.. نحتفل بعد غدٍ الثلاثاء في بلادنا المنصورة بإذن الله، بذكرى عظيمة في نفوسنا، عزيزة على قلوبنا، هي ذكرى البيعة، لخادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ومرور عشرين عاماً على تولي جلالته مقاليد الحكم في المملكة.
.. عشرون عاماً مرت مر السحاب، لكنها جاءت حافلة بكثير من الإنجازات الخضاب، التي ساهمت إلى حد كبير، في وضع المملكة على الطريق الصحيح، نحو المزيد من النمو والتقدم، والكثير من الخطوات الاصلاحية المهمة في الإدارة العامة للدولة.
.. وفي مناسبة عظيمة كهذه، أجد أني مشدود بصفة خاصة، إلى الكلام على تلك الفترة التي تولى فيها خادم الحرمين الشريفين، أول وزارة للمعارف في العام 1374ه، فقد غرس رعاه الله من ذلك العام الميمون، غِراس خير وبركة، من شباب هذا الوطن العظيم، فرعاه ونمَّاه، حتى أزهر وأينع وأثمر، فها نحن اليوم، نقطف ثمار هذه الغِراس، ثماراً يانعة طيبة في كافة الميادين، العلمية والثقافية والاجتماعية، حيث ظل جلالته من ذلك العام وحتى يومنا هذا، يركز على الأهمية القصوى لبناء الإنسان السعودي، قبل أي بناء آخر.
.. ويأتي في مقدمة إنجازات جلالته في الأعوام العشرين التي مضت، المشروع الحضاري الفريد، الذي خص به جلالته الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، استشعاراً منه رعاه الله، لمكانة مملكته بين الدول الإسلامية، والمسؤولية التي تتحملها، تجاه حماية ورعاية المقدسات الإسلامية، وتجاه خدمة المسلمين في جميع أنحاء العالم.
.. لقد حظيت البلاد في الأعوام العشرين الماضية، بنهضة تنموية واسعة على كافة الصُّعُد، لم تعرفها من قبل. وبرزت المملكة العربية السعودية، كقوة سياسية واقتصادية مؤثرة، لها مكانة علية، ووزن كبير، عربياً وإقليمياً ودولياً، وذلك بفضل السياسة الحكيمة، التي رسمها لها قائدها المظفر، في كيفية التعاطي مع المجريات والسياسات المختلفة، بحنكة وحكمة وشفافية.
.. أما ما يختص بالإصلاحات الإدارية التي أنجزت في الأعوام الماضية، والتي تمثلت في صدور قوانين منظمة، للحكم، ومجلس الوزراء، ومجلس الشورى، والمناطق، فهي بدون أدنى شك، ساعدت على تثبيت القواعد الادارية والشورية والاجتماعية والاقتصادية. تلك القواعد الأساسية اللازمة، لدولة تتطور بصورة أكبر، وتنمو بوتيرة أسرع ثم صدر بعد ذلك من التنظيمات الإدارية والقانونية، ما ساهم بشكل واضح، في تعزيز مكانة الادارة المحلية، وقوّى من فعاليتها وعملها، في حفظ وصون الحقوق العامة والخاصة، وتدعيم البنية الاجتماعية في المملكة، وأعني بذلك، انظمة المرافعات، والادعاء العام، والمساءلة، والإيقاف، التي صدرت مؤخراً.
.. أما على الصعيدين السياسي والاستراتيجي، فقد حققت المملكة في الأعوام العشرين الماضية، نجاحات مهمة لم يتسن لها تحقيقها في أكثر من سبعين سنة خلت، وقد تمثل ذلك بشكل خاص، في توقيع اتفاقية تاريخية مهمة بين المملكة واليمن، تم بموجبها، تعيين الحدود البرية والبحرية بين البلدين، وترسيمها بشكل نهائي، وقفل الملف الخلافي الشائك، الذي ظل مفتوحاً منذ العشرينيات والثلاثينيات الميلادية، وهو نجاح تكرر في انجاز اتفاقية مماثلة للحدود البرية والبحرية، بين المملكة والكويت، ومثلها بين المملكة وقطر.
.. إن هذه الاتفاقيات الحدودية المبرمة مع دول الجوار، في جنوبي البلاد وشرقها، تعد من أهم الإنجازات السياسية والاستراتيجية التي تحققت في العشرين عاماً الماضية، لما تحمله من معطيات اجتماعية واقتصادية وأمنية وسياسية، تعزز من الترابط بين شعب المملكة، وبين الشعوب المجاورة، في اليمن والكويت وقطر.
.. إنه لشرف عظيم، أن يحتفل أبناء وبنات هذه البلاد اليوم، بهذه المناسبة الكبيرة، وهم يستذكرون بكل فخر واعتزاز، ما حققته لهم دولتهم المظفرة، بقيادة خادم الحرمين الشريفين، في الأعوام العشرين الماضية، من نهضة شاملة، وتقدم مطرد، ومنجزات حضارية باهرة، لم تكن لتتحقق في عقدين من الزمان، لولا حنكة خادم الحرمين الشريفين، وبعد نظره، وهمته العالية.
.. إن ما يحسب لخادم الحرمين الشريفين، إلى جانب إصلاحاته الإدارية والتنموية الواسعة، ذلك القرار التاريخي الشجاع، الذي اتخذه حفظه الله بكل همة واقتدار، وبكل رجولة ومسؤولية، من أجل العمل على مواجهة العدوان العراقي على دولة وشعب الكويت، الذي وقع صبيحة اليوم الثاني من أغسطس عام 1990م، وما نتج عن هذا العدوان، من تهديد سافر لسيادة المملكة، وانتهاك لحدودها، وابتزاز لحقوقها، واستهداف لدول الخليج كافة.
.. إن هذا القرار الحكيم الذي نهض بتبنيه وحمله القائد الهمام، حفظ للمملكة كرامتها وحقوقها، وصان سيادتها وحدودها، وأعاد للمنطقة بكاملها، توازنها الذي فقدته بفعل الممارسة الهوجاء، للقيادة العراقية الرعناء، وحفظ لكافة المواطنين في منظومة دول الخليج العربي، أمنهم واستقرارهم، الذي هدده النظام العراقي بعدوانه الآثم، ان هذه هي شجاعة الحكيم، التي قال بها المتنبي، وعناها في شعره:
وكل شجاعة في المرء تغني
ولا مثل الشجاعة في الحكيم
.. وهي هي.. الشجاعة العاقلة، التي تتصدى لكافة التحديات، وتصد الطغاة، وتردع البغاة، والذي جسدها أمير الشعراء بقوله:
إن الشجاعة في القلوب كثيرة
ووجدت شجعان العقول قليلا
.. إن النجاحات الكبيرة التي تعتد بها الأمم. وتفتخر بها، وتفاخر بها غيرها، لا تتوقف ب«الضرورة»، عندما تنجزه من مشاريع اقتصادية وتنموية واجتماعية فقط، ولكنها تتعدى ب«الضرورة»، إلى نجاح الأمة وقيادتها، في التعاطي والتعامل مع المتغيرات الإقليمية والدولية، وإجادتها فن إدارة الأزمات، وتفوقها في التصدي لشتى التحديات، تلك التي تعترض سبل تقدمها، أو تعرقل مسار تطورها، أو تهدد وجودها وكيانها ووحدتها، أو تنغص عليها ما تتمتع به من أمن ورفاهية واستقرار وكرامة، إلى جانب ما تساهم به هذه الأمة، في تاريخ البشرية جمعاء، من عطاء إنساني مثمر، بهدف الرقي والبناء.
.. كان هذا دأب بلادنا، وخُلق حكامنا، وخلاق مواطنينا طيلة الأعوام الماضية. بل هو العلامة الفارقة، التي ظهرت وتظهر بها المملكة بين دول العالم، وتميز شعبنا الكريم الأبي، بين الشعوب كافة.
.. إن هذه البلاد الفتية، منذ عهد المؤسس الموحد، الملك عبد العزيز رحمه الله وحتى يوم الناس هذا، وهي تنشد الخير كل الخير، وتعمل لأجله ومن أجله، وتتوجه بكافة قواها وجهودها وإمكاناتها، مرئية وغير مرئية، لمصلحة أبنائها أولاً، ولمصلحة غيرهم من أبناء العرب والمسلمين على وجه الأرض. فهي مثلما قال شاعر العربية، أبو العلاء المعري:
ولو أني حبيت الخلد فردا
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
.. هذا هو المنهج الذي تربينا عليه، والنهج الذي خبرناه وعرفناه في دولتنا، وفي مؤسساتنا الحكومية والأهلية وهو الشيء نفسه الذي ليس بوسع إنسان منصف، ولا بمقدور عادل عاقل، من بين إخوتنا العرب، أو من بين المسلمين من غير العرب، ان يجحده، او ينكره علينا.
.. أقول هذا، ونحن نسمع ونرى، من بين هؤلاء الذين رعتهم دولتنا، وحَبَتهُم مملكتنا، ورزقتهم أرضنا، من يتعدى به الجحود، أبعد الحدود، فلا يكتفي بالنكران، أو ترديد ما هو معروف عنه من بطلان، بل يسعى جاهداً، إلى خيانة الأهل والوطن، والطعن في الظهر، والمبالغة في الإيلام حتى العظم..! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
.. يأتي هذا اليوم البغيض وهو تحدٍ آخر نواجهه من بعض من ربوا في هذه البلاد، أو من بعض من غمرهم خيرها، ووصلهم برها، وشملهم فضلها، ولم تمتد يدها لهم في يوم من الأيام، إلا وهي العليا، عطاء كرم، في تواضع جم.
.. ومع كل ذلك، فإن بلادنا العزيزة هذه، هي البلاد التي نعرفها في السراء والضراء، تسود وتزهو، بما جُبلت عليه من نزاهة، وتعلو على الصغائر، بما تملك من أسباب المنعة والقوة، فهي الكبيرة دائماً، حين تصفح وتسمح، في عفو لا غفو، والكبيرة دائماً، حين تأبى الذل والمسكنة والمزايدة، فتنصر الحق يوم ينتصر بها الحق.
.. هذه بلادنا دائماً أمس واليوم وغداً بقيادة خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي عهده الأمين، رضي من رضي، وأبى من أبى.. تماماً مثلما قال المقنع الكندي ذات يوم:
وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي، وفرت لحومهم
وإن هدموا مجدي، بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
.. وما أكثر الذين «يبقرون لحوم اخوانهم» في هذا الزمان، بدل أن يوفروها..! و«يهدمون أمجادهم» بدل أن يبنوها..! وقدر الكبار في كل الأزمان، التصدي لكافة المحن، وتحقيق الانتصار تلو الانتصار، على كل التحديات.
.. أنعم بك يا «بلدي»، من شجرة ظليلة مثمرة رحيمة.
.. حتى الناكر والجاحد والمسيء لا يستغني عن ظلالك الوافرة، وثمارك اليانعة.
.. دومي لنا جميعاً يا «بلدي»، الأم الرؤوم الحانية، حتى لو قذفوك بالحجارة..!
.. إن الشجرة المثمرة وحدها، هي التي ترمى بالحجارة.