| مقـالات
في معرض مناقشتي في المقالة السابقة لبعض الحيثيات المتعلقة بالإرهاب، أشرت إلى ضرورة تفعيل طرائق التأسيس الثقافي للوعي الاجتماعي الضروري لأفراد المجتمع لتحقيق التعامل الأمثل مع ما يقع من أزمات وكوارث. واستهلالاً دعوني أورد أمثلة مختزلة ومبسَّطة لما أعنيه بذلك، حيث يخفى إننا ندفع ثمناً مضاعفاً حين يحدث حادث ما، والسبب في ذلك و ما يطفو على السطح من سلوكات شأنها إعاقة عمليات الإنقاذ، كالتجمهر، والتحلُّق حول الحادث، وعدم إفساح الطريق أمام سيارات الإسعاف.. وخلاف ذلك. فالمسألة هنا ليست هي (قِلَّة وعي) وفقا لتعريفنا الخاطئ لمفهوم الوعي، حيث ننظر إليه باختزال يجعل منه مجرَّد (معلومة مجردة!) فالوعي يتعدَّى ويتجاوز مجرَّد حشو المعلومات في كيانات الأفراد، من حيث إن لدى هؤلاء الأفراد المعلومات المجردة الكافية عن تبعات ما يفعلونه، غير أنه ليس لديهم القدرة على ترجمة المعلوم المجرد إلى واقع في عالم الواقع، وأعني به عالم التطبيق المحسوس، وبالتأكيد فأسباب ذلك اجتماعية في الأساس، إذ إننا نبدأ بتوعيتهم قفزاً من المنتصف زمنياً واجتماعياً. فلم نبدأ معهم من الأساس الثقافي، أي من أولى لبنات التنشئة الاجتماعية الضرورية (الزراعة) ما نريد حصده منهم حيث بلوغهم مبلغ الرجال. ولهذه الأسباب فإننا نجد أنهم في الوقت الذي (يعون نظرياً) التبعات المدمِّرة لما يفعلونه حين لا يفسحون على سبيل المثال الطريق أمام سيارات الإسعاف، لا يملكون القدرة الثقافية/ الاجتماعية/ النفسية على (تقمُّص) النتائج الوخيمة لفعلهم هذا، وذلك بسبب أنه يعوزهم الإحساس المفترض بأهمية (الوقت) بمفهومه الاجتماعي/ التطبيقي. كذلك فليس لديهم من (الاستقلالية) الفكرية ما يمنحهم المساحة الكافية للتفكير المستقل الخلاَّق، وذلك بسبب غياب التناسق والتنسيق بين مؤسسات تنشئتهم الاجتماعية انطلاقا من المنزل، مروراً بالمدرسة والأقران، وصولاً إلى وسائل الإعلام، ومن ثم عوداً على بدء دواليك دواليك. (فتجريعهم) الوعي (بالجملة) معزول عن سياقاته النفسية، والاجتماعية (التطبيقية) هو العامل الرئيس وراء انتفاء جدوى ما نزرعه فيهم من وعي. إنها التوعية (من المنتصف) تلك التي تدفع بهم إلى متاهات اختلاط المفاهيم، وتناقض السلوكات، وتعدد تعاريف الصح والخطأ. فثقافتنا لا تتيح للفرد الاجتماعي من (الذكاوات) سوى (الذكاء التجريدي)، وهو قدرة الفرد على التعامل مع الأفكار والرموز مجردة من سياقاتها الاجتماعية، وعلى حساب ماذا..؟! بالتأكيد على حساب الذكاء الاجتماعي، فانتفاء القدرة على مراقبة الذات selfMonitoring وهذان المفهومان يشيران إلى القدرات التي تمنحها الثقافة للفرد لفهم مستلزمات ومتطلبات المواقف والأحداث الاجتماعية المختلفة التي يعيشها، فثمة مفهوم مضمن هنا وهذا هو مفهوم (التحكم)، أي المسؤولية الذاتية فكراً وسلوكاً.
عليه فالفرد الاجتماعي علميا هو المتأثر والمؤثر الأول والمباشر والأخير في الكوارث الطبيعي منها والفني، مما يعني أنه يستحيل على هذا الفرد حسب هذا المنوال التربوي فهم أبعاد الكارثة إلا أن تحصل له شخصياً، وذلك لأننا نمنحه وعياً اصطناعياً من خلال ثقافة (تنمية الذكاء ميكانيكيا). وهنا نخسر فضيلة ربط وعي الفرد بذاته بطريقة تبادلية مع وعيه بقيمه وعاداته وتقاليده ونظم معيشته. فجهل هذا الفرد بذاته يقود إلى تجاهله لأهمية دوره الاجتماعي الذي من ضمنه ضرورة توخي أسباب السلامة بمفهوميها الشخصي والجمعي، أي سلامته وسلامة الغير كذلك، وإلا فإن وعيه الحقيقي لن يتحقق إلا من خلال وقوعه ضحية أو إيقاعه لضحايا؟
... ما هي الحلول حينما يكون قد (فات الفوت) بمعنى كيف لنا أن نعوض تبعات عدم البدء من الأساس لزراعة الوعي، فاضطرارنا إلى القفز من المنتصف (إليه)، مما يعني الدوران في حلقة مفرغة..؟ وما علاقة ذلك بمفهوم ما يعرف علميا ب(الإعلاء)؟.. أمَّا هذا الموضوع فلعلِّي أتطرق إليه في مقالة مستقلة في المنظور القريب إن شاء الله.
|
|
|
|
|