| الثقافية
بشكل عام، يعكس مشهدنا الثقافي المحلي ثلاث ثقافات؛ ثقافة الماضي وثقافة الحاضر وثقافة المستقبل، فيما يمكن أن يؤلف مجموعتين، الأولى: مجموعة
الغياب التي تمثلها ثقافة الماضي وثقافة المستقبل، والثانية مجموعة الحضور التي تمثلها ثقافة الحاضر. تهتم ثقافة الماضي بالماضي فقط وتقوم عليه وتعمل على تحقيقه وترديده وقتله بحثاً ودراسة واستمراراً تحنيطياً. وتهتم ثقافة المستقبل بأشياء غامضة قد تأتي وقد لا تأتي وتمارس أداءه في سبلٍ وبنى غامضة وغير واضحة المعالم والأهداف.
وتهتم ثقافة الحاضر بالحضور في الواقع المعاش مستفيدة من الماضي كتراث وخبرات لتجادل وتتعالق مع اليوم وإنسانه وهمومه وقضاياه المختلفة مادياً ومعنوياً دون ان تغفل او تنسى محاولة استشراف المستقبل ووضع لبنات تساعد في اكتماله حضارياً وانسانياً.
هذه الثقافات الثلاث موجودة في كل الامكنة والازمنة ولدى كل الامم، ولكن المهم هو العلاقة القائمة بينها، هل هي طبيعية وعادلة ام مجحفة وظالمة؟ وهل تؤدي رسالتها في توازن يشبع حاجات الانسان المعاصر لها روحياً وجمالياً ومادياً ام ان طبيعة علاقاتها تقصي الانسان ولا تهتم به ولا تضع حاجاته ورغباته ومصالحه الروحية والمادية الحضارية في اعتبارها، وهل وجودها واستمراره وحضورها وقوته قائم عليها بما هيتها وجوهرها وحاجة انسانها المعاصر اليها ام قائم على عوامل اخرى تقودها المصالح والمنافع الشخصية والامراض والعقد النفسية والاجتماعية المسيطرة على بعض من يملكون وسائل الحضور؟، وهل تمثل الناس وحاجاتهم الحقيقية الحاضرة ورغباتهم ام توجهات اقلية ثقافية إبداعية مسيطرة؟، وهنا يمكن ملاحظة اول مظاهر الخلل في التوازن الثقافي الذي قد يكون من أسبابه وعوامل استمراره وجود خلل اجتماعي في التوازن بين افراد مجتمع يعيشون مع بعضهم البعض أجساداً فقط ويتفرقون أرواحاً وأذواقاً، وما ينتج انفصاماً ومجتمع أقنعة وتعدداً في شخصيات الانسان الواحد داخل المجتمع الواحد. وعندما اتحدث«هنا» عن ثقافات الماضي والحاضر والمستقبل فأنا لا أعني ولست أقصد ثقافات الشيوخ والكهول والشباب، أو ما يسمى بالأجيال الثقافية والإبداعية ومراحلها والفروق الثقافية والابداعية بينها إذ قد ينضوي تحت لواء أي ثقافة من الثقافات الثلاث «ثقافة الماضي أو الحاضر أو المستقبل» شيوخ وكهول وشباب، أي ان المراحل العمرية وما ينتج عنها من حاجات وما يصاحبها من رغبات ليست هي ما يجعل إنسانا ما ينضم تحت لواء احدى هذه الثقافات الثلاث وليست هي الدافع الذي يجعل هذا الانسان يقتنع بهذه المظلة بشكل شامل وان كان لكل مرحلة عمرية ما تتطلبه وتقتضيه من حاجات فكرية وجمالية وذوقية ومادية، ومما يجعل من هذا الانضمام في بعض حالاته مثالاً على وجود تناقض وصدام وازدواجية غريبة وليس لها ما يبررها، كما ان مسألة الأجيال الثقافية والابداعية لها بحث آخر فهي تتحدد بالمقارنة بين ابناء الفن الواحد او النوع الثقافي او الابداعي الواحد أو المجتمع الواحد المتجانس. مثلاً، في شعرنا المحلي هناك أجيال أولها جيل مقلدي مدرسة البارودي في الإحياء ثم جيل مقلدي مدارس ابو للو والديوان والمهجر ثم جيل مقلدي رواد شعر التفعيلة وقصيدة النثر العربي، وبنفس الوضوح الذي نستطيع ان نميز فيه بين جيل السبعينيات والثمانينيات، والتسعينيات، وللعمر والزمن الذي عاشه كل واحد منهم والمرحلة التي أبدع فيها دور في الانتماء لهذا الجيل أو ذاك. أما الانتماء الذي أقصده لثقافة الماضي أو الحاضر أو المستقبل، والذي لاعلاقة للمرحلة الزمنية التي يعيشها الانسان ويبدع فيها به، فهو ما يمكن ملاحظته من وجود فئة شعرية تنظم الشعر وتؤمن به على طريقة جرير والفرزدق والبحتري وشوقي وتضم شيوخاً وكهولاً وشباباً وهؤلاء هم المنتمون الى ثقافة الماضي الشعرية وبمساندة شيوخهم ونقادهم ومعجبيهم ممن ينتمون الى الثقافة نفسها، ويمكن ملاحظته من وجود فئة أخرى تعيش الحاضر مادياً ومعنوياً وفنياً وتمارس وجودها وأداءها من خلال مجادلته والتعاشق معه ومعاصرته واقعاً وهموماً وقضاياً ووجوداً روحياً وجسدياً، وملاحظته أيضاً من الفئة الثالثة التي تنتمي الى ثقافة المستقبل منزوية في ابراجها العاجية وغائبة في رموزها وغموضها وهوس أحلامها.
|
|
|
|
|