أسهموا بدور فاعل حتى انعقدت هذه الندوة.
وعلى الرغم من أنه كان يفترض أن يكون اسمها (ندوة الإصلاح وإعادة التأهيل) وليس (ندوة الإصلاح والتأهيل) لأسباب ستتضح لاحقاً في سياق هذا المقال، وعلى الرغم كذلك من أن المحاور الأربعة لهذه الندوة واضحة جداً ومهمة إلى درجة أن المحور الواحد منها يستحق أن تخصص له ندوة بكاملها، إلا أن النتائج ستكون مفيدة في تجربة هي الأولى في مجالها داخل المجتمع السعودي، وستتحول أخطاء اليوم إلى محاذير في المستقبل، والنقد الهادف مصباح الساري، المهم والأهم أن يكون المنتدون قد ركزوا على التطبيق العلمي والعملي لمفهوم الإصلاح وإعادة التأهيل، طالما أن المحاور الأربعة للندوة قد حُصرت فيما يدور داخل السجون التي سميت في مطوية الندوة بالمؤسسات العقابية والإصلاحية تارة، وتارة بالمؤسسات الإصلاحية والعقابيةو وهي تسمية تحتاج إلى مراجعة في كلتا الحالتين، فنحن لا نريد أن يكون لدينا مؤسسات عقابية بحتة، ولا مؤسسات إصلاحية بحتة إذا كان من يودع فيها هم الجناة. ولا نريد كذلك أن يخطفنا بريق التسميات التي لا ينطبق لفظها على معناها.
والحديث عن السجون له ارتباطات واسعة مع كل شيء في مجال السلوك: الإجرام والعقاب، كما أن السجون واحدة من أكثر المؤسسات الرسمية والأهلية ارتباطاً وتأثراً بالمجتمع وما يدور فيه من فكر وثقافة وتغير. وما يعتري أفراده من خوف وفقر وتخلف، وما ينعمون به من أمن وجدة وتحضر، ولهذا فالسجن مرآة يمكن للمتخصصين أن يروا من خلالها كثيراً من خصائص المجتمع، وأن يتنبؤوا بمستقبله الأمني والأخلاقي، وأن يقرءوا من خلال العقوبات الأفكار والرموز والمعاني التي تسيطر على فكر العاملين في السلطات الثلاث. ومن خلال السجن أيضاً يمكن للمتخصصين أن يعرفوا إلى أي مدى استطاعت عوامل السلوك الإجرامي أن تؤثر على أفراد المجتمع، فكل مجتمع تنتشر فيه عوامل كثيرة للسلوك الإجرامي لها القدرة على دفع أعداد من أفراده كل يوم إلى الإجرام، والتي قسمت إلى ثلاثة أقسام: عوامل تعود إلى البيئة الأساسية للمجتمع، وعوامل تعود إلى المعايير الأخلاقية والمثالية السائدة في المجتمع، وعوامل تعود إلى الخصائص الشخصية لأفراد المجتمع.
وليس بمقدور أي مجتمع أن يدّعي خلوه من عوامل السلوك الإجرامي، كلها أو بعضها، مهما كان متحضراً أو متدينا، ومهما بلغت شدة ويقظة أجهزته الأمنية، وعلى هذا فلا فرق بين مجتمع وآخر في هذا الجانب سوى من حيث شدة هذه العوامل وعدد الأفراد المتأثرين بها، وهما أمران متوقفان على مدى عدالة التنمية وما تحتويه من برامج للوقاية من الجريمة، وعلى مدى ما زود به المجتمع أفراده من معارف صحيحة وتأهيل مناسب. وكذلك على مدى نجاح برامج التأهيل وبرامج الإصلاح وإعادة التأهيل.
ومن الأمثلة على عوامل السلوك الإجرامي المنتمية إلى القسم الأول والثاني، على سبيل المثال لا الحصر، أنه يوجد لدى بعض المجتمعات قيم ومعايير خاطئة تتسبب في تعليق الأهداف الحيوية لأفراد المجتمع بعيداً عن إمكانات أغلبهم. وفوق هذا يضع مجتمع من هذا النوع عوائق على الطريق المؤدي إلى هذه الأهداف وفي مقدمة تلك العوائق عدم تساوي الفرص أمام ما هو حق للمجتمع، ولهذا السبب لا يصل بعض أفراد ذلك المجتمع من ذوي الإمكانات المتواضعة أو المتدنية إلى أهدافهم إلا مجرمين.
والمفترض في المجتمع سلفاً أن يؤدي رسالته تجاه ناشئته فيرعاهم ويزودهم بالمعارف الصحيحة التي تعلي قيمهم وترتقي بها، ويؤهلهم تأهيلاً ناجحاً ويوفر لهم فرص العمل المناسبة والكافية، ويمنحهم فرصا متساوية لشغلها، ويعاملهم معاملة إنسانية تحفظ عليهم كرامتهم، ويبذل جهده في إعدادهم لمواجهة مصاعب الحياة ووقايتهم من خطر الانحراف، وهذا هو المجتمع الإيجابي، وبغير ذلك يكون مجتمعاً سلبياً يصنع لأبنائه مزيداً من عوامل السلوك الإجرامي، وينهك قدراتهم على مقاومة تلك العوامل.
ومن المفترض في المؤسسات الرسمية والأهلية وبخاصة التربوية والإعلامية والأندية الأدبية، أن تضع في أولوياتها إقناع المجتمع بخطورة النتائج المترتبة على تقصيره في أداء رسالته تلك وأنه يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن انحراف بعض أبنائه، ومن المفترض في تلك المؤسسات أيضاً أن تضطلع بمهمة تثقيف المجتمع عن أسباب السلوك الإجرامي وأهداف العقاب. ومن ثم حمله بكافة شرائحه وطبقاته على الاقتناع بأهمية تقبل المفرج عنهم ودمجهم في الحياة والأنشطة الاجتماعية حتى لا يعودا للإجرام، وطالما أن المسؤولية عن الانحراف والاستقامة والأمن مسؤولية مشتركة، فإن هذا الاشتراك في المسؤولية يفرض التعاون والتكامل بين الجهود الفردية والجماعية والأهلية والرسمية في مجال الوقاية من الجريمة. ومجال إصلاح السجناء وإعادة تأهيلهم.
وبالإضافة إلى المخاطر الناتجة مباشرة عن تقصير المجتمع في أداء رسالته توجد ثغرات ومخاطر أخرى مركبة تتسرب من خلالها عوامل السلوك الإجرامي إلى الأفراد، سببها سوء اختيار الأولويات التنموية، وإغفال المجتمع لبعض مطالب أفراده في خضم انشغاله بالصراع لتحقيق مزيد من المصالح الشخصية على حساب المصالح العامة والقضايا المصيرية، وعدم المبالاة بمعاناة الآخرين، وسوء التصرف من بعض المعنيين بتخطيط وتنفيذ خطط التنمية وبرامج الوقاية من الجريمة، وسوء التقدير من قبل بعض العاملين في السلطات الثلاث، وعدم مسايرة بعض جوانب السياسة الجنائية للتغير الحاصل في المجتمع المحلي والمجتمع الإنساني بعامة، وعدم مراعاتها لما يوجد من ترابط بين الأمن والمصالح المحلية والأمن والمصالح الإقليمية والدولية.
وإذ لا بد للجريمة من مسرح، ولا بد لها من ضحايا، فإن كل فرد من أفراد المجتمع مرشح لأن يكون منزله مسرحاً لعملية إجرامية وأن يكون هو ضحية لها، ومن هذا المنطلق فإن كل أفراد المجتمع يجنون فائدة عظيمة إذا لم يقترف أحد أفراد مجتمعهم جرماً. ويجنونها أيضاً كلما نجحت برامج الإصلاح وإعادة التأهيل وبرامج الوقاية من جرائم العود في جعل مجرم ما يقلع عن التفكير في العودة إلى الإجرام. إذاً فالكل شركاء في عدم الشعور بالأمن، وشركاء فيما يسود المجتمع من أمن.. وللكل الحق في حياة آمنة، وبالمقابل فإن على الكل أن يشاركوا في جهود التنمية، وجهود الوقاية من الجريمة، وجهود الإصلاح وإعادة التأهيل، والجهود الموجهة لعلاج الجناة ورعاية أسرهم، فالجاني عندما يصل إلى السجن تكون عوامل السلوك الإجرامي قد ألحقت به أضراراً نفسية ومادية واجتماعية شديدة، ترسبت آثارها في أعماق تكوينه خلال معاناته التي أدت به إلى السلوك الإجرامي، وغالباً تكون أسرته قد تأثرت بصراعه ضد تلك العوامل، ويزداد تأثرها أثناء غيابه عنها في السجن وبخاصة إن كان هو العائل الوحيد لها.
عندما يصبح الجاني في السجن يجد نفسه ملقى في مجتمع متناقض وغير واضح المعالم، ومجتمع قوامه الصراع المستمر بين الخير والشر، وقد قيل إن مجتمع السجن مجتمع قائم بذاته، ويعني هذا أنه يتوفر في مجتمع السجن كافة الأنشطة الموجودة في المجتمع الخارجي سيئها وحسنها، وإذا سلمنا بصحة هذه النظرية فإنه لا فرق بين مجتمع السجن والمجتمع خارج السجن إلا من حيث كون مجتمع السجن مجتمعا محدود العدد ويعيش في مكان معزول بأسوار مما يساعد في السيطرة على أفراده، ومن حيث وجود ما يشرع للعاملين قسر أفراد هذا المجتمع من الجناة على عدم مغادرة هذا المكان.
إن خواص العدد المحدود والمكان المعزول، ووجود ذلك التشريع، من شأنه المساعدة على إحداث عملية حذف وإحلال.. حذف ارتباطات السلوك الإجرامي الذي تعلمه الجناة من مجتمعهم خارج السجن، وإحلال ارتباطات السلوك السوي محلها، من خلال تشجيع السجناء على تعلم أداء أفعال حسنة معينة، وتدريبهم على أعمال مهنية مناسبة، وتزويدهم بميول واتجهاهات إيجابية، وإشعارهم بقيمة الحرية، ولا بد أن تضاعف هذه الجهود حسب حالات السجناء ونوعية جرائمهم، وأن تستمر إلى أن يصبح السلوك السوي من ارتباطاتهم العصبية وعاداتهم اليومية، لأن أرقى أنواع التعلم ما أصبح عادة، كل ذلك بغرض إكسابهم سلوك الطاعة والمثابرة واحترام حقوق الآخرين، وإعادة تكيفهم مع أنفسهم ومع مجتمعهم، وهذه هي الأهداف الرئيسية لعقوبة السجن.
والعاملون في السجون وفي السلطة التنفيذية إن لم يدركوا هذه الأهداف من وجود الجناة في السجن، وأنهم أدركوها ولم يكونوا مؤهلين لتحقيقها، أو لم تتوفر لهم الإمكانات اللازمة، فإنما يهدرون الوقت والجهد والمال، وبيئة السجن في هذه الحالة لن تزيد المجرم إلا إجرماً. ويعود المفرج عنهم إلى الظروف القاسية نفسها التي دفعت بهم إلى تنكب السلوك الإجرامي، ويسيرون سيرتهم الأولى وتنضم إليهم أفواج جديدة من الجناة، وتواصل معدلات الجريمة والمجرمين ارتفاعها، وهكذا دواليك حتى يصبح معظم أبناء المجتمع من أرباب السوابق وخريجي السجون، ممن انعدمت فيهم وسائل الضبط الذاتية، وانخفضت لديهم مستويات تقدير الذات واحترام النفس، وفي هذه الحالة تزداد فرص الغليان والانفجار لديهم، وقد أصبحوا شريحة كبيرة من المجتمع، وهنا لن يجد المجتمع بمؤسساته الرسمية والأهلية، رادعاً يردعهم عن إلحاق الضرر بالممتلكات وتهديد كل أفراد المجتمع مهما كانت الاحتياطات. ويزيد من مضاعفات هذه المخاطر أن المفرج عنهم من هذه الفئة قد تولدت لديهم مناعة عقابية، بالإضافة إلى أنه لفرط ما لحق بهم من أضرار وما كابدوه من آلام وصراعات نفسية واجتماعية أصبحوا ينظرون لأنفسهم على أنهم أرخص من سقط المتاع، ولا يحسون أن مجتمعهم يعترف بأن لهم كرامة، ويعتقدون أنهم أصبحوا بمنزلة الضعيف الذي لا بد أن يتردى فما الذي يخشى وهذا القاع حتفه؟
يأتي الجاني من أصحاب جرائم العود إلى بيئة السجن محملاً بهذه الخصائص ومثقلا بهذه الأفكار والقناعات.. تعلو قسمات وجهه حسرة، وعيناه تذرفان آلاف الأسئلة عن المستقبل المجهول.. أفكاره مشتتة وشخصيته متصدعة بفعل معاناته النفسية والبدنية والاجتماعية الطويلة مع العوامل التي أدت به إلى السلوك الإجرامي، وكذلك بفعل ما يعيشه من صراع بين مجتمع يرفضه وسجن ينتظره، فلا السلطة القضائية نجحت في تشخيص مرضه عندما رأته في المرات السابقة ومن ثم وصف العلاج المناسب، ولا السلطة التنفيذية نجحت هي الأخرى في تقديم ما يقنعه ويؤثر فيه من برامج الإصلاح وإعادة التأهيل، ولا المجتمع تقبله بعد الإفراج عنه وبخاصة بعد عقوبته الأولى، وهذا كله مما يجعل الضرورة ملحة لأن يراجع المجتمع خططه ومعاييره ونظمه، ويراجع ويقيم سياسته الجنائية خلال مدد ليست متباعدة، ولعل من الأفضل تشكيل فريق عمل كل بضع سنوات لتحديد الجوانب التي تحتاج إلى مراجعة من السياسة الجنائية على وجه الخصوص، فالسياسة الجنائية لأي مجتمع تتعرض لأضرار متفاوتة بسبب مرور زمن طويل دون مراجعة وتقييم، وتتعرض للضرر بفعل أسباب أخرى كثيرة ومختلفة، وما يجعل السياسة الجنائية تصمد أمام كل الأخطار هو جودة الصياغة وهذه المراجعة، وموافقتها لمصالح أكبر عدد من أفراد المجتمع، وصيانة السلطات الثلاث لها من خلال المحافظة على مصداقيتها بتنفيذها على جميع أفراد المجتمع من مواطنين ومقيمين، غير أن أفدح الأضرار وأكثرها خطراً على استمرار تماسك السياسة الجنائية وفاعليتها أن يسود الاعتقاد لدى العاملين في السلطة التنظيمية والسلطة القضائية إن شدة العقوبات البدنية وطول مدة عقوبة السجن يؤديان إلى انخفاض معدلات الجرائم، وبخاصة معدلات جرائم العود، وأن يعتقد العاملون في السلطة التنفيذية أن سوء معاملتهم للجناة يعمل على إخافتهم وإضافة شيء من الزجر إلى الزجر الذي تحدثه العقوبة وبالتالي الحد من عودتهم إلى السلوك الإجرامي.
ومن يستخلص العبر والتجارب من نتائج التنفيذ العقابي يجد عجباً، فبسبب تلك النتائج كنت دائم الشك في صحة هذا الاعتقاد، وظل ذلك مجرد شك لسنوات عديدة إلى أن سنحت لي فرصة بإجراء دراسة علمية عن بعض نتائج عقوبة السجن تحت إشراف الدكتور صالح بن عبدالله المالك، وفي تلك الدراسة ظهرت نتيجة جانبية لم يكن الوصول إليها من أهداف الدراسة فأخفيتها على أستاذي الفاضل حتى لا يكلفني بمزيد من أعباء البحث نظراً لأهميتها. وهو من عرف عنه الجد.. لا يكلُّ ولا يملُّ في سبيل البحث عن الحقيقة وخدمة المصلحة العامة، وملخص تلك النتيجة يقول:
(إن الجناة الذين تعرضوا لعقوبات بدنية قاسية ومدة سجن أطول، وبخاصة تجاه جرائمهم الأولى، هم الأكثر عوداً إلى الإجرام، والأكثر قسوة في تنفيذ الفعل الإجرامي).
للتواصل الفكري: ص. ب 10810 الرمز البريدي 61321 أبها
|
|
|
|
|