| مقالات في المناسبة
لا شك أن الإنجازات العظيمة التي تحققت خلال العشرين عاماً الماضية منذ تولي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود مقاليد الحكم تُعد من المفاخر التي تتجاوز المقاييس المعتادة لحساب العطاءات الحضارية في عمر الدول والشعوب.
فقد شهدت المملكة العربية السعودية نمواً رأسياً وأفقياً في قطاعات التنمية الاجتماعية والصحية والاقتصادية والثقافية كافة، جعل المملكة في مصاف الدول المتحضرة التي يُشار إليها باعتزاز على المستويات العربية والإسلامية والدولية.
ولم تتحقق تلك المكتسبات إلا نتيجة السياسة الحكيمة والحنكة القيادية والاهتمام بكل متطلبات الحياة التي تقوم عليها الدولة الحديثة، وفي مقدمتها الاهتمام بالإنسان السعودي باعتباره محور التنمية والثروة الحقيقية لكل مُعطيات التحديث.
وقد استلهم خادم الحرمين الشريفين بحكمته واستشرافه المستقبلي أهمية التعليم منذ توليه وزارة المعارف كأول وزير لها في المملكة، فكان أول رائد للتعليم، حيث أرسى قواعده على أسس متينة بإنشاء المدارس والجامعات ومعاهد التدريب وتكثيف حركة البعثات التعليمية إلى جميع دول العالم، مما أسهم في دفع عجلة التنمية بسرعة هائلة.
أما في المجالات الثقافية، فقد شهدت المملكة نقلة غير معهودة خلال العشرين سنة الماضية. ويتمثل ذلك في الكثير من التطورات المشهودة في المؤسسات التعليمية والاجتماعية والثقافية التي استجابت لاحتياجات وتطلعات المواطن السعودي الذي يعي دوره الحقيقي في المشاركة في المشاريع الحضارية التي تحتاجها خطط التنمية.
ولأن دفع عجلة التنمية والتطور الشامل والسريع يحتاج إلى حصيلة معرفية شاملة ومتنوعة؛ فقد سعت الدولة إلى إنشاء المكتبات ومراكز المعلومات المتخصصة التي تحتضنها المؤسسات والوزارات المختلفة، مع الإسراع في التدريب والابتعاث لاختصاصيي المعلومات وإنشاء الأقسام العلمية والبرامج التدريبية المتخصصة في علوم المكتبات والمعلومات، كل ذلك من أجل سد الحاجة والطلب على المعلومات التي يحتاجها الأفراد والمؤسسات في مختلف قطاع التنمية ويتوافر في المملكة العربية السعودية ما يزيد على ثلاثة آلاف مكتبة متنوعة، منها المكتبات المدرسية والمكتبات العامة والجامعية والمكتبات العامة والمتخصصة ومراكز المعلومات والتوثيق والأرشيفات؛ إلى جانب العديد من المكتبات السمعية والبصرية ووحدات جمع المعلومات وتحليلها مما يوجد في كثير من المؤسسات العامة والشركات والمصانع الكثيرة التي تحتاج إلى المعلومات في مجال الأبحاث والتطوير واتخاذ القرارات.
وقد تطورت المكتبات ومراكز المعلومات السعودية بشكل سريع في السنوات العشر الأخيرة نتيجة للتطور العلمي والاقتصادي والإداري والنمو السكاني وزيادة عدد الباحثين والخبراء؛ إلى جانب الاحتياجات المتسارعة لمواكبة الدول المتقدمة وضرورة المنافسة التجارية في قطاع الأعمال، وأصبحت المكتبات السعودية في مصاف المكتبات الحديثة في الدول المتقدمة، سواء من حيث التنظيم أو سرعة الاسترجاع باستخدام الأنظمة الآلية الحديثة التي يديرها ويشغلها مواطنون سعوديون أكفاء.
ولعل من أهم وأبرز التطورات التي شهدتها المملكة خلال العشرين سنة الماضية في مجال المكتبات هو إنشاء (مكتبة الملك فهد الوطنية) التي تُعد في طليعة المؤسسات الوطنية المعنية بالثقافة الوطنية.
وقد جاء تأسيس المكتبة الوطنية مواكباً لحدث تاريخي عظيم في المملكة العربية السعودية ألا وهو تولي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله مقاليد الحكم سنة 1402ه هجرية، ولهذا تُعد المكتبة مثالاً صادقاً للتلاحم بين القيادة والشعب؛ فهي في الأصل عبارة عن معلم تذكاري شُيد على نفقة المواطنين في مدينة الرياض الذين أرادوا أن يعبروا عن حبهم وإخلاصهم لقائدهم بمناسبة توليه الحكم بشيء يُجسد عمق العلاقة بينهما بتأييد من الدولة ومتابعة وإشراف من صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض والمشرف العام على المكتبة.
ولم تجد اللجنة التي شُكلت لهذا الغرض أنسب من إنشاء مكتبة تعكس العلاقة بين خادم الحرمين الشريفين والعلم، فهو أول وزير للمعارف في المملكة، وعلاقته بالثقافة وثيقة من خلال دعمه لقضاياها المتنوعة، ثم أعلن عن ذلك في الحفل الذي أقامه الأهالي بتاريخ 27/1/1403ه.
أما الخطوة الرئيسية التي اتخذت في سبيل تحويل مشروع المكتبة إلى مكتبة وطنية للمملكة العربية السعودية فجاءت من خلال الخطاب الذي رُفع إلى مقام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز من صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز في 14/1/1408ه، وذلك بالاستفادة من مشروع المكتبة بجعلها المكتبة الوطنية للبلاد بحيث تصبح هيئة ذات شخصية اعتبارية مع تخصيص ميزانية مستقلة، وقد أعقب ذلك سلسلة من الإجراءات الرسمية والتنظيمية حتى صدر نظام المكتبة وهيكلها التنظيمي بموجب المرسوم الملكي رقم (9/م) وتاريخ 13/5/1410ه.
وقد تضمن نظام المكتبة مجموعة من الاختصاصات والأهداف التي من ضمنها جمع ما نُشر داخل المملكة، وما ينشره أبناء المملكة داخلها وخارجها، وجمع ما يُنشر عن المملكة، وجمع ما يُعتبر من الموضوعات الحيوية من إنتاج فكري عالمي، وجمع كتب التراث والمخطوطات والوثائق المنتقاة، وتسجيل ما يودع لديها وفقاً للأنظمة، وإصدار الببليوجرافية الوطنية والفهارس، وإنشاء قواعد المعلومات، وتقديم الدراسات والخدمات المرجعية؛ إلى جانب إقامة وتنظيم المعارض والندوات، وإصدار البحوث والمراجع، والتعاون وتبادل المعلومات والمطبوعات مع المكتبات والهيئات في داخل المملكة وخارجها.. ونحو ذلك من مهام في مجال اختصاصها.
ومن أهم ما حققته المكتبة خلال السنوات الماضية صدور نظام الإيداع بالمرسوم الملكي رقم (26/م) في 7/9/1412ه، الذي تم بموجبه ابتداء من العام 1414ه، تسجيل كل ما نُشر في المملكة من أوعية المعلومات وتثبيت أرقام الإيداع والترقيمات الدولية عليها، مع الحصول على نسخ منها وإيداعها في المكتبة.
وقد تمكنت المكتبة من تحقيق أهدافها بوصفها المؤسسة الوطنية المسؤولة عن الإيداع وحفظ الإنتاج الفكري السعودي وتوثيقه، حيث يتم سنوياً إيداع أكثر من أربعة آلاف مطبوعة سعودية جديدة تقوم المكتبة بتسجيلها وفهرستها قبل نشرها، كما واصلت المكتبة إصدار الببليوجرافية الوطنية السعودية التي وصلت إلى تسعة عشر جزءا هذا العام؛ هذا إلى جانب ما أسهمت به المكتبة من ضبط الكتب والدوريات السعودية وتحسين مواصفاتها على المستوى الدولي.
وفي مجال بناء المجموعات، تسارعت وتيرة نمو المكتبة بشكل كبير حتى وصلت مقتنياتها إلى أكثر من تسعمائة ألف كتاب، وأكثر من مليون وثيقة تاريخية، أهمها مجموعة الإنتاج الفكري السعودي الذي تقتني أكبر حصيلة منه عنها في أي مكان آخر، حيث يتجاوز عدد المطبوعات السعودية خمسين ألف عنوان تصل مجلداتها إلى أكثر من مائتي ألف مادة ثقافية؛ هذا إلى جانب الكثير من أوعية المعلومات المهمة والنادرة التي لها صلة بتاريخ المملكة وثقافتها منها حوالي أربعين ألف صورة تاريخية لقادة المملكة ومعالمها، وكذلك الكتب النادرة والمخطوطات الأصلية النفيسة والمكتبات الخاصة؛ إلى اقتناء مصادر المعلومات الجديدة باللغة العربية وغيرها من اللغات بما يشمل المراجع والدوريات الحديثة على أقراص مدمجة.
وإلى جانب ما تضطلع به المكتبة من مهمات حفظ الإنتاج الفكري الوطني وتوثيقه تقوم المكتبة بتقديم خدمات المعلومات للباحثين داخل المملكة وخارجها عبر وسائل الاتصالات المختلفة، حيث خدمت المكتبة هذا العام أكثر من ستة وثلاثين ألف باحث وباحثة موزعين في أرجاء العالم.
كما تعاونت المكتبة مع غيرها من المكتبات المحلية والعربية والأجنبية عن طريق الإهداء وتبادل المعلومات والمطبوعات والإعارة والتصوير ومعارض الكتب التي تقام سنويا في دول العالم.
كما دعمت المكتبة غيرها من المكتبات المحلية والخارجية عن طريق توزيع حوالي أربعين ألف كتاب من مطبوعات المكتبة ومن الإنتاج الفكري السعودي.
كما أسهمت بتقديم المعلومات والخدمات المرجعية الموجهة للمؤسسات الحكومية التي تحتاج إلى معلومات متنوعة، ولاسيما ما له صلة بتاريخ المملكة، كما أسهمت المكتبة بتقديم المشورة الفنية والتدريبية في الأنشطة الثقافية الوطنية.
وتُعد المكتبة من أكبر الناشرين العرب في مجال البحوث والنشر في حقول المكتبات والمعلومات حيث أصدرت المكتبة حوالي مائة وسبعين عنواناً من الكتب التي ساهمت في تطوير مهنة المكتبات وتوفير المراجع المهمة عن مصادر المعلومات السعودية حتى أصبحت المكتبة بطاقاتها البشرية الشابة وبما تملكه من مقتنيات وتجهيزات حديثة من أهم الصروح الثقافية الوطنية؛ بل هي ذاكرة الوطن ورمز الهوية الثقافية للمملكة العربية السعودية.
علي بن سليمان الصوينع
أمين مكتبة الملك فهد الوطنية
|
|
|
|
|