| مقـالات
* * في جو من العتمة؛ يكتنف أنحاء كثيرة من هذا الكون اليوم؛ جراء حوادث إجرامية إرهابية لم توفر دولة من الدول؛ أو تستثني شعبا أو أمة؛ كان من أحدثها وأخطرها وأبرزها بطبيعة الحال؛ الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة الامريكية في الحادي عشر من شهر سبتمبر الماضي؛ وما تلا هذا الحادث الغاشم الأثيم؛ من شن حرب كونية ثالثة؛ على معاقل الإرهاب في أرض الأفغان؛ هذه الحرب الأممية؛ هي بكل المقاييس؛ وبعيدا عن (لكننة) المنافقين؛ ومزايدة المتماهيين؛ ردة فعل طبيعية؛ لمجتمع دولي يشعر بالذعر والخوف، فهو الذي تسفك الدماء على أرضه؛ ويهان في عقر داره؛ ويهدد في أرواح أبنائه وبناته، وتدمر منشآته وممتلكاته.
* * وفي مثل هذه الظروف المشحونة، والأعصاب المشدودة، فإن الناس كل الناس في أمس الحاجة إلى أصوات عاقلة، أصوات هادئة متزنة؛ تملك القدرة على المجادلة والمحاججة؛ بنزاهة ونبل وشجاعة، من أجل المساعدة؛ على نشر المزيد من حزم الضوء في الأنفاق المظلمة، وكشف كافة الأكاذيب والدعاوى الظالمة، والوصول بالعقل البشري السليم؛ إلى الحقيقة المجردة؛ في صورتها النقية، خالصة من شوائب الفكر المضطرب؛ والتفكير المتضارب.
* * أما الأصوات المتعقلة المبصرة؛ التي ينبغي أن تأخذ مكانها في الصدارة في مثل هذا الوقت بالذات؛ فإني أراها؛ وكأنها ما زالت في وضع متواضع؛ لا تقوى معه على المزاحمة، وهذا ليس من قلة أو ضعف أو جُبن، ولكن بسبب غلبة الصوت اللجوج المرتفع؛ والتشويش المتعمد من الطرف الآخر، وذلك بهدف التمييع والتزييف، والمغالطة بالإثم، والمكاثرة بالأنصار المزيفين؛ ليبدو (الباغي)؛ وكأنه الأقوى حجة، والأظهر نفرا.
* * ومن أصوات العقل القليلة هذه؛ الذي قرأتها واستمعت إليها بتقدير واحترام كبيرين؛ صوت الدكتور الشيخ صالح بن غانم السدلان؛ أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية بالرياض؛ فقد نشرت له جريدة (الشرق الأوسط) في عددها رقم (8354)؛ بتاريخ (12/10/2001ه) حديثا قيماً؛ تضمن تفنيدات مُلْهَمَة ومُلْهِمَة، غير مُبْهَمَة ولا مُبْهِمَة، جاءت في إجابات واضحة صريحة؛ عن خمسة أسئلة للجريدة، وتناولت: (معنى الإرهاب في اللغة وفي الاصطلاح، والإرهاب بمعنى التقوى المباح، والتعدي غير المباح، وحكم من يستبيح دماء الأبرياء الآمنين والمسالمين من المسلمين ومن غير المسلمين، والتحالف العالمي ضد الإرهاب، وضرب معاقل هذا الشر في أرض الأفغان).
* * وعندما قرأت حديث الشيخ السدلان أكثر من مرة؛ تمنيت أن يقرؤه كل الناس، وخاصة أولئك الذين يوقفون أنفسهم على توجه واحد في شأن هذه المسألة، ليعلم الجميع؛ حقيقة الإسلام أولا، ثم ليقف المسلمون أنفسهم قبل غيرهم؛ على تاريخ الحركات الخوارجية؛ التي تأخذ بنهج التكفير؛ وتبيح القتل على أي وجه؛ وهي التي ظلت طوال عدة قرون؛ تلوي أعناق حقائق التعاليم الدينية السمحة، وتتعسف المعاني السامية؛ في الآيات والسور القرآنية الكريمة؛ وتستلب التوجيهات السديدة؛ من الأحاديث النبوية الشريفة، بسبب ما أصاب فئات هنا وهناك من لوثات؛ فشذت عن جمع الأمة، ونبذت نهجها السليم؛ وأغرقت في فكر التطرف والتشدد؛ حتى راحت؛ تنتحي بعاهاتها عن صلب الحياة الحقة؛ الذي نادى بها الإسلام في جوهره الصحيح. ذلك أنها بهذا السلوك الشاذ؛ إنما تريد أن تحقق أغراضها (الخاصة)؛ بوسائل ظلامية عدوانية بغيضة؛ فلجأت إلى العنف؛ بما يعنيه من قتل للأنفس؛ وتدمير للممتلكات؛ وتخريب للمنشآت، فهي بهذا؛ لا تهمها نتائج أفعالها؛ حتى لو جاء ذلك على حساب الناس جميعا.
* * وفي خضم الفتنة التي أشعلها الخوارج اليوم؛ تعلو مع الأسف أصوات نشاز؛ تؤيد الأعمال العدوانية، وتمجد الإرهاب، وتبارك العنف، وتجهر بالمنكر، وتستنفر الجهلاء والبسطاء، وتحرض المؤيدين والمساندين والأعوان؛ من وقعوا في شرك الفكر الخوارجي الخبيث، فالغرض بين؛ والهدف واضح؛ وهو زعزعة كيانات الأمة؛ وتفريق شملها؛ تمهيدا لالتهامها؛ والاستيلاء على مقدراتها؛ واللعب بمصائر أبنائها؛ تلبية لأهواء رؤوس الفتنة في جبال الأفغان.
* * وفي زحمة الحوادث التي جرت مؤخرا، وما أفرزته من معطيات سلبية للغاية على الأمتين العربية والإسلامية؛ فإن ما يحدث من تشويش وتزييف متعمد من قبل أطراف الشر؛ ساهم في تغييب الحقيقة عن أذهان ناس كثر، وجر أفهام البعض؛ إلى هامشيات لا تدخل في صلب القضية؛ أعني قضية الفتنة، وفكرها وأساليبها وغاياتها، فالذي يجري اليوم أمام الرأي العام؛ هو الكلام على عدوان دولي سافر؛ تقوده الولايات المتحدة الأمريكية؛ على دولة مسلمة هي أفغانستان.. هكذا بكل بساطة؛ (قفز) بنا إلى النتيجة دون التوقف عند الأسباب..! وهذه هي مشكلتنا الأساسية في الخطاب الإسلامي والإعلامي منذ العام (1990م).. لأن تناولنا لقضية في حجم العدوان العراقي على الكويت على سبيل المثال؛ توقف عند النتيجة فقط دون السبب؛ فعند ضرب القوات الدولية للعراق..! يرتفع الصوت: لماذا يضرب العراق..؟ لماذا تدمر قوة العراق..؟ ولم يتوقف أحد منا ليسأل: ولماذا غزا العراق دولة الكويت..؟! وهل ضرب العراق قبل غزوه للكويت..؟!
* * اليوم.. يتكرر الشيء نفسه؛ لأننا لا نتعلم من أخطائنا، فيتوقف خطابنا عند (حالة) الغارات الدولية على افغانستان..؟ لماذا يضرب البلد الإسلامي والشعب الاسلامي في أفغانستان..؟ ولم نربط هذا الضرب الذي يستهدف حكومة طالبان ومليشياتها المقاتلة؛ ويتعقب عناصر منظمة القاعدة الإرهابية؛ بما حدث في نيويورك وواشنطن مثلا؛ أو ما حدث في الخبر والرياض وعدن ودار السلام ونيروبي والجزائر ومصر..!! لم يقل أحد مثلا: لا تضربوا الشعب الأفغاني المسالم؛ واستهدفوا عناصر منظمة القاعدة الإرهابية، وحكومة طالبان التي تؤويها..! لم يقل أحد بذلك..؟!
* * وهناك خطأ جسيم آخر.. قد يكون خِطْئاً مقصودا لا خطأ. لا أعرف وهو فخ نصبته الجماعات (الخوارجية) للخطاب الإعلامي، ووقع فيه بعض المحسوبين على الفكر الإسلامي، وتبناه بعض وسائل الإعلام وما زال، ويتمثل في التفريق بين الحكام والشعوب؛ بدعوى العمالة للغرب وأميركا وغير ذلك، وهذه الدعوى التي واتت هوى عند فريق يرفع الشعارات القومية، وفريق آخر يرفع شعارات إسلامية مناهضة وهما على طرفي نقيض ولكنهما يلتقيان هنا..! هذه الدعوى الساذجة؛ تمثل في حقيقة الأمر؛ وجها واحدا من وجوه فكر الخروج في هذا العصر، الفكر الذي يعني؛ تكفير الحكام؛ وتكفير من يدخل في طاعتهم أو يقف في صفهم، ثم استباحة دماء الكل بعد ذلك..!
* * مثل هذه الدعاوى الباطلة؛ والتعمية والتزييف؛ لابد أن تكشف وتعرف؛ حتى يكون الناس على بينة من حقيقة ما يجري؛ وحتى يكون في مقدور المتلقين؛ تفسير هذا الذي يجري؛ تفسيرا صحيحا لا لبس فيه.
* * إنه اذا كان الارهاب؛ ليس من ديننا الحنيف؛ ولا من اخلاقنا ومبادئنا، ومع ذلك يوجد من المسلمين؛ من يرتكب هذا الفعل المشين؛ ثم يدعي أنه إنما يفعل ذلك لمصلحة الإسلام والمسلمين..! فماذا يعني هذا الخلط..؟ ولماذا نستنكر على غيرنا من غير المسلمين؛ الدفاع عن أنفسهم، في حين نعتبر هذا حقا من حقوقنا..؟!
* * سوف أترك الكلام في هذا الأمر؛ لما قال به الشيخ الدكتور صالح بن غانم السدلان؛ فقد أحسن وأصاب؛ في بيانه حقيقة فكر الخوارج؛ وبيان الدلائل على نهجهم المنحرف؛ من أقوالهم وافعالهم. ثم احسن كثيرا في تذكير المسلمين كافة بدورهم وواجبهم في محاربة الارهاب، واستئصال جذوره من ديارهم، قبل أن يستفحل الأمر؛ وهو أمر جد خطير.
* * قال الشيخ صالح في شأن الإرهاب الذي يسعى العالم اليوم لمحاولة تعريفه وتحديده بأنه في عرف المسلمين؛ إرهاب للعدو من حيث الاستعداد والتقوي والتدرب، وصناعة السلاح واقتنائه؛ من أجل إرهاب عدونا وردعه، وهذا مشروع.. قال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل؛ ترهبون به عدو الله وعدوكم). وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (.. ونصرت بالرعب مسيرة شهر).
* * أما الإرهاب الممنوع؛ فهو مباغتة الآمنين والوادعين والغافلين من مسلمين وغير مسلمين بالقتل أو الإتلاف، وإثارة المخاوف، إلا في حالة حرب قائمة بين دولة مسلمة وأخرى غير مسلمة؛ وليس بينهما معاهدات أو حلف.
* * أما الأفعال التي فيها استباحة لدماء المسلمين فإنه لا يقوم بها الا الخوارج. وهم خرجوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان هناك رجل يقال له؛ (ذا الخويصرة). قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اعدل يا محمد..! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يعدل إذا لم أعدل..؟! ثم قال عليه الصلاة والسلام: (يخرج من ضأضأ هذا؛ رجال تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، وصيامكم عند صيامهم. رهبان بالليل فرسان بالنهار، يقرءون القرآن؛ يقيمونه كما يقام السهم لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، إذا خرجوا منه لا يعودون حتى يعود اللبن إلى الضرع).
* * والخوارج هؤلاء؛ خرجوا على أيام خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وطالبوا بمطالبات، وذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنهما؛ ودعاهم فرجع نصفهم، ثم قاتلهم علي رضي الله عنه يوم (حروراء) وانتصر عليهم. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن في هذه الفئة؛ رجلا يقال له (ذا الثدية)، فبحثوا عنه في القتلى فوجدوه؛ فكبر علي وحمد الله وقال: الحمد لله الذي لم تقاتلني إلا فئة باغية.
* * وينتقل الشيخ السدلان إلى بيان نهج ومبدأ الخوارج فيقول: هو التكفير بالمعاصي، ولذلك فان هذه الفئة ويسمون جماعة التكفير والهجرة وجدوا في مصر وغيرها مذهبهم وعقيدتهم. ونحن نعرف كيف يعمدون إلى تكفير الحكام واستباحة دمائهم، بل هم يستبيحون دماء النساء والأطفال، وأن هؤلاء؛ تستباح دماء نسائهم وأطفالهم؛ وكل من يعيش في ظل حاكم، مثلما يقولون، ولو كان مسلما، لكنه تظهر في بعض بلدانه المعاصي، فيعتبرون من يرتكب هذه المعاصي كافرا، والحاكم كافرا، فلا يبقى مسلم على وجه الارض سواهم..!
* * ثم يضيف الشيخ السدلان قائلا: والأدهى من ذلك؛ أنهم (يتقربون) والعياذ بالله بقتل هؤلاء ويعتبرون ذلك قربى وطاعة، وأنهم إن قتلوا؛ فهم شهداء، ومن قتلوه فهو في النار..!
* * ويقول عن هذه الفئة الضالة التي تشيع الفتن اليوم: هذه عقيدتهم؛ فهؤلاء يسمون الخوارج، وظاهرهم التشدد والتكلف، والتدين والتنطع في ذلك.
* * لكن ما العلامات الدالة على هؤلاء الخوارج؟
* * يقول الشيخ السدلان: من علاماتهم؛ انهم يجدون في صدورهم على أهل المعاصي، ولا يدعونهم إلى الله، بل يكونون حاقدين عليهم. وإن تمكنوا منهم قتلوهم، ونهبوا أموالهم، لأنهم يرون أنهم كفار، فهم يرون أنهم في هذه الدنيا كفار، وفي الآخرة مخلدون في النار كما يخلد أهل الشرك.
* * وما موقف أهل السنة والجماعة من ذلك..؟
* * يقول شيخنا السدلان: كل هذا مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة فاستباحة دماء الآمنين؛ هي عقيدة الخوارج، وإلا.. فالآمنون لا يجوز التعدي عليهم، فالله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: (.. وإما تخافن من قوم خيانة، فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين).
اي.. لتكونن أنت وإياهم على سواء إن كل واحد منكم حرب للآخر.
أما في شأن التنادي لحرب الإرهاب؛ فيقول الشيخ السدلان: التحالف على مكافحة الإرهاب أمر مطلوب.. والمسلمون أولى بالقيام بهذا التحالف، وإذا قام به غيرهم فهو مباح ويجب التكاتف والتعاضد على منع الإرهاب، فإن قام به المسلمون فهو واجبهم، وإن قام به الكفار؛ وجب علينا أن نؤيدهم على هذا، ونقدم لهم التسهيلات والمساعدات.
* * ويحدد الشيخ السدلان؛ مسؤولية حكومة طالبان في شيوع الإرهاب فيقول: كنا نتمنى أن لا تضرب دولة أفغانستان، لكن طالبان هي السبب فيما حدث ويحدث، فلو أنهم لم يقبلوا العناصر التي تشذ من الدول، ويجعلوا لهم مأوى، ويفتحوا أبوابهم لشذاذ الدول، وللذين خرجوا على حكامهم، وجاءوا ليتدربوا عندهم، ويعلمونهم الاغتيالات وطرق الإرهاب وطرق التنظيم، وغير ذلك.. وهذا خطأ فادح.
* * هذه أذن وجهة نظر صائبة؛ من عالم عاقل متبصر، يربط السبب بالمسبب، والنهايات بالبدايات، ويضع النقاط فوق الحروف كما يقولون، فما أحوجنا في مثل هذا الوقت، إلى مثل هذا الصرح البين الصريح الواضح، حتى يتنبه الغافلون، ويستيقظ النائمون، ويرعوي الغاوون.
assahm2001@maktoob.com
|
|
|
|
|