التصرف الحسن قد ينجِّي صاحبه في وقت دنو السيف من رقبته، فهناك رجال أنجاهم شعرهم مثل النابغة الذبياني الذي عاد الى النعمان بن المنذر بعد هروبه منه، فقد وفد على النعمان في حماية رجلين من ذبيان، هما زبَّان بن سيار الفزاري ومنظور بن سيار الفزاري، وقد اختفى النابغة في الحيرة ودسَّ قينة تغني النعمان:
نبئت أن أبا قابوس أوعدني
ولا قرار على زأر من الأسد
فلما سمع النعمان الشعر قال: إنه شعر النابغة وسأل عنه، فأحضر، فلما مثل بين يديه ورأى لحيته المصبوغة بالحناء قال: هي بدم كان أجدر. ثم ألقى النابغة قصيدته فعفا عنه النعمان، والأعشى أُسر في بعض أسفاره من قبل غزاة من كلب، فأخذوه معهم، ووفدوا على شريح بن السموءل في تيماء، وكان مع الكلبيين أسرى غير الأعشى، فلما مر شريح بالأسرى رفع الأعشى صوته بقوله:
شُرَيحُ لا تتركني بعد ما عَلقَتْ
حِبالَكَ اليومَ بعد القدِّ أظفاري
كُنْ كالسموءل إذ طاف الهمامُ به
في جحفلٍ كهزيع الليل جرَّارِ
فلما سمع شريح قول الأعشى طلب من الكلبيين منحه ذلك الأسير فوافقوا على ذلك، فلما أطلق سراح الأعشى قال له شريح: أقم عند ناحتى نكرمك، فقال الأعشى: إن إكرامي إعطائي ناقة نجيبة وتخلية سبيلي في هذه الساعة فاستجاب شريح لطلب الأعشى، فأعطاه ناقة انطلقت به من تيماء الى وجهته. وهناك رجال أنجاهم انطلاق ألسنتهم وفصاحتهم المؤثرة، فمن هؤلاء عدد غير قليل من رجال عبد الرحمن بن الأشعث، فقد أحضر الحجاج مجموعة من الأسرى لضرب أعناقهم، ولما قُدِّم أحدهم تكلم بقوله: أصلح الله الأمير إن لي عليك حقاً، فقال الحجاج: وما حقك؟ قال: سبَّك عبد الرحمن بن الأشعث يوماً فرددت عليه فقال: من يعلم ذلك؟ فالتفت الرجل الى الأسرى يستنجد بهم في شهادة تنجيه من سيف الحجاج، فقام رجل من الأسرى وقال: قد كان ذلك أيها الأمير، قال الحجاج خلوا عنه، فنجا المقدَّم للقتل، ثم التفت الحجاج الى الأسير الشاهد الذي سيقدَّم للقتل بعد قليل وقال له: ما منعك ان تنكر ما قال ابن الأشعث كما أنكر صاحبك؟ فقال الرجل: لقديم بغضي إياك! فقال الحجاج: خلوا عنه لصدقه! وقدِّم رجل آخر للقتل وكان قد قتل امامه مجموعة كبيرة من الاسرى فلما مثل بين يدي الحجاج قال: والله يا حجاج لئن كنا قد أسأنا في الذنب لما أحسنت في العقوبة فقال الحجاج: أفٍ لهذه الجيف أما فيها رجل يحسن مثل هذا؟ وعفا عن الرجل. ومن مشاهير الأسرى الذين ظفر بهم الحجاج بعد انتصاره على ابن الأشعث الشعبي، فعندما قُدِّم للقتل قال: «أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن اعتذر إليك لغيرما ما يعلم الله أنه الحق وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقاً، وقد والله خرجنا عليك واجتهدنا كل الجهد فما ألونا، فما كنا بالفجرة الأقوياء، ولا البررة الأتقياء، ولقد نصرك الله علينا وظفَّرك ، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرَّت الينا ايدينا وان عفوت عنا فبحلمك وبعد الحجة لك علينا، وعندما سمع الحجاج قوله قال: أنت والله أحب اليَّ ممن يدخل على يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت وما شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي فانصرف. ولسراقةالبارقي موقف مع المختار الثقفي يشبه موقف الشعبي مع الحجاج، وكان المختار ابن ابي عبيد الثقفي قد انضم الى ابن الزبير عندما أعلن ابن الزبير خلافته في الحجاز وقد وثق ابن الزبير بالمختار الثقفي، وارسله يدعو له في العراق، ويقاتل من يعارض خلافته وعندما وصل المختار الى العراق دعا لابن الحنفية وتتبع من اشترك في قتل الحسين فقتلهم، فكثر اتباعه وعلا شأنه واستولى على الموصل، ثم استولى على الكوفة، وقتل عبيد الله بن زياد وقد عظم أمر المختار حتى إنه هدد ابن الزبير في مكة فقد أرسل جيشاً إليها وأخرج ابن عباس وابن الحنفية من الشِّعب الذي حُصِرا فيه، فخرجا من مكة الى الطائف وقد ذاعت أخبار المختار في المشرق والشام والحجاز وخشيه الكثير بسبب انتصاراته المتوالية وسراقة البارقي شاعر وفارس، فقد هجا المختار بشعره وقاتله بسيفه في الكوفة ولكن المختارانتصر على خصومه ومنهم سراقة فقد أُسر واحضر الى المختار، وعندما مثل امام المختار قال الرجل الذي أحضره: أسرت هذا، فقال له سراقة: كذب! ما هو الذي أسرني، إنما أسرني غلام أسود على برذون أبلق عليه ثياب خضر، ما أراه في عسكرك الآن، وسلمني اليه، فقال المختار: أما إن الرجل قد عاين الملائكة! خلوا سبيله فخلوه!!