| مقـالات
قال أدونيس عن شريكه في حمل الهموم الطائفية: «رأيت فؤاد سليمان للمرة الاخيرة على فراش الموت.. كلا لم أر منه الا ما يشبه الظل، وبدا لي ربما بوحي مما كنتُ قرأت له كأنه جسم طفل يتقمط بكتاباته متمدداً في سرير اللغة، وخُيِّل إليَّ فيما كان يكلمني ان وجهه يتحول الى فضاء شاحب تتلألأ فيه نجمتان كأنهما تغوران فيما يتكلم، واكاد ان)1( أتبين الآن ان صوته الخافت الناحل ترك فيَّ اصداء كأنها لا تزال تتموَّج في أنحائي، وانه أجج فيَّ حباً للشعر والحياة ينحدر من جذر لا يفنى.
فيما بعد أخذت اكتشف تميُّز فؤاد سليمان بين المبدعين الآخرين من مجايليه)2(.. كيف كانت حياته تسيل في نهر الأشياء التي يكتب عنها بشكل نفَّاذ البصر الكالح.. النظر والبصيرة المغلقة الرؤية؟.. فيما يَرُجُّ على الأخص عروش ثلاثة أنواع من الطغيان في لبنان: طغيان التمذهب الديني، وطغيان التسيُّس الطائفي، وطغيان الوله بنوع من الذاتية التي تكاد ان تكون عمياء.. وكنت فيما أقرؤه اتعلم كيف تصير الكتابة قرى ومواكب زهر، وكيف تصير احتجاجاً وغضباً، وكيف تتكتب)3( جيوش الكلمات؟؟».
قال أبو عبدالرحمن: هذا تلميع من شريك هموم طائفية، وما المرثيُّ، بهذه الدعوى العريضة من مواكب النجوم!!.. ولست أدري ولو بمجاز بعيد أي قيمة نقدية لقوله: «يتقمط بكتاباته متمدداً في سرير اللغة»!!.. ولو قال: «يُقمِّط»: لوجدنا له مخرجاً، بتجميع شوارد اللغة، او جمالياتها، او ما شاء من دعوى.. أما أن يتقمط هو في اللغة فذلك هيئة قط أو فأر ويقفز في سرير اللغة، وهذا ما يليق بمرثِيِّهِ، اذ سيفخر بتحطيمه للثوابت!!.. وكفاه فخراً أنه كالح البصر والبصيرة، مغلق الرؤية كما يقول أدونيس نفسه!!
وأي طغيان مما ذكره أدونيس او لم يذكره فلا نعده طغياناً إلا إذا تجاوز حد الحق والخير والجمال، ولكن هذه المقاييس مختلة عند أدونيس.. يقول: «أضع فؤاد سليمان في مقدمة الكتَّاب الذين يُكمِّلون ما بدأه جبران حول: ماذا تريد الكتابة، وماذا تقدر أن تفعل؟.. انهم الكتاب الذين اقاموا تحالفاً وثيقاً بين زلزلة التقاليد الاجتماعية، وزلزلة التقاليد الجمالية.. ويتمثل دور فؤاد سليمان هنا في متابعة التأسيس لنثر يوصل قارئه مباشرة بالشعر، وفي الكشف عن اللحظة التي تؤاخي بين حرية التجربة وحرية الشكل الذي يفصح عنها فيما وراء التقعيد.. وبخاصة الوزني أو العروضي.. تلك اللحظة التي يهبط فيها الكاتب الى اعماقه حاملاً لغته الخاصة فيما وراء اللغة العامة التي تحمل هي)4( عادةً أصحابها، وتدور هي)5( بهم في صحراء التقاليد.. هكذا تخلَّص فؤاد سليمان من عناصر التسلط في المحافظة اللغوية والأدبية معززاً كل ما يعطي للبراءة)6( والتلقائية والمخيلة حقوقها الخاصة الى جانب الحقوق التي تتمتع بها العقلانية)7( والنظام والمعايير التي تتأسس عليهما.. هكذا نجد في كتابته كل ما يؤكد ان أسر الشعر «وفي بعض الصيغ بوصفها تحديداً له» إنما هو قبل كل شيء أسر للانسان نفسه ولطرق وجوده.. عدا انه يكبح اندفاعه نحو ما يتجاوز المعطى، ونحو المجهول.. وتؤكد لنا كتابته على مستوى آخر: ان الشعر طاقة، وانه بوصفه كذلك: غضب واحتدام، قلق ورغبة، نقد واستشراف.. أكثر مما هو انفعال عاطفي يئن شاكياً، أو يصرخ مهللاً.. وتكمن خاصيته الأساسية في بث البلبلة في كل نظام وطيد خصوصاً نظام القيم والمراتب الذي يمليه العقل الجمعي المؤسسي: افعل هذا، لا تفعل ذاك.. هذا حسن، وذلك قبيح.. ذلك شر، وهذا خير.. فالشعر ازاء هذا كله يضع الانسان دائماً في الحالة القصوى من التأهب واليقظة والتساؤل».
قال أبو عبدالرحمن: جبران على علاته والاختلاف معه في الملة خير وأزكى من هذا الطائفي المتشرذم، وهو أفصح لغة، وأشف شاعرية في نثره!!.. وماذا تريد الكتابة، وماذا تقدر ان تفعل: لم يدع جبران شرف اولية الجواب عليها فكرياً أو أدبياً، ولم يبلغ فيها مبلغ سارتر فيما بعد، ولا أعرف وجهاً لإقحام جبران وإفراده سوى التمعلم.. على ان هذين التساؤلين هما همُّ الفيلسوف فكراً، وهم الأديب جمالاً وتأثيراً منذ بداية القلم!!.
وزلزلة التقاليد الاجتماعية ليست مقياساً لتزكية المرثيِّ: بأن يكون مصلحاً، أو مبدعاً.. بل قد يكون من جند إبليس.. ان المقياس هو ماهية التقاليد نفسها: أهي حق وخير وجمال أم العكس؟!.. وأما زلزلة التقاليد الجمالية فمحال، وعلى التسليم بها تنزلاً في الجدل فهي إضافة لا زلزلة.. أما المحال فلأن الجمال احساس ذاتي مختلف أشد الاختلاف غير قارٍّ، واختلافه بعدد اختلاف العلاقات بين الذات والموضوع، فما كان جمالاً لدى النخب من ذوي التربية العالية فلا يزلزل حسَّهم الجمالي تجدُّد عناصر جمالية اخرى، بل يكون ذلك اضافة ودفع ملل بالسكون عن جميل حقاً الى جميل حقاً.. وإن كان الجمال فئوياً لطائفة متوسطة الثقافة والتربية فلن يتزلزل جمالها، وإنما العمل المصلح في تثقيفها وتربيتها في حدود المعايير الثلاثة المذكورة آنفاً..
ويبقى مع هذا جمالها نسبياً، وفي ذمة التاريخ، وقد تستريح إليه لحظة في بعض الذكريات.. ولا أتصور حرية التجربة ولا حرية شعر الا بالتحرر من النموذج والانبثاق من الموهبة الابداعية، ثم لا يكون العطاء بعد وجوده حراً بتلك الحرية لحظة ميلاده، بل هو محكوم بالقيم التي أسلفتها، ليقال فيما بعد: إنه سوي، أو مشوه، أو معتوه!!
وأما مسألة الوزن والعروض فقد أسلفت كثيراً في مباحثي أننا غير محكومين بالوزن العربي، لأن الوزن العربي جزء من المذخور العالمي المتجدد عروضاً ولحناً.. ولكن لا بد من الوزن واللحن وإن لم يكن موروثاً عربياً، ليتحقق معنى الشعر.
ومن المكابرة والتضليل ادعاء لغة خاصة يحملها أصحابها ولا تحملهم، لأن شرط اللغة المواضعة بين المرسل والمتلقي.. وشرط هذه المواضعة أيضاً وحدة الدلالة التركيبية نحواً، ووحدة الدلالة مفردة ورابطة وصيغة، ومعقولية التركيبة البلاغية.. هذه صفة اللغة الحاملة التي هي تواصل بين المرسل والمتلقي.. وأما المحمولة فابتكار لغةٍ تحتاج الى ابتكار متلقٍّ!!.. أما قدرة الكاتب على الإبانة عن مشاعره التي عبر عنها أدونيس بالهبوط الى الأعماق فتحتاج الى قدرة ذهنية وتمكُّن لغوي إن أراد أدونيس التعبير المباشر.. والى ابداع فني إن أراد الإيحاء الجمالي، وكل ذلك في دائرة اللغة الحاملة!
وفي تعبيره بالمحافظة اللغوية والأدبية عُجْمة وتضليل.. أما المحافظة اللغوية فان أراد بها التخثر على المأثور، واطِّراح أوجه النمو فهذا مرفوض بمنطق اللغة نفسها.. وإن أراد التحرر من قيود اللغة التي تجعلها لغة عربية: فهذه دعوة الى تحطيم اللغة والتخلص منها، وليس نعياً على بعض المتخثرين جموداً غير مشروع.. وَقَدَرُ أدونيس الطائفي أخيب من ذلك.
وأما المحافظة الأدبية فلا تعني سوى الجمود على المأثور وهذا مرفوض جمالياً.. وأما تجريد الأدب من خصوصية النص الفني التي تدخله في الجمال بمفهوم الفن، وتخصصه بمقومات اللغة بمفهوم النص: فذلك مَزْجٌ بالريح، وليس دعوة تجديد بمقومات لغوية وجمالية.
وما سماه براءة فليس له مفهوم اصطلاحي محدد في دائرة الأدب، وما سماه تلقائية ومخيلة فليس له حقوق خاصة الا حرية العمل.. وأما العمل بعد إنتاجه فمحكوم بقيم الجمال ومعايير الحق والخير ليكون جمالاً، أو من زبالات أدونيس!!.. إذن الثنائية بين حرية الأداء وشرط المعايير تضليل أدونيسي.. ولبقية هذا الكلام مزيد نقاش، ولحديثه هو بقية، والله المستعان.
الحواشي:
)1( قال ابن مالك رحمه الله في الخلاصة عن دخول «أن» على «كاد»:
وكونه بدون «أن» بعد عسى
ونزر كاد الأمر فيه عكسا
ومثل كاد في الأصح كربا
وترك «أن» مع ذي الشروع وجبا |
ان الأصل في كاد ان لا تدخل «أنْ» على الفعل بعدها، لأن «أن» للاستقبال وكاد للمقاربة ولذلك وجب ترك أن مع أفعال الشروع وورود «أن» بعد كاد نزر.. قال رؤبة: قد كان من طول البلى ان يمحصا.. واذا رجعنا الى كتاب الله تبارك وتعالى وجدنا استعمال خبر كاد مجرداً من «أنْ».. قال تعالى: «لقد كدت تركن إليهم» سورة الاسراء/74، وقال عز وجل «إن الساعة آتية أكاد أخفيها» سورة طه/15، وقال «تكاد السموات يتفطرن من فوقهن» سورة الشورى/5، وقال: «يكاد البرق يخطف أبصارهم» سورة البقرة/20، وقال: «فذبحوها وما كادوا يفعلون» سورة البقرة/71، وقال: وكادوا يقتلونني» سورة الأعراف 150، وقال: «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار» سورة النور/35، وقال: «ولا يكاد يبين» سورة الزخرف/52، وقال: «لا يكادون يفقهون قولا» سورة الكهف/93، الشيخ أحمد يوسف القادري.
)2( قال أبو عبدالرحمن: يعني بمجايليه ابناء جيله، فشكراً له على هذا الابداع الصرفي!!
)3( قال أبو عبدالرحمن: يعني تكون كتائب، ومما قيل في تحديد الكتيبة: انها ألف فارس.. ولم يوفق في الاستعارة لأن الكتائب تتحول الى جيوش لا العكس.
)4( لا معنى للتأكيد بضمير الفصل.
)5( إعادة هذا التأكيد زيادة قبح.
)6( البراءة متعدية مباشرة دون لام الجر.
)7( جريدة الحياة العدد 13770 في 27/8/1421ه ص16.
|
|
|
|
|