| محليــات
ليس من شك أنَّ من أجمل خصائص المفردة اللُّغوية تنوُّع دلالاتها بما يؤكد ثراءها...، ومن ضمن مفردات العربية ذات الدلالات العديدة ما تتداوله وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة عن رعاية صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية للندوة الرئيسة للإصلاح والتأهيل التي تقيمها المديرية العامة للسجون بمشاركة المركز الجامعي لخدمة المجتمع بجامعة الإمام محمد بن سعود، فالسجن هو المعتقل...، حيث ترد إليه فئات «الضالِّين» بشتى أنواع الضلال ما كان منه قابلاً للتوجيه في المدى القصير، وما كان منه قابلاً للتوعية والتربية في المدى الأطول، وما كان منه بحاجة إلى عقوبة المثولة أمام حدِّ الله تعالى في تشريع عدالة إلهية مبتغاها العظة والعبرة، وتلقين الإنسان الدرس عن طريق التمثيل حماية لأمن الإنسان في الأرض، وإشاعة السلام في الحياة، وسيرورتها في طمأنينة وراحة.
من هنا تأتي أبعاد دلالات مفردة الاعتقال، أيّ السجن. فالسجن هو وضع الجسد داخل حيِّز مكاني لا سعة فيه، بهدف كبح انطلاق رغبات الفرد كي يتمكن من إقامة جدليَّة عقليَّة حواريَّة بينه وبين نفسه يقارن فيها بين ما «فَعلَ»، وما أدَّى إلى كبحه داخل هذا المكان...، بما يؤدِّي إلى اعتقاله داخل ضمير يمرُّ بمراحل تفكُّر، وتدبُّر، ولعلَّ في ذلك بَدْء الدَّرس، وبَدْء تصيُّد الحكمة من العبْرة التي يصل إليها الإنسان نفسه،
غير أنَّ الاعتقال بمعنى آخر هو «عقْل» الشيء أيّ وصوله إلى نقطة يتركَّز العقل في التفكير فيها، ذلك لأنَّ مرتكب «الفعل» المؤدِّي إلى السجن، يفعله في لحظات لا اعتقال فيها لديه لعقله حيث يتدبَّر أبعاد عمله، ومن ثمَّ نتائج هذا العمل التي تؤدِّي إلى ضرورة «إيقافه» للتدبُّر، والتفكُّر، والوقوف على سالب أفعاله...
لذا فإنَّه مدرسة يبدأ الضمير والعقل أخذ الدروس فيها، ومن ثمَّ يتمُّ فيه الصقل، واستبدال الخبرات السالبة بأخرى موجبة لا تتحقق للمرء وهو مطلق القدمين.
ولأنَّ السّجن مدرسة، فإنَّ مفهومه الحديث ليس هو المحفِّز لمشاعر الخوف، والرهبة، وتوقُّف النَّبض في الصدور، بل إنِّه «الحلُّ» في كثير لأن يذهب الأولياء أنفسهم إليه بأبنائهم أو بإخوانهم، أو بخاصَّتهم، كي يتخلَّصوا فيه ممَّا هم فيه، وذلك لأنَّ السجن غدا في مفهومه التربوي الاجتماعي الحديث ليس فقط المؤدَّي إلى حبل المشنقة، وإنمَّا المؤدِّي إلى العيش الهنيء، وتولي الأدوار الناجحة في الحياة، إذ استُقطبت له الكفاءات المتميِّزة من العناصر البشرية المتمكِّنة من تدريب«مهارات الفرد السالبة» خارجها لأن تتحّول إلى «مهارات موجبة»، تعمل على البناء لا الهدم، وعلى الأمن لا الإفزاع... ولأنَّ الاعتقال في بُعده الدلالي اللَّفظي يحمل من المعاني ما يشير إلى أوجه عديدة لا تقف عند المادي منها فقط، فإنَّه ينطلق إلى أبعاد معانٍ أخرى هي: اعتقال الفكرة، واعتقال الشهوة، واعتقال الرغبة، واعتقال النيَّة مناط كلِّ ذلك، فلا يفكر الإنسان في المنكر والسوء، ولا يشتهي ارتكاب الموبق والرديء من الأفعال، ولا يرغب في شيء من الأذى... والضُّر... ومجرد كبح حركة الجسد بهدف التربية داخل هذا الحيِّز من المكان محدود إمكانية انطلاق القدمين فيه كبحٌ لكلِّ ما يحمله هذا الجسد من عقل ونفس وفكر ومشاعر ووجدان ويركِّز على الضمير الداخلي، ويُرسل إلى كافة مراكز الإدراك في المرء كي تكون لها وقفة اعتقال لحواس السمع، والشمِّ، والرؤية، والتَّذوُّق، والإحساس، وحتى الأعصاب... ومن ثمَّ يحقق السجن في اعتقاله أساليب تعلُّم ذاتية للإنسان كي يربِّي نفسه داخل هذا المكان...، فكيف وهو يلتقي من يربِّيه، ويُحسن التوجيه له، ويرقى بكلِّ مهارة فيه نحو مشارق الانطلاق، حتى إذا ما خرج إلى الفسيح من مساحات الحركة، تنهَّد الصعداء، وهو يصافح النور، ويتذكر أنَّ السِّجن لم يكن له سوى مدرسة؟!
تحيَّة لأمير المدارس التربوية الأمنيَّة للذَّات البشرية...
وهي تعتقل بؤر الفساد في الإنسان، كي تبذر فيها النور والخير...
تحية لنايف، ولمرافق وزارته النَّاهضة بمهام هي في أوَّلها للإنسان، وهي في آخرها له... كي نضمن مجتمعاً آمناً... سالماً... متكافئ الفرص لحياة هادئة وفيها أناسٌ يتحرَّكون في وعي... وأدب...وفهم...
فاللَّهمِّ معونتك كي تتحقق الأهداف القريبة، والبعيدة من مدارس التربية هذه... كي تكون نماذج في مفهوم المدرسة الحديثة.
|
|
|
|
|