| مقـالات
كنت متلهفة جداً لزيارة «نهر بردى» أبرز معالم دمشق ورئتها النقية.. حزنت لبردى بعد بعادي عنه خمس سنوات وجدته حزيناً كئيباً لم يعد يجري، ولم يعد يصفق للأحبة ولقائهم، لم تعد شرايين قلبه تخفق بالحياة، ولم يعد بمقدوره أن يبعث الحياة، ويضفي الجمال والسحر على دمشق..
كان«بردى» أبرز معالم دمشق على مدى العصور، توقف النبض في فؤاده بعد أن جارت عليه الأيام، وذبحه أعداؤه باسم العشق والهوى، فاستلوا دماءه من شرايينها، وسلبوه مقومات الحياة بألوف الآبار التي زرعوها حوله، ولم تسعفه السماء بالدم الجديد ها هو «بردى» الحبيب يلفظ أنفاسه، وها هم عشاقه ومحبوه من حوله يذرفون الدمع حزناً على ماضيه الحافل بالحب والخير والعطاء.. بلى.. كل تاريخك يا بردى حب وخير وعطاء، أنت يا بردى الذي زرعت في الصدور حب دمشق، وأنت الذي كنت تدخل كل بيت لتروي السكان وتسقي ورودهم وياسمينهم وأشجارهم وتفيض مياهك العذبة، في بركة كل دار، وفي فستقيات الغرف وإيواناتها الساحرة، وتبعث السحر وتنشر الجمال أينما سرت أو حللت.. يا بردانا الحبيب.
«بردى» هل نرثيك أم نحقد على الظالمين الذين لم يحافظوا عليك الى أن قتلوك دون رحمة وأحالوا مسراك الى مصب للمجاري ومكب للفضلات، فشوهوا جمالك وسحرك وجعلوا منك قبراً للنفايات...؟
يا بردى الحبيب.. زرتك بعد خمس سنوات من الغياب الصعب.. بكيت عند ضفافك التي طالما جلست عليها وأنا طفلة، ولطالما نزلت الى مياهك الغزيرة وأمواجك الهدارة وكنت يا بردى معشوقي الأول بين الأنهار والبحار.
«يا بردى» أين نزهات الدمشقيين على ضفافك، في الربوة ودمر، والهامة، والجديدة، وبسيمة، وحتى النبع؟
أين أمسيات الأحباب ونهاراتهم حولك، وهم يصنعون الشاي بأنفسهم ويصبونه في كؤوسهم من السماور الذهبي الجميل ويتبارى الجميع في إعداد جلسات السمر واللهو البريء..
«يا بردى الحبيب»..
لقد تغنى بجمالك الشعراء، والبلغاء، والفصحاء ما رآك شاعر الا ألهمته رقيق القوافي، ولا صحبك كاتب أو فنان إلا شحذت قريحته، وضاعفت إبداعه بعد أن جلوت ذهنه وأنزلت همه وأنسيته متاعب الحياة، عندما قدم أحمد شوقي أمير الشعراء والشعر من لبنان قاصداً دمشق لحضور حفل تكريمه في المجمع العلمي العربي لم يكن قد أعد شيئا ليقوله في هذا الحفل الكبير ولكنه حين مر بدمر والربوة وشاهد (فروعك السبعة) ثم أوى الى فندق الشرق بجوار محطة الحجاز خلا الى نفسه بعض الوقت ونظم رائعته الخالدة التي يقول فيها:
قُمْ ناجِ جُلَّق وأَنْشِد رسمَ مَنْ بانوا
مَشتْ على الدَّهرِ أحداثٌ وأزمانُ |
وفي وصفك يا بردى قال شوقي:
جَرى وصَفَّق يلقَانا بِها بَردى
كمَا تلقاكَ دون الخلْدِ رضْوانُ
أما الأديب الكبير حسان بن نمير فقد قال في وصف «بردى»:
ويا برَدى لازَال ماؤُكَ بارداً
وماءُ الحيا مِنْ ساحَتيكَ نَميرُ |
الآن يا بردى بكل الحزن والأسى لم تعد تجري، ولم تعد تصفق تأهيلاً وترحيبا للقاء الأحبة وأصبحت تلهم عشاقك الدموع والأحزان. إن بردى يستغيث ويستنجد بعشاقه ومحبيه وأهل بردى من حوله يتطلعون الى من بيدهم الأمر لإنقاذ بردى دمشق، بردى الغوطة، بردى الياسمين.
|
|
|
|
|