| مقـالات
اسمه بالمقلوب (برع بن برعي)، وقد حدثكم عن ذاته (حطيئيا) في مقالتين سابقتين، حيث أشار في اعترافاته الذاتية إلى جمال اسمه في السابق، قياسا على قبحه في الحاضر، ولهذا السبب فقد لجأ (برع بن برعي) إلى التحوير فالاختباء خلف اسمه مقلوبا، ذلك لأن برع يصاب بالدوار لماينضح به اسمه حضاريا من بوار.. ومرة أخرى ها هو (برع) قابع في مكان قصي من قارعة التاريخ يختتم معكم حديثه عن ذاته المفقودة، فيقول: أنا (برع)، وبكل الأسف أخبركم بأنني قد وفدت على زمن لا يحسن الوفادة، حيث تشربت منذ نعومة أظفاري طفلا ما قلم أظفاري رجلا، فمنذ أن كنت ذاك الطفل وأنا أنهل حتى الثمالة من أنهار ملاحم أفلام (حنا العرب حنا!)، حيث حلَّق بي الخيال في فضاءات الفتوحات، ومدارات الحضارات، وعلى أنغام «سائل العلياء عنا والزمانا» استدمجْت أنا الطفل الصغير (برع) أساطير الأساطير تشدني.. تقلّني عن تخوم الأرض إلى مدارات الفضاء..، وهناك هناك في منادح الفخر والفخار استمتَعَتْ أذناي بأعذب ألحان معلقات المجد الخالد..، وهناك في أروقة الكرم رأيت حاتم الطائي ينحر خيله الوحيدة..، وهناك في مسارح الوفاء تجوّلت وتفحَّصتُ تقاطيع وجه السّموأل.. وهناك في متحف التاريخ انتشيت على أنغام صليل سيوف قومي تحز رؤوس الأعداء في تضاريس أطلسية أندلسية غريبة مهيبة..، وهناك جَمحَت الخيلاء في شراييني خيلا جامحا..، فمن حيث التفتُّ عانَقَت الجغرافيا ناظرَي بنيانا مرصوصا..، أزهو فيطربني التاريخ صوته يجلجل في آفاق الكون.. مغردا ب«بلاد العرب أوطاني»..، وفجأة كل فجأة أشب عن الطوق..، يوقظني الزمن..، فأبحث عن خيل لأركبها فأركب الخيال.. ألتفت يمنه..أبحث..أنقب..أكرر النظر..،أفرك عيني..، فإذا بالجغرافيا تصْدُقني الحقيقة بالقول يا ولدي المُستَلب لقد كَذبَ عليك الجغرافيون المحدثون..، أفزع فأهرع لاجئا إلى التاريخ فلا أرى سوى أنهار التاريخ ضحلة.. آسنة.. فيشفق علي التاريخ فيقول: يا بني لقد كذب عليك التاريخيون المحدثون..، فمنذ أن صارحتْني الجغرافيا وكاشَفَني التاريخ وديدني البحلقة في ذاتي.. المتهالكة.. المتشرذمة.. المتهلهلة تشرذم خرائط الجغرافيا وتهلهل ملاحم التاريخ.. حيث أكتشف أنني قد عبَّيت ما عبَّيت من مناهل التاريخ ما زيفه التاريخ.. عن مجد الحاضر.. وسؤدده.. حتى الصراخ يخونني كلما أردت أن أصرخ.. كلما تطعمت المرارة أتجرعها حنظلا هي الحقيقة..، حيث يصطدم شكي بيقيني فيموت يقيني..، وحينها أرى التاريخ عاريا أمامي..، والجغرافيا مبعثرة من حولي، والمجد مسجى جثمانه خلفي..، فأجد نفسي أنا (برع) أغوص في الأرض رويدا رويدا..، وسادتي التراب..، وهناك يتراءى لي نورس بحر..، قادما إلي.. يقترب مني.. فأطفق أبثه حزني.. فيأخذني النوم وأنا أردد قائلا.. يا نورس البحر (برع) أضنته اليقظة.. مزقه الألم تمزق الجغرافيا.. مضه الأمل الميت في أعماقه موت التاريخ في ناظريه.. لا يريد أن يفيق لكيلا تسوطه أبابيل ذرات التراب.. قسوة التراب حين يُرتَهن المجد.. حين يُمتهَن التراب..
|
|
|
|
|