أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 20th October,2001 العدد:10614الطبعةالاولـي السبت 4 ,شعبان 1422

مقـالات

أدونيس والخلط بين القيم!!
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
في تعبير أدونيس كغيره من مئات الكُتّاب المعاصرين الذين لا يُقيمون للغة العربية وزناً اصطلاح فلسفي غير محقق، وقد تبعته ترجمة رديئة، وهو مصطلح عقلاني بدلا من عقلي.. ومثل ذلك شخصاني ونفساني؛ فالمذهب الذي يرى ان للعقل مبادىء ضرورية تكون شرطاً لتصور المعرفة والحكم فيها يسمى مذهبا عقلياً، ولكن هذا المذهب تحول الى مدارس تتألف من ديكارت وليبنز ومالبرانش والنذل اليهودي المتمظهر بهذا المذهب سبينوزا.. وكانت بين فلسفاتهم فروق؛ فقالوا: عقلانية.. بدلا من عقلية؛ ليدلوا على تنوع مذاهب وأحكام العقل.. ولو صح هذا المصطلح ليكون بديلا ضروريا عن العقلي: لكان الصواب «عقولياً» نسبة الى عقول كثيرة، ولكانت الترجمة إن ضل الاصطلاح الأجنبي تقتضي الترجمة الى عقولي ونفوسي وشخوصي.. والكوفيون يجيزون النسبة الى الجمع، وذلك هو المحقق، ولا أعلم لمن خالفهم حجة توصف بأنها واردة مُعْتَدٌّ بها.
قال أبوعبدالرحمن: والمحقق في تأسيس مذهب يقابل المذهب العقلي قسيماً له كالتجريبي، والمثالي أن يكون المذهب عقلياً لا عقلانياً ولا عقولياً؛ لأن المراد العقل الانساني المشترك الذي تَتَّحدُ فطرته وتختلف معارفه مع اختلاف ما يؤثر في فطرته من غرائز وأهواء؛ فتكون العقلانية أو العقولية عيباً؛ لأنها مكابرة للعقل الانساني المشترك.
ومن المكابرة، وتقزيم الوجود باسقاط أشياء، وعملقة الحِرْفة بِنَفْخِها وجعلها كل شيء: زعمه: أن أَسْرَ الشعر أَسْرٌٌ للإسنان نفسه.. وليس هذا بصحيح ألبته؛ لأن طرق التعبير والسلوك أشمل من الأداء والسلوك الشعري، وإنما الشعر ضرورة وجدانية جمالية لجنس الانسان، وليس لكل انسان، وهو لا يأسره ولا يطلقه، وإنما يصور ما هو فيه من أسر أو انطلاق، ومن عمق أو سطحية، ومن تألُّقٍ جمالي أو برودة أو قبح.. وإنما يأسر الانسان، بل ويحطمه محاربة فطرته مع نفسه، وفطرته مع الطبيعة.. وليس ذلك إلا بالاعتداء على قيم الحق والخير والكمال الذي هو أهم عناصر الجمال.. وأما الضعف الفني، وبرودة الجمال أو ضِدِّيَتُه فأمور ناتجة عن تخلف الموهبة، أو قلة غذائها الثقافي.. وهي أمور لم تأسر الانسان، وإنما عبَّرتْ عن عجزه غير المطلق.. بل العجز الفني؛ فَلْيُسمِّ ذلك أسراً مجازاً.. إلا أن ذلك الأسر نتيجة عجز عن الشعر الفني، وليس ذلك الشعر غير الفني سببا لأسر الانسان.. وهو أسر يتعلق بوسيلة تعبير فنية، فهو غير مطلق؛ لأن الانسان والعلماء غير الشعراء يعبرون عن مشاعرهم وأخيلتهم بلغة علمية رياضية مباشرة.. والفن يريد جمالا ايحائياً.. وأدونيس لتعمُّده التضليل لا يفرق بين السبب والنتيجة، ولا بين المطلق والمقيد، ولا بين العام والخاص.
وأما المقاييس الجمالية التاريخية التي عبر عنها بأنها صيغ ونظام: فنرفض أولا القول: بأنها صادرة عن براءة وهو يريد بالبراءة الضحولة والأمية الثقافية، ولا يريد معناها الجميل الخيِّر وتلقائية، بل هي حسٌّ جمالي دَوَّنَتْ مواصفاته واستمتعت بذوقه أجيال تاريخية فئوية أو جماهيرية.. ولكن ابداع النموذج يكون عن تلقائية بمعنى «دون تصنُّع» ويكون عن براءة بمعنى الخلوص من معايب السرقة.. وهذان المعنيان قيمتا إبداع ومدح لا عيب وثلب كما فعل أدونيس.
وأما الصدور عن المخيلة فذلك شرط ضروري لكل عمل يجعل الفكر فنا جميلا، ويجعل التعبير ايحاء خلابا.. وهذا شرط حداثي أيضا باجماع، ولكن أدونيس يسقط أهم أسس الحداثة إذا أراد التضليل من أجل تحطيم الثوابت ومفاخر التراث، ويلبس ما أسقطه أجمل حلية )بمصطلح آخر، أو مفارقة مغلطائية( إذا أراد التضليل من أجل بناء حداثة قبيحة أو شرِّيرة أو باطلة.. وأدونيس هاهنا يتحدث عن مصطلح جمالي باصطلاح منطقي للتضليل. فالمخيَّلة رذيلة منطقاً؛ لأنها تزييف للحقائق، وتوليد للأكاذيب لزحزحة الحقائق.. وهي فضيلةٌ جمالاً فنياً، لأنها تعبير عن الحقائق المعقولة بأداء تخيلي له ضوابطه في انتاج الاحساس بالجمال.
وأما الجمود على الصيغ الجمالية فمرفوض جمالاً؛ لأن من عناصر الجمال دفعَ السأمِ والمللِ والرتابةِ والتوليدَ والابتكار، وهذا لا يعني ان النماذج الجمالية التاريخية تكون قبيحة، وإنما تكون: إما مُغَيَّبة بالمستجدِّ ولكل جديد لذة، ثم يعود حنين الذائقة اليها؛ فالقيمة الجمالية قارَّة في الموضوع غير قارة في الذات من الناحية الزمنية لا الوصفية بدافع طرد السأم وعشق الجديد.. وإما أن تكون دُوْنِيَّة؛ لأنها جمال فئوي أمي قاصر الثقافة، أو جماهيرية لأمة فاسدة القيم من الملل المبدَّلة والنحل الضالة، فالجمال الفئوي يظل ذاتيا فئوياً دونياً يَسْتَبْرِدُه عالي الثقة أو يستقبحه، وليس هذا الجمال الفئوي مما تُؤَسس عليه القيم الفنية.. وأما الجمال الجماهيري لمختلِّي الملة أو النحلة فجمالهم قبح عند السويين بمنطق قيم الحق والخير والكمال الذي هو أهم عناصر الجمال، ويبقى لهم الجمال الانساني المشترك الذي لا يؤثر فيه معايير مللهم ونحلهم المختلَّة كالصور المجازية، والامدادات الفكرية.. أعني القيم الفنية العالية من النماذج التي يستوي في ابداعها امرؤ القيس الوثني، وحسان بن ثابت الصحابي رضي الله عنه، وبودلير الداعر!!.
وثم كلمة ضرورية عن هروب أدونيس عن الحقوق العقلية والنظام والمعايير بإجمال دون استثناء، وذلك وسوسة إبليسية لايحاش النفس من كل عقلي معياري نظامي باطلاق ما دام في بعض ما نُسب الى العقل ما ليس عقلياً، وما دام بعض ما سمي نظاماً ومعياراً غير نظامي لا معياري؛ لأنه مبني على ما ليس بمعقول وهو منسوب الى العقل.. فإذا استوحشت النفس من العقلي والمعياري والنظامي أنست لما سيُلقى عليها من فوضية.. وكل مُنَظِّرٍ وداعية مطالب بالمعقول النظامي المعياري؛ فهو بهذا يهرب بذكاء الشياطين عن المسوِّغ والضروري المشروط.. أو بأسلوب تاريخي أوضح: يهرب من البرهان الى الدعاوى العارية؛ لتأخذ طائفيته راحتها في الروث على مبادىء الأمة، وتحطيم ثوابتها، ومزجها بالريح.
ومن المغالطات المخزية لقائلها دنيا وآخرة خَلْطُهُ بين القيم العقلية والعملية الخُلقية والجمالية الاحساسية الذوقية إذا كانت تلك القيم تاريخية ونموذجية، وَزَعمه ان كل ذلك يكبح اندفاع الانسان نحو ما يتجاوز المُعطى.. أي الى المجهول.
قال أبوعبدالرحمن: تجاوُزُ المُعطى الى المجهول إن كان مصادفة أو إلهاما أو رؤيا فذلك خارج أعمال السلوك الحر الذي يترتب عليه التنظير والتقعيد.. وان أراد معنى: صحيحٍ، وحقٍّ، وجميل، ورائع، وعدل، وضروري، وهامشي.. إلخ.. إلخ الصادر عن سلوك واعٍ.. أي سلوك عن موهبة وَأَهلِيَّة كسبٍ معرفي: فها هنا أمور:
أولها: أن تجاوز المعطى بصيغة اسم المفعول في ميدان الفكر لا يكون إلا ببدهيات فطرية مُسْبقة، وبدهياتٍ كسبية صادرة عن خبرة؛ لننطلق من المعلوم الى المجهول.
وثانيها: أن القيم الخلقية ثوابت لن تتجدد ألبته، فلا توجد قيمة خلقية كالصدق لم تُعرف، فالذي خلق الانسان، وقَدَّر سلوكه هو سبحانه الذي بين قيم الخير والشر، وجدد التذكير بها: بالكتب والأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وحواريِّيهم ورثة دين الأنبياء من العلماء المصلحين المربَيِّن.. وجعل ذلك موضوعا لتجربة العقل البشري في ضوء نتائج السلوك الخيِّر أو الشرِّير، وعلَّم الانسان اللغة والقلم اللذَين يُحددان تصوراته وإرادته.. ومثل هذا الكلام لن يعجب غنوصية أدونيس وطائفيته ونفاقه للأمة؛ ويكفي أن أقول له ولمن يتمذهب له عن إمعية أو توافق في الغواية: أعطني سلوكاً واحداً يتصف بالخير أو الشر) أي يصنف في دائرة الأخلاق(: لم يمر في التجربة البشرية، ولم تحدده لغاتها!..
ولست أنفي باطلاق ما يذهب اليه النفعيون في نظرية الأخلاق مثل استورات مل وبنتام، وإنما الخلاف في صفة المنفعة والمعادلة بين المنافع بِتدخُل قيم الحق؛ فالصدق فضيلة ليس لمنافعه الدنيوية.. ولو كان الأمر بهذا التقييد لكان الكذب فضيلة إذا حقق نفعا دنيويا أكثر، وإنما المنفعة مطلقة؛ لأنها تشمل منافع العمر الأبدي وهو ما بعد اللحد، وهي فاضلة ومفضولة بالمعادلة الفكرية أيضا؛ فما نجم عن الالتزام بالفضيلة من فوات منفعة دنيوية زائلة، أو تحمل مشقة الالتزام: مغمورٌ جِدّاً بمنافع ما بعد الآخرة.. وهي إحساس وجداني بالسرور من آثار الفضيلة وممارستها، والكآبة من الرذيلة وممارستها.
وقد يقول قائل: ليس هذا الوجدان معياراً ثابتاً؛ لأن في الناس من يتلذذ بقتل الحيوان والكذب؛ فإذا كان الوجدان معياراً فهاتان الرذيلتان فضيلتان عند طائفة من الناس؛ فلا يكون الوجدان معياراً مع اختلاف الوجدانات أمام سلوك واحد، فالأخلاق نسبية إذن)1(!!.
قال أبوعبدالرحمن: العبرة بالوجدان الانساني المشترك المميز بين نوازع الخير والشر الذي يُصنِّف التلذذ بالكذب مثلا في دائرة السلوك الشاذ بسبب تربية همجية وللهمجية معناها المتفق عليه في كل لغة؛ لجهل، أو تمذهب بفكر مغلوط نُسب الى العقل خطأ، أو التمذهب بدين مبدل محرف أو نحلة ضالة.
وثالثها: أن معنى كل ما سبق ثبوت القيم ِالفكرية والخُلقية.
ورابعها: أنه ليس في النظرية الجمالية تجاوزُ مُعْطَى، ولا وصول الى مجهول، وإنما فيه تجدُّدُ إحساسٍ جمالي من موجودٍ ماثلٍ، ومعروفٍ راهن، ومن موجودٍ استجدَّتْ المعرفة به؛ فالاحساس جِبِلَّة تسمو بقيم الحق والخير وزيادة الخِبْرة الراقية، وتكون دونية وزمانية بأن تُجَّمد في حقبة، ويتجدد الحنين اليها في حقبة كما سبق بيان كل ذلك، وإلى لقاء إن شاء الله.
**********
الحواشي
)1( كتابة «إذن» لا علاقة لها باجتهادي في الرسم الإملائي، بل كتابتها «إذاً» لحن؛ لأن النون حرف أصلي مثل نون عن، وليست تنويناً.

أعلـىالصفحةرجوع














[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved