| مقـالات
إننا لكي نحرر المصطلح في ظل استبعاد الجغرافيا الفكرية: فرنسياً ومصرياً ومحلياً، لابد أن نحرر مفرداته، ونردها إلى جذورها اللغوية النقية، وإلى مقتضياتها المصطلحية المتلبسة عند المصطلحين. على أن استفتاء الجذور اللغوية لا يحمي من تذرع المنطوين على الوعي المنقوص وتوسلهم بمخادعة الدلالة الوضعية.
والمصطلحات تكون: مفردة ومركبة، والتركيب يكون: مزجياً أو إضافياً أو إسنادياً أو وصفياً. يكون من كلمات معجمية نقية، أو من كلمات مصطلحية متلبسة متعددة المفاهيم بتعدد الجغرافيات الفكرية، وانتماء الذوات المتوسلة بتلك المناهج. ونحن هنا أمام مصطلحين سابقين، ركب منهما مصطلح جديد:
نقد.
وثقافة.
فما النقد؟ وما الثقافة؟
أحسب أن المهتمين على الأقل يعرفون ««النقد» » من خلال مناهجه وآلياته واهتماماته وتحولاته الوظيفية وانتماءاته الأيديولوجية، ويعرفون الخلاف حول الداخل فيه والخارج منه من سائر فنون القول ونواحيه. ويعرفون « «الثقافة» » ويعاضلون مئات التعاريف المتضاربة، ويعانون من تعليق الاتفاق حول مشمولاتها من المعارف والذوات والأمم، إذ ما من أحد سلّم بتعريف جامع مانع لا على مستوى ثقافة الأمة ولا على مستوى ثقافة الأفراد، ولا على القدر المعرفي والنوعي والسلوكي المجلي لها. والأمر لا يقف عند هذا الحد، فحين ركب من المصطلحين مصطلح واحد، وطرح في فرنسا، فإنه سيكون وفق مقتضيات ودوافع لايجوز تجاهلها، إذ لا ينشأ مصطلح على البراءة، ولايمكن أن تفرز حضارة مغايرة مصطلحاً يصلح اتخاذه على إطلاقه لحضارة أخرى، وإذا قامت الحاجة إليه في حضارة أو في ظرف زماني أو مكاني، فليس من الضروري أن تقوم الحاجة ذاتها في حضارة أخرى، وإذا نجح في زمان أو مكان أو حضارة فلا يضمن نجاحه في موقع آخر، ولست مطمئناً من اقتفاء المستجد من المذاهب وآلاليات دون وعي سليم للذات وللآخر، وبخاصة حين توجه آليات المصطلح المجلوب بتطرية للاشتغال من خلاله بالأنساق الثقافية والاجتماعية والنفسية والسياسية المدانة ابتداء، ومن خلال وثائق هلامية أنتجها الكلام الذي لايقول شيئاً. والنقد حين يطلق الاتهام، ثم يشتغل بآلية توجه للإدانة، يقع في الأيديولوجيا، ولا يكون معيارياً لكشف نظام اللغة أو شروط الفن وأركانه، واكتشاف الأنساق اللغوية أو الشروط الفنية لا يكون بخطورة الأنساق الثقافية التي اكتتبها أو استملاها دون أن يتأملها. يكون من الممكن التوسل بمنهج لغوي كما البنيوية مثلاً لاكتشاف نظام لغوي، ويكون من الممكن التوسل بمنهج فني لاكتشاف شرط فني، فالاشتغال هنا في المعيارية أو الشرط، والمعيارية ربما تكون قاسماً مشتركاً بين عدة لغات، إذ هناك بنية لغوية عربية تفكك مثلما تفكك أي بنية لغوية أخرى مع فارق الخصوصية إعرابياً وصوتياً، مع أن طائفة من البنيويين العرب لم يحسنوا تفكيك لغتهم لجهلهم بنظامها النحوي والصرفي ومستويات هذا النظام وارتباطاته الدلالية والصوتية، ولربما كان هذا الجهل سبباً في إخفاق البنيوية، فالذين اتخذوها اتخذوا معها معياريتها التي قد لا تكون مناسبة للغة العربية المغايرة، والشرط الفني ربما يكون قاسماً مشتركاً كما المعيارية اللغوية، ومع هذا يكون الضرر عند التناول أقل.. أما الأنساق الثقافية فهي ألصق بالخصوصية، والاشتغال بها في آليات مغايرة لايكون مأمون العواقب. هذا المصطلح المعمَّى التقطته الحاسة الذكية عند الحداثيين في مصر، ليكون جلداً حرباوياً، يمكن من صرف أنظار الراصدين، ولو إلى حين، ثم اتخذ سبيله إلى المعوضين بالتبني عن المبادرة، الذين إذا خبت من حولهم الأضواء، طلعوا بقول جديد، يناقض تمام المناقضة ما كانوا عليه بالأمس، ف (النقد البنيوي) لايتجاوز بنية اللغة الى المعنى، و (النقد الثقافي) لايتجاوز المعنى إلى بنية اللغة، والثقافة حمَّالة، فهي كما الوليّ لمن لا وليَّ له. فهل الراكضون وراء عجاجة صاحبهم سألوه عن مبررات هذا التناقض، وحاسبوه على إضاعة الجهد والوقت في الحداثة والبنيوية؟ وهل هم معه في إزهاق روح (النقد الأدبي) لأنه (غير مؤهل لكشف هذا الخلل الثقافي ص8) ؟ وهل سألوه عن حدود الخلفية العلمية لنظريته التي يدعي توفرها؟ وهل لا تكون التحولات إلا حيث يكون (ريتشاردز) و (رولان بارت) و (فوكو) ؟ وأين مكان التحولات النقدية العربية، منذ (أم جندب) إلى عصرنا الحاضر، لماذا غيبت في سياق الحديث عن التحولات النقدية؟.
وأمام الظعن والإقامة في ساقة المستجدات، أصبحنا بحاجة إلى أخذ النفس لتقدير الخسائر والأرباح، وتقليب ركام المذاهب التي سمسر لها من لا يستقرون على حال، والاستعانة باستكناه الممارسة التطبيقية عند المبتدرين والمستعيرين، فهي التي تجلي المشروعية والمفهومية والمشمولية والمقصدية، وتحسم الرجم بالغيب. فهل من سبيل إلى ذلك؟ أحسب أن في الأمر صعوبة، فالذين اتخذوا (النقد الثقافي) وأماتوا ما سواه، لم يقدموه تنظيراً يجلي معرفته ومعياره، ولم يقدموه تطبيقاً واعياً، ولم يقفوا أثره في تقلباته الزمانية والمكانية لواذاً من معرة التبعية وتثبيتاً لدعوى المبادرة. ودعوى التشعرن والتفحلن والإحالة على الحكاية الخرافية وإدانة (النقد الأدبي) واختراع العنصر النسقي غير كافية لتحرير المصطلح وأهدافه. ثم إن الإشكالية ليست في تحرير المصطلح، الإشكالية في هذا التلفيق وتلك الفرضيات وهاتيك الإدانات المتلاحقة. وكأني بالشعر مع (النقد الثقافي) كما الذئب مع إخوة يوسف. ولأن هناك إلمامات تراثية وتمثلاً معاصراً للمارسة النقدية الثقافية تتراءى للمتابعين على مدى التاريخ الأدبي، وهي إلمامات تتقاطع مع مهمات النقد الثقافي، وهناك مصطلح غربي قائم لاتربطه بالثقافة العربية إلا وشائج ضعيفة، وهناك استدعاءات حداثية تقنعية، فإن استكناه المشروع الذي يدعيه البعض، يتطلب تقديمه معرفياً وتطبيقياً، وبخاصة ممن يصف نفسه بأستاذ النظرية التي يفترض أنه تلقاها في غربته، ولما يكن قد درسها أكاديمياً، ولما يستطع تحريراً نظرياً في ظل السوفسطائيات والهلاميات والفرضيات الوهمية، وفي ظل هذا التخبيص، لم يوفق في تجليتها تطبيقياً. ومثلما خذله التطبيق البنيوي، بدت بوادر الخذلان في النقد الثقافي، وسوف نبرهن عن الانخذالين بالمفارقة بين المقتضى والأداء، والأستاذية المدعاة لا تكون إلا ببرهان، وعلى الذين يدعون أو يناصرون الأدعياء أن يأتوا ببرهان وكم هو الفرق بين البرهان المجتلى والبهتان المفترى، ولأننا شركاء في الهم الأدبي: إبداعاً ونقداً وتنظيراً، ولأننا المتمثلون سلوكاً للثقافة المجترحة. فإن من حقنا أن نتساءل: عن المنهج والآلة، عن المجال والمقصد، وعن مدى التحولات في أجواء الجغرافيا الفكرية. وعن مدى ارتباط (النقد الثقافي) في مصر بما هو عليه في فرنسا وعما سيكون عليه في أي إقليم عربي، يلتقط الخيط، ويباشر هدم الكيانات القائمة على رؤوس أصحابها، بدعوى (إجراء تحويل في المنظومة المصطلحية ص8) الياكبسونية، وليس من أدبيات الحوار المتحضر أن يصف المسؤول السائل بالجهل أو بالماضوية، متصوراً أنه لا معقب لرأيه، وأنه ممن يأتي بما لم تستطعه الأوائل. إننا طلاب معرفة بما يراد بنا، فإن كانوا من أهل الذكر فليجيبوا، ومن المجازفة أن يوصف معارض الحداثة الفكرية بمعارضي الرسالة النبوية وإحالة ذلك إلى نسقية (إنا وجدنا آباءنا) .
فالقضية ليست بهذه السهولة (جريدة الرياض 2/8/1422ه) ، و (النقد الثقافي) لايملك خلط الأوراق بهذه الفداحة.
وقواصم الظهر في مشاهدنا مصادرة حق السؤال والمراجعة، والتعالي كما القتام، أن يجلب أحدنا منهجاً أو آلة فذلك حق مكفول، ولكن أن يلغي من أجله ما هو قائم، أو أن يوجه هذا المنهج وتلك الآلة إلى إدانة الثقافة فذلك تعدٍّ لامبرر له. وأن يربط معارضيه بمعارضي الرسائل السماوية فتلك جناية لاتطاق، والواقفون في وجه الحداثة لايكونون ضد الجديد، المسألة صراع حضاري وليس اختلافاً حول التجديد والتقليد، وأحسب أن الناس لم يعودوا بهذه السذاجة بحيث يقبلون الإحالة على الجديد والقديم، والمحاولة اليائسة للتصور السليم لهذا المشروع تحول دونه عوائق كثيرة، وما بين أيدينا من تنظير وتطبيق لايحسم الإشكالية أزعم أن مجرد التطبيق على (لعبة البلوت) أو (الاستراحات)، ودعوى (التشعرن) و (التفحلن) و (المرأة/ الجسد) و (المرأة/ الرمز) و (الهلاميات) و (أحلام اليقظة) وقراءة (الحكاية الخرافية) والتأسيس على معطياتها، والقول بقبحيات النسق الثقافي، و (تسكين المتحرك) في (حكاية الحداثة) المواجهة ب (النسق الساكن) المتسلط بمعهود الأسلاف، كل ذلك غير كاف للبرهنة عن استقلالية المشروع محلياً وتجليته منهجياً وآلياً ومقصدياً. والمنظومة المصطلحية المعدلة محلياً لا تخوّل القول بحق ثقافة تشكلت من روافد عدة، لم يكن الشعر إلا واحداً منها. ولكيلا نظلم الطرف الآخر، لانقطع بالإدانة المطلقة، بل نجد الحاجة إلى الاستبانة امتثالاً للتحذير الحكيم: (أن تصيبوا قوما بجهالة) ، ومع التثبت فإننا لانشك بالوقوع في المحذور، فالقول بالنسقية القبحية المستمدة من مؤثر واحد ومن جزئية صغيرة منه مؤشر ريبة في الصدر، ومن ثم لانستطيع التزكية، والوثائق تقطع قول كل خطيب، وليس بين أيدينا إلا ما أشرنا إليه من قبل، فظاهرة الارتباك واضحة. والتلاعب اللفظي والمراوغة غير كافيين لتحرير المشروع، كما يدعيه الجالب، ويباركه المتلقي، وتلك الجنايات لاتمس الفن، ولكنها تضرب في الصميم. ثم إن القول بعاطفية الإنسان العربي المستمدة من التشعرن قول استشراقي، لسلب العقلية المدبرة والمخترعة، وإلا فالشعر ليس خصوصية عربية، وهل أحد قال بتشعرن الإنجليز بسبب (شكسبير) ؟ وهل أحد اختصر الحضارة الغربية بالحكاية الخرافية، كما اختصر البعض من المستشرقين ومن تبعهم من الحداثيين الثقافة العربية بحكايات (ألف ليلة وليلة) ؟ والمريب اهتمام الحداثيين بالأسطورة والخرافة والتواصل مع الغرب من خلالها لإبعاد المرجعيات الثقافية الأخرى، كالقرآن والحديث والفقه وعلم الكلام وعلومها والفكر الفلسفي الإسلامي.
ومن الصدف العجيبة تزامن قراءتي لبعض أعمال تعتمد على تعميم الأحكام وعلى الفرضايات: (النقد الثقافي) و (التلقي والسياقات الثقافية) و (التأثر الإسلامي بالجاهلية) . فحين يرى صاحب (النقد الثقافي) هيمنة الشعر وانفراد قبحياته بتشكيل النسق الثقافي. يرى صاحب (التلقي والسياقات الثقافية) د/ عبدالله إبراهيم أن الخطاب الديني: القرآن والحديث مارس استراتيجية الإقصاء، وأن المتداول الشفهي: الشعر والنثر تعرض لإكراهات وانزياحات وإقصاءات كثيرة، ويمثل القرآن القوة المركزية الفعالية والمؤثرة في الثقافة العربية الإسلامية. فيما يرى (خليل عبدالكريم) أن القيم الإسلامية استلاب للقيم الجاهلية، وشرعنة لها بعد تعديل طفيف. والتعميمات والإطلاقات ليست من التداول العلمي في شيء، لقد كانت مع الحداثة، وكانت مع البنيوية، وكانت مع المرأة واللغة، وهي كائنة مع (النقد الثقافي) وما من أحد تبصر في شأن هذا الاهتياج، واعترض سبيل المهتاجين وقال: (وقفوهم إنهم مسؤولون) .
فالحضارة الإسلامية لا تقبل اللت المتغنص، وإنما هي مع البرهان «قل هاتوا برهانكم».
ولأن المتقحمين لسوح التراث لايلوون على شيء يزيد عن خطف آلة من هنا أو منهج من هناك أو كلمة أو رأي أو تصور لايصلح إنزال شيء منها على سوائد الأمة وأنساقها وثوابتها، فإن لكل واحد من هؤلاء المتقحمين وجهة هو موليها، لايسوغ معها إلقاء الحبل على الغارب، وقعدة المتلقي عند من لايعول على قوله. وبدهي أن نقول: إن الاشتغال بمشمولات الثقافة بنيَّة النقد يعد نقداً ثقافياً، بوصفة من المعهودات الذهنية. ولكنه لايكون (النقد الثقافي) الذي يفترض منجهاً وآليات ومقاصد، لاتقف عند حد الاشتغال بمشمولات الثقافة، أو الاشتغال على الأقل بالمهمل والمهمش من القضايا والأناسي والأنساق والمسلمات والسوائد. وما بين أيدينا من قول في المرأة واللغة أو قول عن النظرية النقدية العربية في (المشاكلة والاختلاف) ، أو قول في سيرة القوم من خلال النسق الثقافي لايمكن اتخاذه أثارة على اختراع مذهب في النقد تطهر من أجله مشاهد الثقافة والأدب، ذلك أن ما ظفرنا به من وثائق ما هي إلا قول في الوهم، وما من أحد من السابقين أضله تفكيره بمثل ما جاء صاحب النقد الثقافي من اختصار واعتصار لأنساق الأمة المجروحة بظلم ذوي القربى.
إن هناك مضمراً سيكشفه الزمن، كما كشف مضمرات كثيرة نفثتها صدور بعض عمالقة الفكر المعاصر ممن صنعهم الغرب على عينه، ومن رصد المشهد الفكري والأدبي العربي المعاصر أفزعه ما كشفه الزمن من زيوف لا يشرف أحد بادعائها، من تكذيب صريح لخبر القرآن الكريم عن قصة إبراهيم قال به طه حسين، إلى دعوة لفصل الأمة عن تراثها بإلغاء الحرف العربي دعا إليها عبدالعزيز فهمي، إلى تدنيس للتاريخ الإسلامي وتمدنه اقترفه جرجي زيدان وتلقف الراية من بعده (عوض) و (شكري) والسلسلة الصدئة تمتد من (حملة نابليون) متشعبة في الأيدي التي تعطي عن صغار، والقول بالبدائل ليس من السنن الحسنة، فالحضارة الحية تستوعب ولاتستبدل. وعلى ضوء هذه المفاهيم التي قدرنا على توفرها، فإننا لسنا بحاجة إلى من يطرح المشروع بهذه الحدة وبهذا الضجيج، ثم ينادي بموت (النقد الأبي) ، ولسنا بحاجة إلى من يأتي في ساقته مدعياً إسكات النقاد ولهاثهم وراء عجاجته، إلا إذا كان لمدعي المشروع أهداف وغايات مسكوت عنها، وهو ما لا نرجو أن تكون، وما لا نستبعد كونها، وخوفنا من هذا المنهج قبل تبلور أهدافه، والمطمئن أننا قد تعودنا من أولئك نقض ما يغزلون، قبل أن يستعملوا غزلهم. وعلى كل الاحتمالات، فالأديب يكون ناقداً اجتماعياً أو ثقافياً أو أدبياً أو أخلاقياً أو جمالياً أو نفسيا أو لغوياً أو إسلامياً، يكون مؤرخاً أو مقارناً، ينعطف من الموضوع إلى النسق، ومنهما إلى اللغة، أو إلى التاريخ الأدبي، دون التمهيد للمشروع أو الشرعية. وهو مع النص اللغوي، أو مع المواضعات السلوكية بوصفها نصوصاً، أو مع الفن بشرطه ناقد، غير مستقر على صفة، بحيث لا يمارس غيرها.
والأدب ونقده كيان متجذر فيه الخير والشر، ولايمكن أن يأتيه مدع من القواعد، فينسفه، وهو متكئ على أريكته، إذ هو بإزاء الفقه وقواعده، والتفسير وأصوله، والتاريخ ومناهجه، وعلم النحو والصرف ومعياريته، وعلم الكلام ومنطقه، والفلسفة وآليتها، وعلوم النفس والاجتماع والتربية، وكل هذه الفنون والعلوم تشكل منظومة الحضارة الإسلامية، ومن الصفاقة التجني على شيء من ذلك، يبلغ حد الحكم بالموت، وما بعد الموت عقوبة، ومن قال بموت النحو والنقد يقول يموت الفقه والتفسير والفلسفة وعلم الكلام، وإذا كان صاحب مشروع (النقد الثقافي) قد مل الدوران في حلقات اللغة والفن المفرغة، وعنّ له التخطي إلى آفاق المضامين فإنه مسبوق إلى ذلك، وتهميش المضامين خطيئة البنيوية التي تبناها في محطة من محطاته المتعددة. والمتابعون للحركة النقدية لايجهلون مداخل النقد الأخلاقية والنفسية والجمالية والاجتماعية والأسطورية والخرافية والأيديولوجية واللغوية والتكوينية والمقارنية، ولايجهلون أساطين النقد العربي، كالجاحظ، وابن قتيبة، والجرجاني، والقرطاجني، ولايجهلون أساطين النقد الغربي ممن تم التحول النقدي على أيديهم، من مثل (أرنولد1888) و (سانت بيف 1869) و (هيبوليت تين 1893) و (تولستوي 1910) وبخاصة في كتابه (ما هو الفن) و (اليوت1965) و (ريتشاردز 1893) و (أديموند ولسون 1972) وكل واحد من هؤلاء وأولئك شكلت أطروحاته التنظيرية أو التطبيقية، أو هما معاً تحولاً جذرياً في المفهوم النقدي ووظيفته ومنهجه وآلياته، ولا أعرف أحداً من أولئك ادعى أنه صاحب مشروع، كما لم يجرؤ أحد منهم على قصف أرواح مفردات حضارته وتهميش المكونات الحقيقية للنسقية الثقافية، وما أحقر أمة لاتشكل نسقيتها الثقافية إلا من الشعر فضلاً عن سيئه. وهذه الرؤية الجائرة لصالح من تحال؟ وحين نغض الطرف عن إقذاعات المشروع نود معرفة العوض الذي قدمه ثمناً لهذا، لقد تحول الشعر العربي في أعقاب هذا المشروع إلى جانٍ لايحتمل السكوت عليه، وإن ثبتت جنايته بهذا الحجم فهو الأجدر بالموت من النقد الذي واطأه على الخطيئة. فهل الطريق ممهد لمغول الداخل لذبح الشعر، كما ذبح النقد، وكما ذبح النحو، وكما ذبح المؤلف، وفي جو مشحون بالتوتر والتصفيات، هل قدم السفاحون لأمتهم بديلاً يقيل العثرة ويجبر المصاب؟ وهل صرف نظرها إلى ركائز التراث الإسلامي ونصحها بتمثله، أم أنه ذادها بتفحلن من نوع آخر لترد المياه الآسنة؟.
|
|
|
|
|