| الاخيــرة
* على هامش المشهد:
عندما ينشر هذا المقال يكون قد مضى ما يقارب أسبوعين بنهاراتها الحالكة ولياليها المشتعلة على الشعب الأفغاني في مهب ريح الحرب الامريكية الجديدة بصواريخها الذكية وقنابلها المغذية ولا يلوح في الأفق نهاية قريبة لوقف سقوط الضحايا المدنيين سوى تسول التبرعات وتوسل الأسلحة الامريكية ان تكون رحيمة في ذبح الأبرياء.
* المشهد:
ما ان بدأت تنزاح ستارة الدخان والرماد التي أسدلها سقوط برجي مبنى التجارة العالمي بنيويورك حتى بدا المشهد السياسي والعسكري وكأنه الجزء الأول الذي آثر المخرج إخفاءه عن أعين المشاهدين عندما قام بإخراج الفيلم الامريكي المعروف باسم «ساعي البريد» في ذلك الفيلم ينتج عن كارثة ما تتعرض لها امريكا، ان تتفكك أجزاء الولايات المتحدة ولا يعود في أي من ولاياتها المنحلة أي مرجعية نظامية في القانون او السياسة. فتتعطل الحريات العامة وتنعدم ابسط الخدمات وتتحول دولة الرفاه الاقتصادي والحريات السياسية والفكرية والمرجعية القانونية والدستورية والقوة العسكرية الأعظم في العالم إلى بلد يشبه واقعه الاجتماعي العام حالة أفغانستان اليوم، حيث يجري الشعب حافيا مذهولا في نفق الرعب.
وبسبب هذه الكارثة التي يترك الفيلم أسبابها ودوافعها دون تحديد أو مناقشة كما تفعل الإدارة الامريكية الآن، تفقد امريكا مصداقيتها القانونية وتفوقها التقني. من أبسط الحقوق المدنية إلى الشرعية الدولية، ومن الصواريخ الذكية التي تدار تقنيا والقواعد العسكرية في أنحاء العالم إلى جهاز الكمبيوتر وخدمة البريد الإلكتروني أو رسائل الجوال.
وبما أن فقدان امريكا لعضلاتها العسكرية ولنبضها التكنولوجي يفقدها القدرة على الحركة ناهيك عن العقلنة، فإن الأسباب تنقطع بين امريكا وبين العالم بما لا تعود معه قادرة على تقسيم الكرة الأرضية إلى معسكر الأعداء ومعسكر الحلفاء ومعسكر ما دون الأعداء والأصدقاء.
كما أن الأسباب تنقطع بين الولايات بعضها البعض، وهنا يصير الفيلم عرضا للنضال اليومي الذي صار على الأمريكيين خوضه لتوزيع البريد سيرا على الأقدام أو ركوبا على الأنعام، إذ يصبح البريد رمزا معنويا هاما لإعادة النظر في العلاقة بالآخر ولتجسير العلاقة بين «النحن» و«الهم» ولتجديد نسيج خلايا اللحمة بين الشعب الامريكي وبين نفسه وبين ولاياته وذلك لبناء شبكة جديدة من العلاقات تؤسس على الحب وعلى تحدي ضراوة المسافات بالأشواق.
وفي هذه اللحظة التاريخية الراهنة التي يبدو فيها رعب استلام فيروسات على البريد الالكتروني أو رسائل الكترونية مفخخة مجرد مزحة باردة بالمقارنة لرعب البريد الذي صار لا يصل في امريكا الا محملا باحتمالات احتوائه على ميكروبات لأسلحة بيولوجية وكيميائية أو على الأقل الخوف المرضي من ذلك يأخذ البريد معنى معاكسا ومعاديا على أرض الواقع لما جاء في الفيل.
فيصير البريد رمزا معنويا لحالة الاستنفار والذعر التي صارت تسير علاقة امريكا بالآخر، بما يتعدى المعنى الفلسفي السارتري للقول «الآخرون هم الجحيم»، ليصبح تعبيرا عن واقع انفصامي مريع بين الذات والآخرين في علاقة امريكا «بالغير» وفي علاقة الغير بمعسكر امريكا.
وإذا كان فيلم «ساعي البريد» يساعدنا على تفكيك المشهد القائم على أرض الواقع عن طريق تقنية «الفلاش باك» ، «الإضاءة الاسترجاعية»، فإن الجزء الأشد تعقيدا من المشهد هو كيف يمكن تسليط الضوء على الزوايا المعتمة من شريط الرعب العالمي الحي . ولذا فليس لنا ربما إلا أن نلجأ إلى الخيال عله يساعدنا في رؤية ما تخفيه الكاميرا.
وفي هذا يبدو وكأن أفغانستان ستكون من البلدان القليلة إذا لم تكن البلد الوحيد على الأقل إلى اللحظة التي لن تعاني من رعب البريد واحتمالات الإصابة ببكتريا الجمرة الخبيثة، وذلك ليس لأن الصواريخ والقنابل الامريكية استطاعت ان تحطم بتفوق كما تقول الإدارة الامريكية البنية التحتية لأفغانستان دون ان تلحظ ان هذه البنية لم تكن موجودة أصلا.
وليس ذلك أيضا لأن العسكريين الامريكيين كما يقول الطيارون الذين يقومون بالطلعات الحربية يشعرون بالأمان في سماء أفغانستان وهم يلقون المواد الحارقة على شعبها أكثر مما يشعرون به لو كانوا على أرض امريكا ولكن لأن الهجوم الجوي على أفغانستان 25 ساعة في كل 24 ساعة دون توقف لن يكون قد ترك في هذا البلد ما يمكن ان يخشى عليه. فبعد ان قضى الهجوم على قرى بأكملها وساوى المدن بالتراب، فإن الخشية كل الخشية هي من أولئك الذين لا يبقى لديهم ما يخشون عليه أو يخافون عليه من حسابات الربح والخسارة. كما أنهم قد لا ينتظرون من مشاهدة العالم لصور ترويع أطفالهم على الشاشات أن يرسل إليهم بأي بريد.
قد تضحك الجمل الأخيرة البعض الذين قد يرون ضربا من الطوبائية الطفولية في مقارنة الطود بالبعوضة الا أن ما قد يحملهم على البكاء هو مراجعة تاريخ امبراطوريات كان يبدو أن سلطتها أبدية إلا أن سقوط بعضها المريع والمفاجىء رغم عدته وعتاده لم يأخذ أكثر من تحريك جندي واحد بالاتجاه الخاطئ للريح بما أدى إلى اقتلاع رقعة الشطرنج من أساسها وتشظى حصونها وفيلتها وأحصنتها الطائرة.
أما المضحك المبكي معا فهو أن مثل هذه الكوارث العاصفة العمياء لا تفرق بين معسكر الأعداء والأصدقاء بل إنها تصير مثل أعمدة شمشون قدرا عاما بالموت الجماعي لطرفي معادلة الرعب.
* ما بعد المشهد:
هل سيكون لدينا عندها رؤوس ترتفع وعيون ترى وحناجر حرة تشهد بما مر على الشريط . هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|
|
|
|
|