أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 11th October,2001 العدد:10605الطبعةالاولـي الخميس 24 ,رجب 1422

محليــات

لما هو آتٍ
لكِ وحدكِ 68
د. خيرية إبراهيم السقاف
يا سيِّدتي...
لا أحسب أنَّ وقتاً كنتُ فيه بحاجةٍ إليكِ أكثر من هذا الوقت...
ذلك لأنَّكِ أوَّل من علَّمني النُّطق... وغرس أبجدية الحروف فوق لساني...، وهداها إلى مخارجها...، والآن يا نوَّارة، أجدني في وقتٍ تنهض فيه حدَّة الحاجة إلى لغةٍ مشتركةٍ مع النَّاس...، والنَّاس قد أضاعت اللُّغة، وتشتَّت بهم المدلول...، فلا شواطىء للمعاني يرتادونها...، ولا بوصلة للمحطات...، ونحن الآن على وشكِ الضَّياع...، في متاهات الغربة...، يانوَّارة...، معكِ لم أكن أعرف الغربة...، ولقد سمعته يئنُّ هذا الإنسان في جوفي، وهو يسائل أمَّه، كي تستيقظ مبكراً، وتجهِّز له الإفطار...، وترسله إلى الفرن القريب من داره، كي يبتاع رغيف الخبز الدافىء، ليقتسماه معاً، وهما يتناولان حلوى الطَّحين، ويرشفان شاي الصَّباح...، أتدرين يا نوَّارة أنَّ الأمهات أمثالكِ قد غادرن السَّاحة...، وأنَّ مظَّلة الضَّياع، قد فرشت أسترتها، والنَّاس بعدُ لم تخرج من شرنقات المظلاَّت...، كي تنطلق مخارجُ الحروف، بلغة الجمع...، فالكلُّ يتَّجه... إلى حيث لا يتَّجه...
وأنا يا نوَّارة أستظلُّ من رمضاء الهجير، في غربة اللَّحظة، بطمأنينة التفكير فيكِ...، فأنتِ... أنتِ... لم تغادري حتى لو كان الوقت ليس يليق بوجودكِ...، واللَّحظة ليست لكِ...، والغربة قد افترشت حتى مسام الذَّرى، والثَّرى، والمفازات، والكهوف، وحطام الآمال...، وخيبات الأحلام...، فها أنتِ تطلِّين على شهقات الحسرة في صدور النَّاس، وهم لا بوصلات لهم، وامتزج الظَّلام بالظَّلام، ولم تُطْوَ الأرض تحت أقدامهم، غير أنَّ الصَّمت يحوم، والدُّموع تجفُّ...، فهجير الغربة يصطلي في صدورهم نبض الأمل...، ويجتثُّ من عيونهم بوارق الوضوح...
ياسيِّدتي...
تذكَّرتُ عصفورنا، وهو ينتقل من فرع لآخر في شجرة السَّنديان الوارفة...، وأمس كنتُ أعبرُ الطريق من نحوها، فلقد ظلَّت تنتصب...، بجوار بناءٍ جديد...، آه وأين خطوط قلمي وهو يسجِّل فوق جذرها السَّميك بدعاء الرجاء، وهمهمات الآمال، وحنين التَّطاول فوق موقع قدمين، كانتا في بدء النُّمو...
ناشْدتُكِ ذات يوم، ألاَّ تغادري موقع السَّنديان، وناشدْتِني ألاَّ أنسى حروف البهاء، في دفتر الزمن، ذلك الذي لم يُخلق فيه ما يُوحش الدروب، حتى أصاب الإنسانُ شيءٌ من وخز الخوف، فسقط في بئر الوحشة، ولم يصله دلوٌ كي يخرج...، ذلك لأنَّ جوف البئر أضمن لصبره، من فسحة الوحشة، وامتداد الضَّياع، وغربة الأنحاء...
يا نوَّارة...
حاولت أن أمنح قلمي استراحة الصَّمت، في زمنٍ اختلط فيه الحرف بالآخر، وتلعثمت مخارج الحروف، وجهل الإنسان لغة الحوار، وما عرف كيف يكون في وضح الكلام، والنَّاس يا نوَّارة، لم تعد تعرف بعضها، تحت مظلَّة الغربة، وقد التحمَت بأسدال الظلام...
أيُّ زمن يا نوَّارة، قد رسمتِ لي خيوطه...، حين كنتِ تعلِّمينني أبجدية الصمت حين تعجُّ الرِّيح، فلا أملك إلاَّ همهات الدعاء...
وأيُّ زمن جئتِني فيه تذكِّرينني ببوصلة النَّجاة..؟؟
حملتُها يا نوَّارة...، وطفقْتُ ألهثُ وراء خيوط الدخان، وهي بواقي رحيل الأقدام، تهرب من وعثاء الدروب، تتَّجه نحو شواطىء الهروب، ترمى بأجسادها في بحور الرحيل...،
لكن...
مَنْ مِنْ النَّاس يدرك حكمة الصَّمت، في زمن المظلاَّتِ، تحت سندان الهجير؟!
ومَنْ منهم يعرف كيف يوقف طَرْقَ المطرقة، وهي تعكف فوق سديم الآمال، تسحقها بين لحظة الأمل، ولحظة الضَّياع؟!
هذا الإنسان يا نوَّارة في زمن الغربة...
يبحث... ويلهث...، ويفقد...، ويضيع...
وأنتِ لا تزالين توجِّهين رايات البياض، تحصدين ثمر النُّور، تبذرين في الذَّرات، لهيب الإقدام... ولكن...،
أيُّ الأسرار منكِ، يمكنني أن أكشحها في مدى الآماد...، كي تقوى القوافل على مواجهة السؤال؟...
أيُّ لحظةٍ، يمكنني أن أُقدِّم فيها أكسير الصَّمت، كي يلتقمه، أو يرتشفه من لا يقوى على مواجهة الغربة، في مدى الفقد، وهيلمان الضًّياع؟؟...
يا سيِّدتي...
لم تعد منكِ النَّظرة، أو الكلمة لي وحدي...، ذلك لأنَّكِ إنسانية، والإنسان الآن يحتاج إلى محاضن الدفء، وصدق الوفاء، لرحلة البقاء، فوق أديم المدى...، ألا فهبِّي إليَّ بشيء مما ظلَّ معكِ، وظلَّ معي منكِ...، كي يدرك النَّاس أنَّ ليس من نهاية، كما ليس من بداية، لأزلية الفقد،أو رداء الظلام...
يا سيِّدتي...
جئتُ إليكِ لأنَّكِ هنا...
ولم أغادركِ لأنَّكِ هناك...
والدَّرب يا نوَّارة، مغموسٌ في أنهار الكلام، عند مشارف شواطىء الانتظار...،
سأشير إلى عصفورنا، كي يترك السَّنديان، ويأتي يواكب النَّوارس، يختبىء في جوف الماء، كي يأتي ببوارق المحارات...، فيفُضَّ عن لآلىء الصَّمت، مخارج الكلام...،
عندها يا نوَّارة، سوف يأتي...، سوف يأتي ما يمحو عن وجه الغربة غبار الأفران...، فتتوهَّجُ أرغفةُ الصَّباح...، ويلتقمُ النَّاس، شيئاً من أرغفتكِ،
ويرتشفون من رُواء النَّقاء.
فقرِّي هانئةً هنا...
بوصلة لحداءِ القوافلِ، نحو محطَّات الاطمئنان.
وإنِّي بكِ وحدكِ قادرة على المُضَاء...

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved