| الثقافية
* عام 1978م شهد أول زيارة لنا للقاهرة، وكانت أيضا أول خروج من المملكة،كنا في المرحلة الثانوية، وقررنا السفر قبل عيد الأضحى بعدة أيام أنا وصديقين من أصدقاء الطفولة، كان السفر الى القاهرة عن طريق مطار جدة الذي وصلناه مساء، بينما الرحلة الى القاهرة في السابعة صباحا تقريبا، خرجنا من المطار ووجدنا «مقهى شعبياً» قريباً اسمه مكتوب هكذا «قهوة المطار» وكان على الطريقة التقليدية «مراكيز» خشب، وتستطيع ان تطلب «بطانية» إذا أردت ان تنام مقابل مبلغ بسيط، قرأنا كل الصحف المحلية، وتناولنا العشاء ثم طلبنا من العامل إيقاظنا في الساعة السادسة، وكان كل شيء على ما يرام، حتى كان الصباح الباكر فدخلنا المقهى المغلق أو المسقوف بعد «نومة» باردة في المقهى المفتوح على الفضاء، زرنا دورة المياه، تناولنا الافطار، ثم عبرنا الشارع الى المطار الذي كان على بعد خطوة.
كنا بوجوه فرحة ومستبشرة، لكنهم فاجأونا بأن الطائرة أغلقت أبوابها.
كانت صدمة عظيمة..
قلنا لموظف المطار إننا أصلا من الرياض ولأنه لا توجد حجوزات جئنا للسفر عن طريق مطار جدة، قال لا يمكن لأن الطائرة على وشك الاقلاع، قلنا له: يا رجل لقد كنا نائمين في «قهوة المطار» وأشرنا بأيدينا عليها لأننا كنا نراها من خلال الجدار الزجاجي ولا نريد أن نعود لها مرة أخرى، قال انتظروا لحظة، ثم عاد لاستعمال هاتفه اللاسلكي الضخم، وبعد دقائق فتح الباب وأمر أحد الموظفين بمرافقتنا الى سلم الطائرة، كانت الطائرة قد امتلأت بالركاب الذين ينظرون لنا من نوافذ الطائرة الصغيرة، ونحن بكل خيلاء بدأنا نشعر ان القاهرة على وشك التحقق فعلياً.
* في القاهرة رأينا العالم واسعاً وكبيراً، رأينا عالما آخر أدهشنا وأيقظ روحا جديدة كانت كامنة فينا، زرنا كل الأماكن في الصباحات الباكرة، كل الأماكن المعروفة التي من الضروري ان تراها لكي تثبت أنك زرت القاهرة فعلا، زرنا كل الأماكن التي لم يعد من الضروري أن نراها في السفريات الأخرى للقاهرة، لكن الأحياء والأسواق الشعبية كانت أكثر الأماكن تأثيراً بالنسبة لي وأكثر التصاقاً بالذاكرة.
كان في ذهني مسلسل الأبيض والأسود المصري «الليل الطويل» بطولة عبدالمنعم مدبولي وهالة فاخر وحارته الفقيرة وناسه البسطاء، وها هو هذا العالم يسير أمامي على قدمين، وفي ذهني وجوه جمال عبدالناصر وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وفريد الأطرش ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وسيد مكاوي.. وتاريخ طويل من الأحلام عن مصر بطلة 73م.
* واجهنا الكثير من المواقف التي كانت أكبر من امكاناتنا، وواجهنا الكثير من المواقف التي كنا نظن أننا أبطالها، وواجهنا مواقف ضاحكة على الدوام مع رجل الشارع ومع باعة الصحف ومع سائق «التاكسي»، لكن تظل هذه الرحلة مطبوعة في الذهن برائحة خاصة لا يمكن نسيانها رغم عشرات السفريات التالية للقاهرة والتي امتدت لأشهر طويلة أحياناً، تظل هذه الزيارة وشماً أبيض في ذهني استطيع استراجعه في كل لحظة حين أريد التأكد من ان ذاكرتي ما زالت تعمل.
لكن أهم موقف في تلك الرحلة كان ليلة عيد الأضحى، حين كنا نريد الصعود الى برج الجزيرة المشهور، حدث خلاف أو سوء فهم مع أحد الأصدقاء، وفوجئت به يطلب مني خلع القميص الذي ألبسه والذي كنت قد استعرته منه.
قلت له: أنت وافقت ان ألبسه هذه الليلة.
قال: بطّلت يا أخي..رجعت في كلامي.
قلت: هنا في هذا المكان.
قال: نعم.
قلت: أنت تمزح.
قال بصوت عالٍ: لا يا أخي أنا لا أمزح والله العظيم أنا جاد.
قلت له: عيب عليك.. الناس تنظر لنا.
ثم طلبت من صديقنا الآخر التدخل لإيقاف تهور هذا المجنون وفيما هما منشغلان بالتفاهم أطلقت ساقي للريح ودخلت برج القاهرة مختفيا في زحمة الأجساد بوجوهها العيدية.
* تظل القاهرة مدينة عذبة وغامضة لأن تاريخها يقول ان مفاتيحها كثيرة.. وأبوابها كثيرة أيضا، وأولها قراءة هذا التاريخ.
** فاصلة حول موضوع سابق:
** في الموضوعين السابقين «البحث عن القارىء المفقود» قلت ان الكتابة عن «بطالة» كثير من المواطنين، وعن «فقر» بعض الأسر المحتاجة، وعن ضرورة «السعودة»، وعن الكثير من القضايا الاجتماعية الهامة، هي كتابة نبيلة وشيء إيجابي في حياتنا الصحفية والانسانية، لكن الزوايا الصحفية التي تنهض على هذه الكتابات هي زوايا بلا مشاريع ثقافية، أو فكرية مستقبلية، وفي الغالب أصحاب هذه المقالات هم صحفيون أو صحفيات ضلوا الطريق، لأن الذي نعرفه ان هذه القضايا الاجتماعية الهامة مثل البطالة والفقر والسعودة بحاجة الى تحقيقات صحفية تنزل الى الميدان وتتلمس احتياجات الناس وتقابل المسؤولين وتعرض عليهم هذه القضايا حتى يكون العمل الصحفي واضحا وصريحا وايجابيا ومكتمل الوجوه، وإذن المسألة بالنسبة لي هي منهج صحفي يفترض ان يقوم عليه العمل لأن «الزاوية» أو العمود ليست لعرض حالات، ولكن لتقديم أفكار مستقبلية على كل المستويات، تقوم على المعلومة والتحليل والاستنتاج واستشراف المستقبل، وأظن ان كثرة الزوايا والأعمدة الاجتماعية في صحفنا المحلية هي سبب اختلاط بعض «الحابل» ببعض «النابل» وهل نقول: لا بأس بهذا الاختلاط لأننا تعودنا على اختلاط أشياء كثيرة؟! لا أدري.. السؤال موجه للجميع.
fahdateq@hotmail.com
ص.ب: 7823
الرياض: 11472
|
|
|
|
|