اسم الكتاب:المتنبي وصراعاته
دراسة نفسية واسلوبية
اسم المؤلف: الدكتور بكري شيخ أمين
الطبعة: الاولى لعام 1421ه،وقامت بطبعه الدار السعودية للنشر والتوزيع.
ابو الطيب المتنبي شاعر عبقري عجيب، ملأ الدنيا وشغل الناس، وقد كتبت عنه أكثر من مائة وسبعين مادة ادبية، تناولت المتنبي بكلياته وجزئياته، بأصوله وفروعه، بكبيره وصغيره، وبعظيمه ودقيقه، الا ان هناك كتاباً جديداً في عرضه وطرحه لدراسة شخصية ابي الطيب المتنبي، ينظر اليه من منظار آخر، ويعايشه معايشة تختلف عن طرائق الادباء في معاشرة شعرائهم، وهذا الكتاب هو الذي مر بك عنوانه سابقاً، ومؤلفه اديب اريب رزين عرف الادب وأحبه عشقاً وغراماً وهياماً، وعرفه الادب وبادله حباً بحب، وعشقاً بعشق وغراماً وهياماً بغرام وهيام، ونتج عن هذا الحب والغرام ان آثره الادب بكنوزه واسراره دون الآخرين، ومن هذه الكنوز والاسرار تجلت هذه الدراسة النفسية الاسلوبية لأبي الطيب المتنبي من منظار يختلف تماماً عما كتب عن المتنبي سابقاً، ولعلي اترك المجال للمؤلف حفظه الله تعالى ليبوح للقراء بالجديد في هذه الدراسة:
مرة كنت اقف بعيداً عن صاحبي واسجل حركاته، فكأني آلة مصورة تسجل كل ما يقع امامها بصدق وامانة وبغير مشاعر.
ومرة بل مرات، كنت ادخل الى اعماق صاحبي، واعيش في عالمه الداخلي.
ومرة اخرى لا اكون هذا ولا ذاك، وانما اقف بعيداً عن الرجل فأناقشه واحاسبه، واحكم له، او احكم عليه.
ثم عقب المؤلف الفاضل على ما سبق بقوله:«تلك هي سمة هذه الدراسة، وهي ان لم تكن جديدة في مكتبة المتنبي فإنها شبه جديدة، والذين ساروا على هذا المنهج قليل» والسؤال الذي يطرح نفسه الآن لماذا كانت هذه الدراسة مطبقة على أبي الطيب المتنبي دون غيره من الشعراء؟!
ولم يفت المؤلف الفاضل الدكتور بكري شيخ امين الاجابة عن هذا السؤال حيث قال:«اعترف ان دافعي الاول والاخير لهذا التأليف كان حبي هذا الشاعر الجني الرهيب، لقد ارضعت حبه منذ مرحلة الدراسة الابتدائية، واستمر هذاالحب الى ان اشتعل الرأس شيباً»، وبعد مقدمة الكتاب التي اوضح فيها المؤلف اسباب الدراسة واهدافها، انتقل الى الحديث عن عصر المتنبي، حيث عاش المتنبي في القرن الثالث والرابع للهجرة في العصر العباسي الثالث، وفي هذا العصر انتشرت ظاهرة بلاطات الامراء، والتي كان الشعراء يتنافسون عليها من اجل ان يضمنوا لأنفسهم لقمة عيش هنيئة، وهنا تأتي اشارة هامة من المؤلف ليقول فيها:«من هنا نستطيع ان نفسر كذلك اسباب اندلاع النار في كل بلاط حل فيه المتنبي، لانه يزاحمهم على لقمة العيش، وينافسهم على امتلاك قلب الحاكم، ويزلزل الارض من تحت اقدامهم»، وحول عنوان الكوفة في عصر المتنبي وبعد ان تحدث المؤلف عن سكانها وعقيدتهم وعلمهم وثقافتهم قال:«وعلى هذا التراب وفي مثل هذا الجو الذي يسود فيه الكبت والحرمان والقتل والرغبة في حب الانطلاق عاش المتنبي وفي ظلال الدعوة القرمطية جاءت اشارة المؤلف الى الجو الذي ولد فيه المتنبي ونشأ فيه حيث يقول:«في هذا الجو الكوفي المفعم بهذه التناقضات السياسية والدينية والجنسية والمذهبية والثقافية والاقتصادية والفكرية، وعلى تراب هذا البلد الثائر ولد ابو الطيب احمد بن الحسين الجعفي سنة 303ه/915م».
والمتنبي مجهول النسب، مجهول نسبه ابيه وامه وجده وقبيلته وكل اسرته.
وبدايات ابي الطيب المتنبي كما يقول المؤلف:«ضائعة مجهولة، يلفها الظلام، ويكتنفها الغموض» ومن خلال الجو العام الذي كان سائداً في الكوفة استنتج المؤلف انه درس القرآن الكريم، واللغة، والبلاغة، وفن الشعر وفلسفة اليونان، وظل المتنبي في الكوفة، حتى اذا ما اندلعت ثورة حمدان من جديد، ونهبت الكوفة فيها، خرج منها واتجه الى بغداد، وهناك كما يقول المؤلف بدأت مرحلة الضياع، وتقلب ابو الطيب في مدينة بغداد الفوضى، ولئن استفاد من شيء فهو تتملذه على اللغوي المشهور ابي دريد، ولقاؤه بمحمد بن عبيدالله العلوي، وتحت عنوان هام يمثل انعطافاً من انعطافات شخصية ابي الطيب المتنبي وهو ارهاصات التنبؤ غار المؤلف بين جوانح هذه الشخصية العبقرية الطموحة، مشيراً الى الصراعات النفسية داخل شخصية المتنبي التي نتج عنها الازدواجية في شخصية المتنبي، والتي ادت به الى ادعاء النبوة، وهنا يقرر المؤلف حقيقة هامة وهي:«كل ما نريد ان نثبته ان الرجل ادعى النبوة فعلاً، ولقد تاب عن هذا الادعاء بعد ان سجن في حمص قرابة سنتين، وشهد عليه حاكم المدينة امام الناس بالتوبة،..لقد خرج أبو الطيب من السجن، وقد رسم على جبينه لقب «المتنبي» وعرفه الناس بهذا اللقب».
«خرج المتنبي من السجن اعزل الا من قلب خافق، ولسان شاعر، كان الالم يغريه، والجوع يضنيه، والحيرة تكويه» وتقلبت به الايام، وسلك دروب الضياع، ومدح بغرر قصائده، وعزيز ابياته ، اناساً لا يستحقون المدح والثناء، ولا يقدرون العباقرة من الشعراء، الى ان بزغت في وجهه شمس الحياة، وضحكت له الاقدار، وسجل التاريخ اعظم لقاء وتعارف مرّ على سطوره وهو بين سيف الدولة الحمداني، وبين أبي الطيب المتنبي، وعرض الامير على الشاعر صحبته، فصحبه طائعاً ممنوناً، ودخل قصره فرحاً مستبشراً، وهنا وصف المؤلف قصر سيف الدولة وصفاً جميلاً، وصوره في صورة حية نابضة بالحركة والحيوية، ومن رائق وشيق ما جاء في الوصف قول المؤلف حفظه الله وحباه البيان والتبيان:«العجيب في الامر ان كل من يعمل في هذا القصر كان مبدعاً في ناحية من نواحي العلم او الثقافة او الفن، كاتباه الخالديان شاعران، طباخه كُشاجم شاعر، الموظفون في القصر يفهمون في الشعر، في الفن، في الموسيقى، في الفروسية، في جانب من جوانب الحضارة والحياة، في هذا القصر كانت تقام ندوات علمية وفلسفية، لم يكن لها نظير سوى ندوات قصر المأمون في بغداد»، وتبادل سيف الدولة الامير، والمتنبي الشاعر العواطف الصادقة حباً بحب واعجاباً بإعجاب.
يا أيها القمر المباهي وجهه
لا تكذبن فلست من أشكاله
وإذا طمى البحر المحيط فقل له
دع ذا فإنك عاجزٌ عن حاله
الجيش جيشك غير أنك جيشه
في قلبه ويمينه وشماله
ترد الطعان المرَّ عن فرسانه
وتنازل الابطال عن ابطاله
كلٌّ يريد رجاله لحياته
يامن يريد حياته لرجاله
وحول عنوان بديع وضعه المؤلف وأسماه:«سر العبقرية او شاعر الصراع» حاول المؤلف ان يستنتج العوامل التي تكمن عبقرية المتنبي تحتها وذكر منها عاملين:
الاول: اكتشاف المتنبي لسر استعمال المفردة العربية، وسر تركيبها مع أختها.
الثاني: كثرة ما يلجأ إليه من تصوير للصراع، وهو ما نسميه بالصراع الاسلوبي.
وقد اشبع المؤلف «حفظه الله» هاتين النقطتين دراسة وبحثاً وتمثيلاً وتدليلاً.
ثم عرض مؤلف الكتاب لرحيل المتنبي عن حلب بعد ان توالت جراحاته في مجلس سيف الدولة الحمداني ولم ينتصر له الامير، بل كان سبباً من اسباب هذه الجراحات المتتالية، وقد ألمح إليها الكتاب، فالجرح الاول: كان من مفتاح ابن خالويه الحديدي الذي ضرب به وجه المتنبي، فسال الدم من وجهه، وكان ذلك إثر مناظرة لغوية جرت في مجلس سيف الدولة، ولم ينتصر الامير لشاعره لا قولاً ولا فعلاً.
الجرح الثاني: تروى الاخبار ان سيف الدولة في السنة الثامنة او التاسعة من اقامة ابي الطيب في كنفه كان يكثر من أذى الشاعر، وإحضار التافهين من الناس لإهانته، وكان أبو الطيب لا يجيب أحداً بشيء، فيزداد غيظهم وغيظ أميرهم، إلى أن انفجر أبو الطيب بقصيدته «وا حرّ قلباه» وهنا نفث بكل ما كان يغلي في مرجله النفسي، وفي القصيدة إشعار بدنو اجل هذه العلاقة.
الجرح الثالث:تقول الروايات ان ابا فراس خصمه اللدود كان يوقفه عند كل بيت ويتهمه بسرقة معانيه، وظل ينتقده حتى ملأ صدر سيف الدولة حنقاً وغيظاً، وكان امامه دواة، فتناولها ورمى بها وجه ابي الطيب فجرحه وأسال منه الدم.
وهنا كانت قصيدة الوداع:
وا حرَّ قلباه ممن قلبه شَبِمُ
ومن بجسمي وحالي عنده سَقَمُ
مالي أكتَّم حباً قد برى جسدي
وتدّعي حب سيف الدولة الأمم
إن كان يجمعنا حبٌّ لغرته
فليت أنا بقدر الحب نقتسم
يا اعدل الناس الا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
اذا استوت عنده الانوار والظلم
ورحل الشاعر عن حلب، وراح يتأمل ما آل إليه وضعه اليوم، ومصيره المجهول غداً، وتبقى ذكريات الايام الخوالي تعصر قلبه وتدميه، ومشى شاعرنا الى مصر وهناك مدح حاكمها كافوراً الاخشيدي وفي هذا يقول المؤلف:«لم يكن المتنبي حتى في الساعة الاولى التي وقف فيها بين يدي كافور مخلصاً في مديحه، ولا محباً لممدوحه، ولا راغباً في وقفته تلك، ولكنه كان مسوقاً بالمقادير، مجبراً على المجيء الى مصر كافور».
وهنا استعرض مؤلف الكتاب الخصائص الفنية التي تميزت بها القصائد الكافورية وهجاء المتنبي لكافور حينما شعر باليأس وخيبة الامل، وعزوف حاكم مصر عن توليته ولاية صغيرة او ضيعة، واستعرض بعض الاسباب النفسية لثورته وغليانه، وهرب المتنبي من مصر متخفياً مستتراً عن عيون كافور وجنوده المصريين، ووصل الى العراق مسقط رأسه بعد غياب دام اربعاً وثلاثين سنة، ومكث في مدينته الكوفة قرابة عام كامل، الى أن أوقد سيف الدولة الحمداني الشوق في قلب الشاعر الى حلب الشهباء، وذلك حينما دعاه الى العودة إليها ويقول المؤلف الفاضل: «لقد صمم على ان يتابع طريق العودة الا ان اخباراً فاجعة وصلته الى بغداد، فعدل عن المسير. لقد بلغ مسامعه ان نقفور هجم على حلب، وطرد سيف الدولة منها، ونهب المدينة طوال سبعة ايام، ثم جلا عنها مقسماً الايمان بالعودة إليها، ولم يكن امام الشاعر الا ارجاء سفره الى وقت اكثر ملاءمة»، وبقي الشاعر في بغداد وأصبحت مجالسه ذات شهرة وطابع متميز، وانتشر خبرها في جميع بلدان العالم الاسلامي، وأضفت خيراً كثيراً على سمعة المتنبي وشاعريته، غير ان الشاعر مل البقاء في بغداد وعاد ادراجه الى الكوفة مسقط رأسه، ويسميها المؤلف المدينة الحزينة دائماً وأبداً وقد صدق حدس المؤلف، فقد هجم عليها القرامطة، وكان قائدهم رجلاً بدوياً سارقاً يدعى «ضبّة بن يزيد العتبي» ولم يترك عربياً ولا غيره الا تعرض له وسفك دمه، كما تعرض للشاعر وشتمه وقلل من شأنه، فما كان من المتنبي الا نظم قصيدة هجاء في ذلك البدوي الفاتك ضبة، وهنا تأتي عبارة المؤلف القاطعة حيث قال:«..لم يكن يدري أنها ستكون سبب مقتله في يوم من الايام» فهل يحق لنا ان نعلق على هذه العبارة ونقول: ان أبا الطيب المتنبي شاعر قتله شعره، وتناول المؤلف بأسلوبه الادبي الانيق الرائق رحلة الشاعر الى بلاد الفرس، وتنقل المتنبي بين مدنها الزاهية جمالاً وطبيعة، ومن أرّجان وشِعب بوان الى شيراز، الا ان نفس المتنبي كانت تواقة شواقة الى بلاط سيف الدولة الحمداني، وبلد عربي الاصل والعرق. والمميز لشعر المتنبي في هذه الحقبة كثرة ذكر الموت، وكأن الموت منه قاب قوسين او ادنى، ثم عقد العزم على الرحيل الى مسقط رأسه الكوفة. وفي طريق عودته إليها نهار الاربعاء 28 رمضان/27 ايلول برز جماعة من الاعراب يقودهم فاتك بن ابي جهل الاسدي خال ضبة، وهنا يأتي تعليق المؤلف على هذه الحادثة بقوله:« حدثت احدى تلك المآسي الخاطفة السريعة التي احتفظت الصحراء وحدها بسرها» ويقال: ان المتنبي فرَّ عند بدء الهجوم، ولكن احد عبيده لحق به، وقال له: لا يتحدث الناس عنك بالفرار وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال المتنبي: قتلتني، قتلك الله، ثم كرّ راجعاً نحو مهاجميه فقتل، فلله در المتنبي، عاش كريماً أبياً طموحاً، ومات كريماً أبياً لم يخالف قوله فعله، قتله شعره، وقضى عليه نظمه،و خلد التاريخ ذكره، ولد فريداً، وعاش فريداً، ومات وحيداً فريداً، فهو بحق شاعر العربية والعروبة والفروسية، وهو بحق أيضاً مالئ الدنيا، وشاغل الناس. هذا وقد تناول المؤلف المعركة النقدية التي حدثت حول شعر المتنبي، ومصادر البحث ومراجعه، ثم فهرس المحتويات، واخيراً مؤلفات الاديب الدكتور بكري شيخ امين، والتي احتلت مكاناً بارزاً وهاماً في المكتبة العربية.
وأخيراً فقد تناول المؤلف حفظه الله وامد في عمره، وبارك في ادبه، شاعر العروبة تناولاً مستوعباً دقيقاً فائضاً بالدرس والبرهان والنتائج، بطريقة اخاذة ممتعة، تجد الكتاب يذكر عن أبي الطيب المتنبي كل شيء، ويأخذ في الحديث عنه كل مأخذ، ويطرق في درسه كل طريق، هو كتاب يتحدث عن المتنبي طولاً وعرضاً، شمالاً وجنوباً، ويغور في نفسيته، ويرصد مشاعره واحاسيسه، مصوراً صراعاته النفسية التي كانت وراء كل بيت شعري قاله، وسجله تاريخ الادب محتفياً به وحافظاً له ، هو كتاب تميز في دراسته لشخصية ابي الطيب المتنبي، ناهيك عن جانب الامتاع والمؤانسة التي يتميز الكتاب به، والتي هي واحدة من اهم سماته، وقد اطلق المؤلف لقلمه العنان، معبراً وباحثاً ومستدلاً بعيداً عن النقل من كتب اهل العلم، وان كان الكتاب موثقاً توثيقاً علمياً وادبياً، بدا هذا واضحاً في مصادره ومراجعه، وقد سار الكتاب على منهجين اثنين:
الاول: دراسة المتنبي الشاعر تاريخياً وادبياً.
الثاني: دراسته نفسياً، مع الغور في خلجاته النفسية.
غير ان هذين المنهجين تداخلا والتحما في هذه الدراسة النفسية والاسلوبية، فغدت دراسة واحدة، وسلكت منهجاً واحداً، لذلك سمى المؤلف كتابه:« المتنبي وصراعاته دراسة نفسية واسلوبية».
حفظ الله المؤلف، وحفظ الله قلمه سيالاً معطاء لكل جديد حديث رائق شيق في مجال الأدب ودراساته.