| مقـالات
لم تقدم حركة طالبان الأفغانية، نموذجاً طيباً في إدارتها الداخلية وتعاطيها مع الأحداث، وعلاقاتها مع جوارها والخارج، طيلة السنوات السبع التي حكمت فيها هذا البلد الممزق والمخرب الذي يعيش تحت وطأة الأزمات والاقتتال منذ أكثر من ربع قرن، رغم توافر العديد من الفرص أمام الحركة، كان من الممكن توظيفها في إعادة الحياة الطبيعية الى أفغانستان، واستكمال مقومات الاستقرار وإشاعة السلم الأهلي والانخراط في منظومة المنطقة والمجتمع الدولي، بعيداً عن أجواء التوتر والتهديد وخلق الأعداء والتحديات التي لا مبرر لها.
فمنذ عام 1994، وهو التاريخ الذي بدأت فيه هذه الحركة اجتياح الأراضي والمدن الأفغانية، وبسط سيطرتها على اكثر من تسعين بالمائة من البلاد، وطالبان تقدم تجربة غريبة في مواصفاتها، سواء على صعيد الحكم الداخلي أو إنتاج مفاهيم جديدة في تعاملها مع الخارج، تقوم على منهج أحادي في الرؤية والسلوك والسياسات، قادت الى نتيجة متوقعة، كما نشهده اليوم، حيث تتعرض الى هجمات متواصلة من قبل الولايات المتحدة الامريكية والبريطانية، تحظى بالقبول والدعم من جيران أفغانستان، وتأييد غالبية دول العالم وفي مقدمتها البلدان العربية والإسلامية.
ورغم أن الحرب القائمة في أفغانستان، تجري من طرف واحد لافتقار طالبان الى ابسط وسائل الدفاع، وعدم قدرة حكومتها على مواجهة التحالف الدولي المضاد لها، وهو ما كشفته أحداث الأسبوعين الماضيين من الحرب، إلا أن الحركة وبسبب تشبثها بوجهات نظرها ومواقفها السياسية السابقة، ماتزال تتخبط في طريقة اتخاذ القرارات المناسبة، ولا تعرف كيفية التعاطي مع التطورات والمستجدات التي حدثت خلال المرحلة التي أعقبت التفجيرات التي حدثت في واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من سبتمبر الماضي، ونتائجها التي كان من أبرزها تحميل جماعة «القاعدة» ورئيسها اسامة بن لادن، الذي يتخذ من أفغانستان قواعد له، مسؤولية ما جرى في قلب امريكا، وتوجيه الاتهام الى حكومة الملا عمر بإيواء الإرهاب وتصديره الى الغرب تحديداً، فهي بدلاً من السعي الى التهدئة وضرورة إبعاد بن لادن عن أفغانستان وفك ارتباطها به، ورفع حمايتها عنه، لجأت الى الاستفزاز واطلاق التهديدات وإعلان التمسك به، تحت حجج الجهاد وشعارات تفتقر الى المنطق والحكمة، وكأنها تستجدي الهجوم عليها وتوجيه الضربات إليها، دون أن تدرك أنها في وضع لا تستطيع فيه خوض معركة صغيرة، بسبب عزلة قادتها عن العالم الخارجي، وما يشهده من تطورات ومتغيرات، ومحدودية افقهم واستمرارهم في حياة التشدد والانغلاق.
ولعل اخطر ما أفرزته الأزمة الأفغانيةوتهور قادة حركة طالبان، وجماعة القاعدة فيها، أن واشنطن في ظل مساندة حلفائها في دول الاتحاد الاوربي، وأصدقائها في المنطقة، وجدت مبررات ليس من السهل مقاومتها، لشن حرب جوية وصاروخية على قواعد طالبان وتجمعات تنظيم القاعدة في أفغانستان، تؤكد كل المؤشرات حتى الآن، إنها ناجحة في المعايير السياسية والعسكرية وحققت جزءاً كبيراً من الخطة الموضوعة في تفتيت الحركة وجماعة بن لادن ومطاردة ميليشياتهما في أفغانستان وخارجها، والعمل على اختيار حكومة تحظى بإجماع أفغاني وقبول إقليمي ودولي، وهو ما تظهره التحركات الأخيرة للدبلوماسية الامريكية في الباكستان والهند، والمحاولات التي تبذل لتهدئة الأزمة الساخنة بينهما، خصوصاً وان لكل منهما اجندته الخاصة بشأن مستقبل أفغانستان وانعكاساته على مشكلة كشمير المتنازع عليها، فالهدف الأمريكي إضافة الى إلغاء حركة طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان، يتركز أساساً في محاصرة التوتر في حوض بحر قزوين والمناطق المتاخمة له، تحضيراً لمرحلة لاحقة يتم فيها استثمار ثروات النفط والغاز، تؤكد التقديرات الاقتصادية أنها ستغطي ثلثي احتياجات العالم من النفط ابتداء من الربع الأول من القرن الحالي.
من هنا فان الحرب الدائرة في أفغانستان ليس لها سياقات عسكرية آنية فحسب، بل جوانب اقتصادية مستقبلية، تسعى الولايات المتحدة الامريكية ودول الغرب عموماً، منذ الآن التمهيد لاستقرار دائم في المنطقة، انطلاقاً من مفهوم اقتصادي معروف يتمثل في «ان الاستقرار يولد الاستثمار».
واستناداً الى الوقائع الملموسة، فان طالبان بتحدياتها الشعاراتية، وخروجها على أنماط العلاقات الدولية السائدة، وافتتانها بفتح معارك مع العالم اجمع، وتشجيعها لعمليات الإرهاب وتصديره الى الخارج، وعجزها عن مواكبة العصر ومتطلباته، ولجوئها الى التطرف في ممارساتها داخلياً وخارجياً، أوقعت نفسها في معضلة لها أبعاد دولية، ليست لها القدرة على الخلاص منها مهما بولغ في الحديث عن الجغرافية الأفغانية، وأحداث المواجهات السابقة مع الغزو السوفيتي، ومع الاسف فان العديد من المراقبين والمحللين السياسيين وخصوصاً في المنطقة العربية والدول الإسلامية، يقعون في أوهام المقارنة بين سنوات العقود الثلاثة الماضية في نهايات القرن السابق، وبين المرحلة الراهنة، ويخطئون في حسابات التقدير والاجتهاد، دون أن يدركوا أن التضاريس الطبيعية الصعبة الاقتحام، لا تقاوم الصواريخ المنطلقة من مسافة آلاف الأميال، ولا تقدر على مواجهة تقنيات القنابل الذكية والطيران المكثف، كما انهم يغالون في تداعيات انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان، ويخلطون في أسباب هزيمتها هناك، ويتناسون أن امريكا والدول المتحالفة معها، هي التي هزمت التدخل السوفيتي، بمساعداتها التسليحية وتمويلاتها الطائلة للفصائل والجماعات الأفغانية التي حاربت النظام الشيوعي في كابل والقوات السوفيتية، حاميته والمدافعة عنه، علماً بأن طالبان لم تكن قد اختلقت في ذلك الوقت وبالتالي ليس لها فضل أو دور في إرغام الاتحاد السوفيتي على الانسحاب من أفغانستان، وهذا لا يعني التقليل من خطأ التدخل السوفيتي وعدم كفاءة النظام الشيوعي الذي أوجده هناك بالضد من إرادة الأفغان ورغبتهم.
وفي المنطقة العربية التي تتناقض المشاعر فيها إزاء ما يحدث في أفغانستان بين مؤيد للهجمات الأمريكية والبريطانية، ومتحفظ عليها، حيث تبدو الصورة الظاهرة على سطح الأحداث، مشوشة وفيها غموض لم تبدده التصريحات والبيانات الرسمية وبعض المواقف الشعبية التي خرجت في هذه العاصمة أو تلك، سواء كانت مؤيدة أو متحفظة أو معادية للتحرك الأمريكي والبريطاني الحالي، فثمة مآزق تبدو واضحة، وقع فيها النظام العربي، حكومات وشعوباً، في كيفية التعامل مع ما يجري في أفغانستان، وهناك مخاوف من امتداد الحرب الى دول عربية متهمة بالارهاب وفق الأجندة الامريكية، ودعم التطرف وإيواء الإرهابيين، خصوصاً وان الرئيس جورج دبليو بوش، أكد في عدة مناسبات قريبة ماضية، أن بلاده لن تكتفي بما تحققه في أفغانستان، بل وصف حربه ضد الإرهاب، بانها ستستمر طويلاً قد تصل الى عشر سنوات مقبلة، كما ان المسؤولين الامريكان لا يخفون تلميحاتهم بأنها ستشمل دولاً عربية معينة، يأتي العراق في مقدمتها، إضافة الى اليمن والسودان وسوريا ولبنان، وليس من اليسير توقع ما سيحدث في دول ومناطق عربية أخرى، وهذا يعني في المقاييس السياسية، أن المنطقة مقبلة على مرحلة حرجة، رغم كل التطمينات التي تلوح بها الإدارة الامريكية ودول الاتحاد الاوروبي، في محاولة لكسب التأييد والتوافق معها في حربها الحالية.
والحقيقة التي لا يمكن الهروب منها، وأن الإرهاب الإسرائيلي المستمر ضد الشعب الفلسطيني، ومواصلة حكومة شارون استخدام القوة العسكرية كوسيلة وحيدة في عمليات الاغتيال والقتل والتدمير، التي تتعرض لها غزة والضفة الغربية، لا يتيح فرصة لنجاح أي مسعى أمريكي او غربي لمشاركة العرب في التحالف الدولي الذي أطل برأسه في أفغانستان بداية، ولا يوفر أيضاً إمكانية التعاون المشترك بينهم، وبين واشنطن وأوربا في ميدان مكافحة الإرهاب، الذي تدعو إليه الإدارة الامريكية، أو حتى في ميادين أخرى، سياسية واقتصادية وعسكرية مستقبلا، ومن الصعب أن تجد الولايات المتحدة، حلفاء عرباً لها، على صعيد فعلي وحقيقي، مادامت لا تتخذ مواقف حازمة في وقف إرهاب شارون وإجباره على تنفيذ التزامات حكومته بشأن العملية السلمية ووضع حد لتطرفه ومغامراته.
فإذا كانت إدارة الرئيس بوش، جادة حقاً في استئصال الإرهاب في العالم، وتدعو الدول العربية الى مناصرتها وتأييدها، فان أولى الخطوات التي يجب أن تقوم بها قبل أي شيء آخر، هي أن تمارس دورها الاممي في حل القضية الفلسطينية، حلاً عادلاً وشاملاً، يؤمن حقوق الشعب الفلسطيني ويلبي إرادته في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وإلا فان نتائج سياسات التفرج على ما يجري في الأراضي الفلسطينية، والاكتفاء بإصدار بيانات التهدئة وضبط النفس، ستكون وخيمة على جميع الأطراف والدول في المنطقة وخارجها، وإذا كانت واشنطن قد نجحت في إرساء مقدمات تحالف دولي لمؤازرتها في حرب أفغانستان، بسبب حماقات طالبات وبن لادن، فإنها ستواجه المزيد من المتاعب في أي استدارة تقدم عليها في المنطقة العربية عقب انتهاء معركتها الراهنة، في ظل التصعيد الإسرائيلي، وافتقارها الى مبادرات حاسمة تنهي العنجهية الإسرائيلية وتوقف إرهاب قادتها.
فالإرهاب سواء كان في أفغانستان، أو فلسطين مع تباين صوره وأشكاله، في المكانين، يبقى واحداً في آثاره وتداعياته، ولا يمكن إضفاء شرعية محاربته في كابل، والتغافل عنه في تل أبيب، فمواجهة الإرهاب لابد أن تتم وفق مفهوم عادل وغير انتقائي.
ورغم أن الإدارة الامريكية وبعض دول الاتحاد الاوروبي، قدمت مؤخراً مبادرات خجولة، حول أهمية قيام الدولة الفلسطينية والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، إلا أن هذه المبادرات بحاجة الى دفعات إضافية، تعزز قدرتها للوصول الى نتائج ملموسة على ارض الواقع، وإلا ما نفع التصريحات والدعوات وسط اشتداد الهجمات الإسرائيلية ومواصلة شارون لسياساته المتطرفة في احتلال المناطق والأراضي الفلسطينية وممارسة القتل والتدمير والاغتيالات يومياً في الضفة وغزة؟
إن مرحلة ما بعد 11 سبتمبر، رتبت استحقاقات سياسية لواشنطن، لاشك فيها، بعد ان ضرب الإرهاب خاصرتها الاقتصادية في مركز التجارة العالمي بنيويورك ودعامتها العسكرية في البنتاغون بالعاصمة، ولكن المهم هو كيفية التصرف في هذه الاستحقاقات وأولوياتها، والطريقة التي تتم فيها، ومن المنطقي أن تبادر الإدارة الامريكية ودول الاتحاد الاوربي، إذا كانت حريصة على تمتين روابطها وتحالفاتها مع الدول العربية، كما تشير تصريحات وبلاغات المسؤولين في واشنطن والعواصم الأوربية، الى تصفية الإرهاب في فلسطين لتعطي دليلاً على نزاهة حربها مع الإرهاب والإرهابيين، قبل أن تبدأ معاركها في دول أخرى وضعتها في لائحة الإرهاب، رغم بعض هذه الدول، لا علاقة لها بالإرهاب من قريب أو بعيد.
وعموماً، فان المنطقة العربية سواء نجحت الغارات الامريكية والبريطانية على أفغانستان، في تنفيذ أهدافها بالكامل، أو أنجزت جزءاً منها، فإنها معرضة لمحاولات تغيير في خارطتها السياسية، وهذا يستدعي تحركاً من الدول العربية المحورية خصوصاً، ممارسة قدر من الدبلوماسية المقتدرة، ولعب دور متوازن تحدد فيه مواقفها، من أي تحالف لمواجهة الإرهاب، لا يأخذ في الاعتبار إرهاب الدولة العبرية.
* نائب المدير الإقليمي للاتحاد العالمي للإعلام واستطلاعات الرأي
|
|
|
|
|