اختلفت اغراض الشعر وتعدد الشعراء وتعددت مذاهبهم ومشاربهم غير انهم اجمعوا على شيء واحد هو الوطن وحب الوطن.
وما الوقوف على الاطلال الذي ظل الشعراء حيناً طويلاً يفتتحون به قصائدهم الا صورة من صور التعلق بالوطن.
يقول امرؤ القيس وهو اول من وقف واستوقف:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ويقول قيس بن الملوح:
الا حبذا نجد وطيب ترابها وارواحها
ان كان نجد على العهد
الا ليت شعري عن عوارضتي قنا
لطول التنائي هل تغيرتا بعدي
وعن جارتينا بالبتيل الى الحمى
على العهد ام لم يدوما على العهد
والوطن كما عرفه ابن منظور في لسان العرب بأنه المنزل الذي يمثل موطن الانسان ومحله.
وعرف عن العرب شدة حنينهم لاوطانهم حتى ان الجاحظ يقول في رسالته الحنين الى الاوطان:
«كانت العرب اذا غزت او سافرت حملت معها من تربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه».
قيل لاعرابي ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الاوطان. وقديما قالت العرب: من علامات الرشد ان تكون النفس الى بلدها تواقه والى مسقط رأسها مشتاقة لذا جاء الشعر العربي مليئاً بهذا النوع من الشعر: شعر الحنين الى الوطن.
ويتذكر ابن الدمينة الشاعر الأموي بلده نجد فيقول:
الا يا صبا نجد متى هجت من نجد
لقد زادني مسراك وجدا على وجد
أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى
على فنن غض النبات من الرند
بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن
وابديت الذي لم تكن تبدي
وقد زعموا ان المحب اذا دنى
يمل وان النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف مابنا
على ان قرب الدار خير من البعد
على ان قرب الدار ليس بنافع
اذا كان من تهواه ليس بذي ود
ومهما سكن الانسان الدور والقصور فان ذلك لن ينسيه وطنه فهذه ميسون بنت بحدل خطبها احد الخلفاء فتركت وطنها بادية الشام وجلست معه في المدينة حيث العيش الرغيد. لكنها لم تطق فراق وطنها فقالت:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحب إليَّ من قصر منيف
وكلب ينبح الطراق عني
أحب إليّ من قط أليف
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إليّ من لبس الشفوف
وأكل كسيرة في كسر بيتي
أحب إليّ من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فج
أحب إليّ من نقر الدفوف
خشونة عيشتي في البدو أشهى
إلى نفسي من العيش الطريف
فما أبغي سوى وطني بديلا
وما أبهاه من وطن شريف
فلما سمعها زوجها طلقها لتعود الى اهلها.
ولما رأى عبدالرحمن الداخل بعد ان استتب له الحكم في الاندلس قافلة متجهة الى الشام تذكر غربته وبعده عن وطنه فقال:
أيها الراكب الميم أرضي
أقر من بعضي السلام لبعضي
ان جسمي كما علمت بأرضي
وفؤادي ومالكيه بأرضي
قدر البين بيننا فافترقنا
وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينا
فعسى باجتماعنا سوف يقضي
ورأى يوماً بقصره قصر الرصافة نخلة ولم يكن النخل موجودا حينئذ في الاندلس وانما امر بجلبه من الشام فقال:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة
تناءت بارض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى
وطول التنائي عن بني وعن اهلي
نشأت بأرض انت فيها غريبة
فمثلك في الاقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها الذي
يسح ويستمري السماكين بالوبل
ويستمر التغني بالوطن والحنين اليه ما استمر الشعر والشعراء ففي عصرنا الحاضر يصف خير الدين الزركلي حاله بعد فراقه وطنه فيقول:
العين بعد فراقها الوطنا
لا ساكنا ألفت ولا سكنا
ريانة بالدمع اقلقها
ان لا تحس كرى ولا وسنا
كانت ترى في كل سانحة
حسنا وباتت لا ترى حسنا
والقلب لولا انه صعدت
انكرته وشككت فيه انا
ليت الذين احبهم علموا
وهم هنالك مالقيت هنا
ما كنت احسبني مفارقهم
حتى تفارق روحي البدنا
ويعود الشاعر عبدالرحمن العشماوي بعد غياب ليرسلم احلى صورة بشعره لاجمل وطن المملكة العربية السعودية بلد التوحيد وقد اكتست حلة ذهبية بعد مرور مائة عام على تأسيسها مئة عام اخضرت فيها الارض وانتشرت العمران ولكن بقيت ثابتة على العهد.
على الأصالة والطهارة:
مئة من السنوات يزحم بعضها
بعضاً وترفع راية التوحيد
ويسطر التاريخ عنها قصة
مدعومة بأدلة وشهود
مئة تسافر في البناء شهورها
ولها من العزمات خير وقود
مئة تعهدها السحاب فقربت
اغصانها الخضراء كل بعيد
قالت لنا بلسان حال صادق
اني رعيت مبادئي وعهودي
انا واحة خضراء رواها الهدى
وبه بلغت جلالة المقصود
لما حباني الصقر غاية جوده
اقسمت ان اعطيه غاية جودي
مئة رمال البيد تشهد انها
مئة من التأسيس والتشييد
مئة من الواحات فوق غصونها
يمتد تاريخ من التغريد
من يعرف الصحراء يعرف انها
درب الهلاك لخائف رعديد
لكنها درب النجاة لمن أبوا
الا صعوداً لاصقاً بصعود
ألقى لها عبدالعزيز رداءه
وبنى بعون الله صرح أسود
لغة موحدة ومملكة جرت فيها
سواقي الخير منذ جدود
وبخدمة الحرمين نال ولاتها
شرفاً، وأسمى منزل محمود
حبل من التقوى يجمع شملها
أكرم بها وبحبلها المشدود
ويعود الى الوراء ليستذكر البداية بداية التأسيس وعظم الانجاز الذي قام به جلالة الملك الموحد عبدالعزيز يرحمه الله فيقول:
ها نحن نقرأ في سجل حياتها
ما سطرته عزيمة بن سعود
لما امتطى ظهر الجواد وكفه
مرفوعة للخالق المعبود
وجد الطريق أمامه مفتوحة
ومشت إليه كتائب التأييد
ومضى يلوث عمامة عربية
ربطت على حزم ورأي سديد
من أين أقبل؟ من قواعد همة
عظمى ومن اصراره المعهود
ماذا يريد؟ لدى الرياض حكاية
تروى معطرة بأطيب عود
والله ولي التوفيق
المراجع:
عيون الأخبار لابن قتيبة
المستطرف في كل فن مستظرف لشهاب الدين الابشيهي
لسان العرب لابن منظور
رسائل الجاحظ
صحف ومجلات سعودية.