| متابعة
تُعد الجمرة الخبيثة وغيرها من الأمراض المستعملة في ترسانات الحرب الحيوية، سلاحاً بيولوجياً رخيصاً وشبحاً مخيفاً، يبث الذعر بين المجتمعات المتقدمة والدول الكبرى التي لا جدوى من حربها ومقاومتها بالأسلحة التقليدية، وأصبحت في الأيام القليلة الماضية مارداً رهيباً بوسعه أن يفلت من قمقمه ليهدد البشرية بأخطارٍ لا يمكن حسابها،
وجراثيم ميكروب Bacillus anthracis المسبب لمرض الجمرة الخبيثة يمكن تحضيرها بصورة بسيطة غير معقدة بواسطة بعض المختصين المهرة من علماء الأحياء الدقيقة، حيث تحضيره لا يحتاج لتقنيات علمية معقدة ولا تفاعلات عديدة أو متسلسلة مثل الأسلحة النووية والكيماوية، والمدهش بأن طريقة تحضير جراثيم الجمرة الخبيثة، لا يوجد بها سرية، ولا به قصور معرفي لدى علمائنا الشرقيين مثل الأسلحة النووية، وبذا تستطيع أي دولة نامية وبكوادر وطنية مدربة من علمائها ان تحضر كافة أنواع الأسلحة الجرثومية،
ولكن الحكم في هذه المسألة يرجع للضمير الإنساني، حيث تتعالى الأصوات في مجتمعاتنا الشرقية الأصيلة والعريقة لتفادي تصنيع أسلحة الدمار الشامل من نووية وجرثومية وكيماوية، وذلك ليعيش المجتمع في أمن ورخاء وسلام،
وإنني كمتدرب ومختص في الأحياء الدقيقة وهندستها الوراثية، أتفق تماماً مع الأستاذ جاسر عبدالعزيز الجاسر في مقاله بعنوان «ماذا وراء نشر رعب الجمرة الخبيثة» المنشور بجريدتنا الحبيبة «الجزيرة» العدد 10614، بيوم السبت 4 من شعبان، من أن الجمرة الخبيثة سلاح الفقراء، فهي حقاً سلاح الفقراء الصامت الذي تحضره بسهولة وبكميات كبيرة بإمكاناتٍ عادية، فأي مصنع مضادات حيوية صغير، يمكن برمجته فوراً لينتج مساحيق جافة أو سموم بكتيرية قاتلة للجمرة الخبيثة أو غيرها، والعملية بسيطة جداً، وبعيدة تماماً عن التعقيد، ولا يوجد بها أسرار تقنية لدينا كمختصين، ولتقريب ذلك للأذهان وللقارئ العادي، نضرب مثالاً لذلك بمصنع المضاد الحيوي البنسلين، فأثناء صناعة البنسلين حيوياً، توضح جراثيم فطرة البنسيليوم «الكائن الحي الذي ينتج البنسلين» في تنكات كبيرة تحتوى على السائل المغذي للبنسيليوم والذي يحتوى على مصادر كربون ونيتروجين وفوسفور وغيرها، ويقلب هذا السائل بالجراثيم المحقونة فيه، ويدفع في جهاز يسمى المفاعل الحيوي Fermentor حيث يتحكم هذا الجهاز اتوماتيكياً في عوامل نمو فطرة البنسيليوم من تهوية، ودرجة حرارة، ودرجة حموضة، ويقيس أيضاً كمية نمو الفطرة وانتاجها من المضاد الحيوي البنسلين، وبعد اتمام نمو الفطرة، يكون البنسلين قد أُنتج بالسائل، ومن ثم يسحب السائل بما فيه من بنسلين، وينشف كيميائياً، ثم تلعب التكنولوجيا الصيدلية دورها بعد ذلك في تشكيل المضاد الحيوي لكبسولات او مستحلبات او غيرها، ونفس الخطوات السابقة تقريباً قد تُتبع لتصنيع سلاح بيولوجي بالجمرة الخبيثة او الطاعون او الحمى الصفراء او غيرها، فبدلاً من استعمال فطرة البنسيليوم لصناعة البنسلين، توضح بكتيرة B، anthracis لإنتاج سلاح الجمرة الخبيثة، توضع بكتيرة Brucella abortus لإنتاج سلاح الاجهاض المعدي، توضح بكتيرة Pasteurella pestis لإنتاج سلاح الطاعون،
ويأتي الخطر الفادح ان استعملت سموم البكتيريا كسلاحٍ بيولوجي، حيث يمكن استخلاص هذه السموم وتنقيتها بالتحليل الكيميائي الكروماتوجوافي، واستخدامها لإحداث المرض بطريقة أشد فعالية من الإصابة بالميكروب نفسه، نظراً لتركيز السم، واصابته المباشرة وظهور اعراضه بصورة فورية، ومعظم السموم الحيوية قاتلة او مقعدة للأفراد لفترة طويلة وفورية، أكثر من الميكروب نفسه في الحرب الحيوية، وذلك لأن البكتيرة الخاصة بالجمرة الخبيثة مثلاً او غيرها تأخذ فترة حضانة من ساعات قلائل لتحدث المرض للإنسان، وذلك كي تستطيع ان تفرز سماً يحلل الخلايا البشرية او اجزاء منها وان تجتاح بذلك الخلايا السليمة الأخرى، هذا السم لو أُخذ جاهزاً لكانت الكارثة الإنسانية المحققة حيث يقتل الإنسان فوراً نتيجة لتحلل اجزاء معينة وتعطيب أجزاء أخرى من الخلايا البشرية، ولتصور فظاعة وبشاعة ما سبق، وجد الأمريكيون ان واحد مللي جرام «جزء من ألف جزء من الجرام» من أقوى سم بكتيري معروف، وهو سم البوتشولين المنتج ببكتيرة Clostridium tetani يقتل مليون خنزير من خنازير غينيا، وهي الخنازير التي استوردت من غينيا وأُجريت عليها هذه التجربة البشعة،
وقدرت القوة التدميرية لثلاثة كيلو جرامات من سم البوتشولين بأن تكون قادرة لإبادة وقتل كل البشر من أنحاء المعمورة،
ولعلنا نعرف الآن فظاعة الجمرة الخبيثة وغيرها من الأمراض المستعملة كأسلحة بيولوجية، أسلحة الفقراء الصامتة المدمرة الرهيبة، فكم من حروب حسمت بهذه الأسلحة الرخيصة التي تعتمد على قوة العقل وبراعة التفكير والتدبير، فمثلاً ، هناك عدة تقارير تقول بأن الانجليز خلال استعمارهم لأمريكا، استغلوا تفشي وباء الجدري في بلدة فورت بيت، بولاية بنسلفانيا، وقاموا بتوزيع بطاطين ملوثة بميكروبات الجدري على القبائل المعادية من الهنود الحمر السذج، الذين قُتلوا بالجدري بسبب ضعف عقولهم وعدم درايتهم بماهية الجدري او غيره من الأمراض، وعندما قام نابليون بونابرت بالحملة الفرنسية على الشام، انتاب الذعر أهالي الشام، فكيف يدافعون عن بلادهم أمام الآلة الفرنسية العسكرية المتقدمة، وبعد احتلال حيفا وصيدا، فكر والي عكا أحمد باشا الجزار وقام بتسميم مياه الآبار المحيطة بعكا، ومع مقربة الفرنسيين من عكا، انتشر مرض الطاعون القاتل لدى جنود الفرنسيس مما جعهلم ينسحبون ويعودون لبلادهم مهزومين،
واستعمال الجمرة الخبيثة الآن ضد الأمريكان، هو حيلة الضعفاء الفقراء لبث روح الذعر والفزع والقلق بالمجتمعات المعادية لهم، على حد معتقداتهم، وهذا الأسلوب السري الإرهابي للجمرة الخبيثة يبث الهلع كما قلت بين الأفراد حيث انهم يهاجمون بميكروب لا يرونه ويفتك بهم ليضعف روحهم المعنوية ويثبط افكارهم، وهذا الأسلوب هو حرب نفسية قوية بأسلوب ارهابي منظم ومدبر وعالي التخطيط، يأتي بالقطع وراءه جماعات أو مؤسسات على دراية عالية بالحرب الجرثومية، ولو استعمل ذلك فستنتشر الفوضى في المجتمع، ويجب تعاون كل القوى الدولية لمقاومة ذلك، ليعيش الناس في سلام،
والله الموفق،
المراجع:
1 جاسر عبدالعزيز الجاسر، ماذا وراء رعب الجمرة الخبيثة، جريدة الجزيرة العدد 10614، السبت 4 شعبان،
2 أ، د، سعيد زغلول وآخرون، أسلحة الحرب الحيوية بين النظرية والتطبيق، مطبوعات كلية الملك خالد العسكرية، 1988م،
3 د، جمال عبدالعزيز عنان، الأسلحة البيولوجية بين الماضي والحاضر، مقال بمجلة الحرس الوطني العدد 224/2001م،
4 د، جمال عبدالعزيز عنان، الميكروبيولوجي الصناعي، مطبوعات جامعة الزقازيق، ج، م، ع، 1998م،
* أستاذ مشارك الأحياء الدقيقة
قسم العلوم، كلية الملك خالد العسكرية بالرياض
ص، ب/22140، رمز بريدي 11495، ت/ 053268255
|
|
|
|
|