| الثقافية
في تلك المنطقة الملتبسة بين التحديد والإبهام تقوم رواية«دونسكو» لغازي القصيبي. فهي داخل التاريخ وخارجه، وداخل الجغرافيا وخارجها في وقت معاً. العالم الذي تنتظمه دونسكو، بوصفها إدارة، مؤلف من ست قارات: القارة العظمى، القارة الجنوبية، عربستان، الفرنجة، الروسلاند، والقارة العذراء. والمرشحون عن هذه القارات أفراد بصيغة الجمع، ومجموع بصيغة أفراد لافرق. التسمية حد، والحدود قيود، والقيود سلطة، ومن يمنح الاسم يمتلك السلطة بكيفية ما. رواية« دونسكو» تعيد تشكيل العالم، تسمية، أي تمنحنا المعرفة به وتقيدها. لا عالم خارج هذه القارات، ولا قارات غير ما تسميه الرواية. المرشحون لا أسماء لهم ، الإشارة إليهم، دائماً، تصطحب نسبتهم إلى قارتهم، وتحركهم في ضوء أدوارهم ووظائفهم، فأحدهم شاعر والثاني ممثل، والثالث وزير مالية سابق، والرابع وزير جمهورية سابق، والخامس بروفسور، والسادس روبوت.
الأسماء فقط تمتلكها السلطة القائمة والمتنفذة ولوازمها: المدير التنفيذي ومستشاروه، هؤلاء فقط، يشار إليهم بأسمائهم الشخصية. الأسماء هنا جزء من صياغة مركز الحدث وبؤرته، فالمعرفة لغيره تنشأ بالنسبة إليه. أسماء القارات بالتالي لا تأتي من خارج دونسكو، إنها صناعتها المحلية، القارات خارج دونسكو مختلفة في عددها وفي أسمائها وفي صفاتها. ومن هنا تنشأ دلالة الانطواء التي تفصل خارج دونسكو عن داخلها، ذلك أن السلطة في مركزتها لذاتها لم تعمل على تشكيل الداخل قياساً على الخارج الذي يمثل فضاءها العملي والحيوي، بل صاغت هذا الخارج على مستوى المعرفة وعلى مستوى الحدث بالقياس إليها، وعلى نحو لم نعد نجد فيه عالماً او قارات خارج دونسكو إلا بمنطق آخر وقياس معرفي مختلف.
انطواء دونسكو على ذاتها كمدلول لدال التسمية التي تتحرك من«سلطتها التنفيذية» ضخم هذه السلطة وضاعف من عددها وعدتها. حركة التسمية التي تمتلكها السلطة تتضمن حركة التعيين التي تمتلكها. التعيين«أي توظيف الموظفين» تسمية، فهو إنشاء لاسم الوظيفة وانتخاب لصاحبها. ومن ثم فهو الآخر دال من دوال السلطة. الإكثار من التعيين بالتالي هو ازدياد من معنى السلطة وتضخيم لها.«حتى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يقول رئيس مجلس الحكماء لا يوجد لديه 50 مستشاراً» «ص36» . المساعدون الكثر هم محل اعتراض يسخط المدير الذي يصرخ:« طبيعة العمل تطلبت تعيين الباقين. القارة العذراء، بموجب كل القرارات الدولية، تحتاج إلى رعاية خاصة، ولهذا قررت تعيين مساعد يتابع هذه الأولوية. النساء لهن أولوية خاصة، ولابد من مساعد يتأكد من أننا نسير في الاتجاه الصحيح. الشباب لهم... الخ» «ص36».
المرشحون عن القارات الست جاء ترشيح كل منهم من رئيس اتحاد قارته «تلبية لرغبة المدير» و«تحقيقاً لطلبه» كما تكرر في عبارات مستشاريه لشؤون القارات.« ص68 69» وهي رغبة اقترحها عليه كبيرة مستشاريه«سونيا» من أجل ألا يحصل احد منهم على الاغلبية المطلوبة، وبذلك يضمن المدير بقاءه مديراً. هؤلاء المرشحون يصبحون بهذه الكيفية دالاً من دوال الاستحواذ والهيمنة التي ترتب العالم على المنظمة التي أنشأها، ويصل تضخم السلطة وتشخصنها في هذه المنظمة تلك الدرجة التي تحمل بعض ملامح الإطلاق، وتعد به. وبرغم أن المرشحين مختلفون بطبيعة انتمائهم إلى قاراتهم ومختلفون فيما يمثلون من أدوار ووظائف إلا أنهم يتشابهون في وجوه تدنيهم إلى وحدة تتساوى بها حظوظهم في الفوز ليؤول ذلك بهم إلى الفشل.
وأهم وجوه تشابههم أنهم ذكور فليس بينهم امرأة وذلك ليس إيجابياً في ضوء الفضاء الروائي الذي تصنعه الرواية للمنظمة. أي ان فضاء دونسكو يقوم على منطق آخر مغاير للمعلن. إنها بامتياز فضاء الجسد.
المرشحون أيضاً ينخرطون في سياق آلي يجعل كلاً منهم صدى للمقولات المفتوحة على التاريخ. وبذلك يغدو ملفوظهم النصي استعادة وتكراراً كما لدى مرشح عربستان الذي لا يكف عن الحديث عبر أبيات المتنبي، ومرشح الفرنجة الذي يختفي وراءنصوص شكسبير. فيما يستخدم الآخرون لغة هي الأخرى علامة على آلية تجعل أحدهم روبوتاً لا يملك إجابة غير ما سبق أن برمج عليه، والآخر فريسة لشرود يخرجه من حدود واقعه الحي ولحظته المعاشة، والثالث تذكاراً منتفخاً بلحظته الماضية ومتوقفاً عندها، أما آخرهم فلا يملك في خطابه إلا لغة احصائية ورياضية تجرد الواقع الى هيكل عظمي في برود وقطعية تقتل معنى الحياة وتلقائيتها.
هذه الميكانيكية التي تتأدى إليها الأقوال والأفعال بقدر ما تصدر عنها لا تختص بالمرشحين فقط إذ تدلنا الرواية أن المدير الحالي والحكماء والمستشارين فريسة لها بمعنى من المعاني، غير أنها تبدو اقل وضوحاً وتبلوراً واكثر التباساً واختفاءً وتعقداً ونحن نتجه إلى رأس السلطة.في الصفحات الأخيرة من الرواية حين يجمع الحكماء على انتخاب« سونيا» مديراً تنفيذياً جديداً.
وتعود إلى شقتها قبيل منتصف الليل، تحمل حقيبة مليئة بالملفات، تفاجأ في ركن الصالون المظلم بالمندوب المؤقت لدولة القارة العظمى رقم 40، ترتبك وتسأله ماذا تفعل هنا؟ سوف أستدعي ... فيقاطعها بقوله:« ماذا أفعل هنا؟ سونيا! ألم تدركي ماحدث؟ لقد اشتريناك. أصبحت ملكاً لنا. أشترينا جسدك وروحك وعقلك. وهذه العمارة». هنا تتجرد الرواية باتجاه الإعلان لسخرية لا تخلو من إحساس الفجيعة، إنها فجيعة البراءة التي تفر كالعصافير بحثاً عن فضاء طليق، فيما يفقد العقل حكمته ومغزاه تاركاً فراغاً من الإبهام الذي يلوب الإنسان في دوامته بحثاً عن معنى.
بنهاية الرواية لن يجد المرء خلاصاً تفضي إليه فصولها وأحداثها، فالنهاية هنا بداية تعطف الخبر على المبتدأ ، والخاتمة على البداية، والمخرج على المدخل، وآخر الصفحات على أولها ومن هنا يأتي بيت المتنبي:
وما قضى أحد منها لبانته
ولا انتهى ارب إلا إلى أرب |
ليعترض ، وحده، في وسط صفحة كاملة في أول الرواية، ملخصاً هذه الدائرة التي يلتقي طرفاها عن طريق النفي الذي يتسلط على فعلي: الانقضاء والانتهاء، محيلاً إياهما إلى استمرار التكرار وتجدد التشابه حيث يعود من جديد إحساس الصفر في حركة التاريخ وينعدم الزمن.
وحين تنتهي رواية القصيبي هذه إلى هذه النتيجة فإنها تفقد وظيفة الرسالة الموجهة، لتستبدل الصيغة الفنية بالمضمون، والخيال بالتاريخ، والإبداع بالتعبير، فتغدو عصية على الإسقاط، ومتمردة على الانغلاق في حقبه، أو الدلالة على زمن تاريخي. إنها المعترك الجمالي للحكمة الإنسانية المستحيلة.
zayyad62@hotmail. Com
|
|
|
|
|