| مقـالات
خادم الحرمين الشريفين غصن من دوحة حكم تمتد جذورها إلى أكثر من قرنين ونصف القرن، وكان هذا الحكم قد أرسيت قواعده على نهج واضح المعالم والأهداف، وأبرز ما في هذا النهج اعتماده على العلم سبيلاً لأن يعرف المرء ما تجب عليه معرفته من أمور الدين القويم الذي اختاره الله لعباده واصطفى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لإبلاغه إياهم، ولقد توارثت الأسرة السعودية حكم البلاد منذ أن منَّ الله عليها بتبني ذلك النهج، وأدى كل فرد ممن تولوا هذا الحكم ما أدى من جهود وأعمال: كل حسب مؤهلاته الشخصية والظروف التي أحاطت بعهده.
ومن اقتراب العقد الثاني للقرن الرابع عشر الهجري من نهايته، وعند بداية القرن العشرين الميلادي، بدأ الملك عبدالعزيز رحمه الله أولى خطواته لاعادة توحيد البلاد، وما كان النصر الذي حالفه في كثير من معاركه الحربية، وبخاصة في الخمس عشرة سنة الأولى من مسيرته التوحيدية، غير باهظ الثمن.
لقد شهدت سنة 1337ه كارثة وباء في البلاد توفي بسببه مئات من أهلها، وسُميت، تفاؤلا بمغفرة الله لهم وإلهام ذويهم الصبر والسلوان، سنة الرحمة، وكان ممن توفي سنتها تركي بن عبدالعزيز وأخوه فهد، وما عُرف عن الملك المؤسس إلا الصبر على المصائب والرضى بقدر الله.
على أن تلك السنة لم تنته إلا وقد انتهت الحرب العالمية الأولى بكل آلامها ومآسيها، ولم تنقض شهورها إلا وقد رأى الملك عبدالعزيز رحمه الله أولى ثمرات غرسه اليانعة من قيام حركة الإخوان المباركة، وكانت تلك الثمرة الأولى ما حققته فئة قليلة منهم من غلبة فئة كبيرة من خصومه في معركة تربة المشهورة، وهي المعركة التي يُنظر إليها على أنها بارقة أمل وانبعاث فجر لبداية خطوات ستنتهي وقد انتهت فعلا بتوحيد منطقة الحجاز مع ما سبق أن وحده رائد الوحدة من مناطق البلاد العزيزة، وما حلَّ العام التالي لتلك السنة إلا وقد لاحت تباشير نجاحات أخرى في مراحل مسيرة التوحيد، فكان عام 1338ه العام الذي وُحدت فيه منطقة عسير، وبدأت الاجراءات النهائية لتوحيد منطقة جبل شمَّر.
في ظلِّ تلك الانتصارات والنجاحات بُشِّر قائدها وحامل لوائها بمولود جديد سمّاه فهداً، ونشأ الفهد كما نشأ إخوته من قبله وإخوته من بعده تكلؤه رعاية الله ثم رعاية أبيه البطل، وتعلّم ما قدر الله له أن يتعلّم. وما بلغ الثالثة عشرة من عمره إلا وقد وصلت سفينة التوحيد إلى برّ الأمان، وبلغت المسيرة غايتها المنشودة، وتُوّج ذلك كلَّه بإعطاء البلاد اسماً يعبِّر عن اكتمال وحدتها: المملكة العربية السعودية، وذلك عام 1351ه، وكانت عملية البنا الحضاري تسير جنباً إلى جنب مع عملية التوحيد، رويداً رويداً في البداية نتيجة الانشغال بالعملية التوحيدية، ثم قفزة تتلوها قفزة بعد اكتمال الوحدة واستتباب الأمن.
ولم يكن فهد، الشاب المتدفِّق حيوة، غائباً عن مسرح الشؤون العامة للمملكة الجديدة. فقد رافق أخاه فيصلاً (الملك فيما بعد) إلى الاجتماع التأسيسي لهيئة الأمم المتحدة، الذي انعقد في مدينة سان فرانسيسكو عام 1364ه/ 1945م، ثم مثّل المملكة في حفل تتويج ملكة بريطانيا عند بلوغه الثلاثين من عمره.
على أن تدفق عطاء الفهد بدأ بعد أن أسندت إليه مسؤولية التعليم في المملكة، وذلك في مستهل عهد أخيه الملك سعود، رحمه الله، عام 1373ه ولقد أثبت بعزيمته وتفانيه في عمله أنه أهل لتحمل تلك المسؤولية العظيمة، التي أصبحت وزارة بعد أن كانت مديرية عامة، فرعاها حقّ رعايتها. وفي ظلِّ تلك الوزارة الجديدة التي تولاها خطت المملكة خطوات واسعة جداً في مجال التعليم العام، الذي شمل المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وفي مجال التعليم الخاصة، الذي شمل التعليم الفني والثقافة الشعبية في مرحلتي مكافحة الأمية ومتابعة الدراسة، والتعليم كما هو معلوم أساس كل نهضة حضارية.
ولم تكن طموحات الوزير الأمير فهد لتُحدَّ بدائرة التعليم العام والخاص قبل المرحلة الجامعية، بل كانت طموحاته من العظمة بحيث صمم على افتتاح جامعة في البلاد، وانتصر تصميمه الواثق رغم كل الصعوبات والظروف. فشهد عام 1377ه افتتاح جامعة الملك سعود في الرياض. وما كان أعظم سعادته وهو يري غرس يمناه المباركة الرائدة تنمو وتنمو لتصبح دوحة يتفيأ ظلالها، وينعم بخير ثمارها، أعداد كبيرة من الذين أكملوا تعليمهم العام في المدارس الثانوية التي بذل كل ما استطاع من جهود لتقدُّمها، انتشاراً وتطويراً وكما كان الراعي لتلك الغرسة الجامعية المباركة الرائدة كان رئيسها الأعلى الحريص على ازدهارها وينوع ثمارها.
وفي عام 1383ه كان وزير المعارف الأول على موعد مع مسؤولية جسيمة أخرى، ذلك انه تولى مقاليد وزارة الداخلية. وما أعظم دور الأمن في النهوض العمراني! وما أسماه في تمهيد طريق التقدم والرقي. كما رعى فهد وزارة المعارف حقّ رعايتها قام بمهمَّات وزارة الداخلية خير قيام. وفي العام التالي عيَّنه أخوه الملك فيصل، رحمه الله، نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء مع بقائه وزيراً للداخلية. ونهض بالمسؤوليتين النهوض المتوقع منه. وبعد أن أصبح أخوه الملك خالد، رحمه الله، ملكاً للبلاد، عام 1395ه، أصبح هو ولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء. وأسندت إليه المسؤوليات الكبيرة في شؤون الدولة العامة، داخلياً وخارجياً، وذلك بتوجيه الملك خالد الذي أسند إليه تلك المسؤوليات. ولما انتقل خالد إلى جوار ربِّه، عام 1402ه بويع الفهد ملكاً للبلاد.
ولقد كُتبت كتابات كثيرة وافية عن الإنجازات الحضارية التي شهدتها المملكة في عهد خادم الحرمين الشريفين، أمد الله في عمره على زيادة عمل صالح يرضي ربه، ويرسِّخ علوّ مكانته في تاريخ شعبه وأمته. ومن هذه الكتابات المبنية على إحصاءات مستفيضة تشمل جوانب عدّة الكتاب الذي ألَّفه الدكتوران ناصر الرشيد وإسبر شاهين، وعنوانه: (الملك فهد ومسيرة الإنجازات الحضارية في المملكة العربية السعودية). على أن هذا الكتاب صدر قبل عشر سنوات؛ أي أنه لم يتناول إلا الإنجازات التي تمَّت في البلاد من بداية نهضتها الحضارية إلى قرب نهاية النصف الأول من عهد خادم الحرمين الشريفين، وبالتالي فإن إحصاءاتٍ عن الإنجازات بعد عشرين عاماً من بداية هذا العهد وهذا مربط الفرس في المناسبة المتحدث عنها هذه الأيام ستوضِّح مداها خير توضيح.
وعطاء خادم الحرمين الشريفين قبل تربُّعه على قمَّة هرم المسؤولية في المملكة وبعده عطاء متعدِّد الجوانب واضح السمات. على أن عنوان هذه المقالة المختصرة مركّز على جانب واحد منها متَّصل بالعلم والمعرفة، ولقد سبقت الإشارة إلى شيء من جهوده في هذا الشأن عندما كان وزيراً للمعارف. وما كان إلا مسانداً، بكل ما لديه من قوة تأثير، لمن تولَّى إدارة مسيرة التعليم بعده، حدث هذا حينما كان وزيراً للداخلية ونائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء، كما حدث بدرجة أعظم وأعمق بعد أن أصبح ولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء. أما بعد أن أصبح ملك البلاد فتفانيه في هذا المجال كما في المجالات الحضارية الأخرى تغني معالم ثماره المشاهدة عن أيِّ حديث حوله.
والله وليُّ التوفيق.
|
|
|
|
|