|
| مقـالات
أشار القدماء في السابق الى المثقف بالرجل «المحتطب» الذي يأخذ من كل علم بطرف، ومن كل واد عصا، بل كاد ينحصر المثقف في السابق في المثقف الموسوعي الذي يختزن في دماغه القدر الأكبر من المعلومات، ويجررها مثقلا من بلاط خليفة الى مجلس والي، صاعدا بها جبلاً ومنحدرا الى سهل، ليقوم بمنادمة كبار القوم وجلب البهجة والسرور الى مهجهم، ولا بأس من بعض العظة والعبرة عند اللزوم اذا كان ذلك لا يفسد اجواء المجلس.
وقد كسدت بضاعة هذا المثقف العريق في عصر الانفجار المعلوماتي الذي اصبح فيها جميع الناس يتلمسون أقرب مظلة تقيهم شهب ونيازك الأخبار التي لا تشيخ ولا تفتر، والمحدقة بنامن كل حدب وصوب، ومال علماء التعليم والتربية الى تعريف ادق وأكثر مصداقية للمثقف المعاصر بكونه «الفرد الذي يصل الى المعلومة الملائمة في أقصر وقت وأيسر جهد».
وان كان التعريف السابق يطال الخطوط العريضة للمثقف الا إنه يغفل الفاعلية الاخلاقية والتي يترتب عليها أدوار لا متناهية تنتظر المثقف المعاصر ان يقوم بها، ولعل هذا الدور يخرجه من المعطف التاريخي الذي كان يسربله ويجعله يغادر دكاكين الوراقين وبلاط الخلفاء، لينخرط في هموم ومشكلات مجتمعه ومحيطه.
وقد كان الكاتب التشيكي «ميلان كونديرا» يكتب رواياته التي تناهض الماركسية في قمة العنفوان والمد الأحمر على أوروبا الشرقية، بل ان روايته الأولى «المزحة» هربت سراً من بلاده لتطبع في فرنسا، قبل ان يلحقها هو ويكتب معظم روايته المتحدية لطغيان الحكم الشيوعي من هناك، وفي معرض حديثه عن هذه التجربة يقول لم اود ان اصدر في رواياتي شعارات وخطب فأنا لم اكن فوق منبر، كل ما هنالك انني كنت اكتب عن عملية ظلم فادح تسرق رونق وطني وعفويته وتاريخه.
وقد كان الروائي اللبناني «الياس خوري» في رائعته «باب الشمس» يفتح كوة نضال صغيرة وسط عتمة تغيب أدوار القلم ومسؤولياته، وانخراطه في تفاصيل جانبية، أو مهام رسمية، لا تحمل توجها حقيقيا في التغيير ولو خطوة صغيرة الى أمكنة اكثر احتفاء بالضوء.
لم يعد المثقف المعاصر عبارة عن أرشيف متحرك يحمل ماطاب له من القصائد والكلام، ويتحين الفرص ليملأ فمه بالجواهر والدرر، والمثقف هو عملية جهاد طويلة النفس لإضاءة شمعة لأرواح المناطق المعتمة.
|
|
|
|
|
