| محليــات
إنَّ عزلة العربية، وعدم إتقان أبنائها عامَّة لها، وغربتها بين أهلها، ووحشتها بين غيرهم، جعلها في نأي لا يليق بها، إذ ضُربت عليها الأسوار، وأُحيط بها، وظنَّ أهلُها صعوبَتها وصدَّقوا ظنَّهم، وانتقل من ثمّ هذا الظنُّ إلى غيرهم، فأحجموا عنها، وهابوا من الإقبال عليها، حتى غدت في المجتمع الإنساني العالمي في نطاق أبعد من أن تكون لغة حياة وفكر، وحديث، بما هي أهل له، إلى لغة «شُبْهة» عَقَدية، وسياسية. وانتقل هذا الظنُّ إلى الظنِّ بأصحابها والمتحدِّثين بها، ولحق ذلك بمن يتَّجه إلى تدريسها أو دراستها، فامتزج بالظنِّ السيئ بها الحذرُ منها.
ولقد كشفت هذه الثَّغرات حربُ القرن الجديدة، تلك التي انطلق أوارها بعد حادثة نيويورك في الحادي عشر من الشهر الميلادي التاسع، وطُوِّق أبناء العربية بشبهات الإرهاب، واعتُقل أبناء «الإسلام» داخل أسوار الاتهام، وما الاسلام سوى العربية، وما العربية إلاَّ لسان الاسلام؟..
وكأني بصامويل هنتينغتون الذي تنبَّأ بصدام يتمُّ بين الاسلام والحضارة الغربية قد علا صوت فرَضيَّته الموسومة ب«صراع الحضارات» في هذه الحقبة الزمنية من التأريخ الحديث..، إذ يبدو أنَّ الصراع قد نشب الآن بين الإسلام في أبنائه، وبين الغرب بمقدَّرات حضارته المادية في أشكالها المختلفة.ولعلَّهم يتطلَّعون إلى تحقيق فرَضيَّة أخرى في نهاية نتائج هذه الحرب، تلك التي تفترض «نهاية التاريخ» التي قال بها العالم الأمريكي من أصل ياباني «فوكوياما» والتي يتوقع بها أن تتسنَّم الحضارة الديمقراطية الغربية سيادة التأريخ الإنساني.
بينما لو تتبَّع أبناء العربية مسار الأحداث بعد هذا الحادث، ووُقِفَ على جدِّ العالم واجتهاده في إيجاد طرق وطرائق كي يتسنَّى لهم عنها تعلُّم العربية وإتقانها عند أبنائهم، لذهب العرب إلى ما تمَّ من دراسة عاجلة مواكبةٍ للأحداث، أجراها بعض علمائهم، وأكاديمييهم في أمريكا بحثاً عن المؤسسات التعليمية التي تقدم برامج دراسة اللُّغة العربية، ومجال دراستها، وكثافة هذه البرامج من خلال وزن المحتوى الذي تقدمه الجامعات في برامجها، ذلك لأنَّها لا تدخل أساساً ضمن دراسة المراحل ما قبل الجامعية عندهم، فهي تُقدم في برامج «ترفيه» لمن يرغب في دراستها إلى جانب سواها من باب «حبّ المعرفة» أو يقوم بدراستها بهدف تتبُّع تاريخ الحضارات، أو الجوانب الاستشراقية، أو العَقَدية... وما عدا ذلك فهي لا تُدرَّس، ولا يتعلمها الأفراد من غير أبنائها إلا تعلُّماً غرضيَّاً هناك، ولأخذ العرب يتدَّبرون في قيمة لغتهم .ولقد ارتفع صوت هذا الفرض حادَّاً في هذه الفترة الزمنية المواكبة للأحداث، إذ ذهبت الحكومات بدءاً بأمريكا والدول الغربية تبحث عَمَّن يتحدَّث العربية من أبنائهم إمعاناً في الثقة فيهم، فاكتشف القوم في بلادهم الشاسعة الواسعة، الممتدَّة المتقدِّمة، المتطورة علميّاً، وتقنياً، وصناعياً، وفكرياً، وعسكرياً، وأمنياً أنهم لا يقدِّمون لهذه اللُّغة برامج يمكن أن تمكِّنهم من جمع عدد كافٍ لحاجاتهم من أبنائهم الذين يتحدَّثونها، وعزوا هذا القصور والشحَّ إلى عوامل كان أولها صدارة صعوبة العربية، تلك الشُّبهة التي وسمها بها أبناؤها، وانتقلت إلى من هم من غير أبنائها راجع الجزيرة العدد (10592) الجمعة 11/7/1422ه مقال «لماذا يجد الأمريكيون صعوبة في فهم الإسلام؟» لإيريك بوهليرت إذ يكشف هذا المقال الذي جاء في صورة تقرير يتتبَّع آراء العلماء الأكاديميين، والمسؤولين عن برامج الجامعات، عن أحوال اللُّغة العربية عند الدارسين الأمريكيين، بل غيرهم من الذين ينخرطون في التخصص العلمي على اختلاف توجُّهاته، فيجد أنَّ العربية ليست فقط «صعبةً» في نظرهم، بل إنَّ في دراستها ما يعرِّضهم إلى الحذر والخوف ممَّا من شأنه أن يستدعي إحاطة الدارسين لها بشيء من الحماية، وعلى وجه التخصيص لو تمَّت الرغبة في دراستها من قبلهم في دول عربية أصيلة، ولعلَّ اهتمامهم الآن بدراسة العربية، وتفكيرهم الجادّ بلا شك في التعجيل بوضعها في قائمة اللُّغات الواجب دراستها رغبة منهم في استخدامها سلاحاً ضد «الإرهاب» الذي تضافر العالم اليوم على محاربته، ووسم به أبناء العربية، لأكبر دليل من شأنه تعزيز أهمية هذه اللُّغة.إنَّ السؤال الذي يطرح نفسه لأبناء العربية اليوم هو: إذا كان هذا الباعث هو ما حفَّز العالم على دراسة العربية وإتقانها، فلماذا لم تحفِّزنا أحداث التأريخ كاملة منذ الحروب الصليبية، مروراً بالاستشراق، فالاستعمار، وصولاً إلى ما هو شائع وما يشيع من فرَضيَّات مثل التي ذكرت في مقدمة هذا المقال؟...
فالصراع بين الحضارات حتميٌّ لا محالة..، والسلاح فيه اللُّغة.
والآن .. هو المحكُّ، كي ينهض أبناء العربية فيتعلَّمونها، ويتقنونها، ممارسةً لا يرضون لها بديلاً، وبها يصوِّبون الأفكار، وينشرون الحقيقة الناصعة: إنَّ الاسلام دين نقاء، وعمل، وسلام، وإنَّ أبناء الاسلام هم النجوم المشعَّة نوراً وهدى، لا ناراً ودماراً.
ولعلَّ بنهاية هذه السلسلة من المقالات عن العربية ما يحرِّك الغيرة عليها عند المختصِّين فيها كي يفعلوا شيئاً يليق بنشرها وتعزيزها وممارستها..
والله الهادي المستعان.
|
|
|
|
|