| الاقتصادية
عام 1421ه صدر نظام المرافعات الشرعية وكان بمثابة نقلة هامة في تطوير الإجراءات الجنائية، وفي جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في 14/7/1422ه تمت الموافقة على نظامي المحاماة والإجراءات الجزائية، والذي يتابع هذا الواقع يجد أن هناك حرصاً من الدولة ممثلة بأجهزتها القضائية والتنفيذية على حفظ حقوق الإنسان، والتأكيد على براءة ذمته، وصيانة كرامته وعدم المساس بها أو الاعتداء عليها،
ولو استعرضنا هذه الأنظمة وكيف صدرت لوجدنا أنها تنطلق في أصلها مما ورد بالمادة«26» من النظام الأساسي للحكم، التي نصت على:«تحمي الدولة حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية»، والمادة«36» منه التي نصت على:«أن توفر الدولة الأمن لجميع المواطنين والمقيمين، ولا يجوز تقييد تصرفات أحد أو توقيفه أو حبسه إلا بموجب أحكام النظام»، كذلك المادة «38» التي نصت على أن«العقوبة شخصية، ولا جريمة ولاعقوبة إلا بناء على نص شرعي أو نظامي»، وهذا يعني أن النظام الأساسي للحكم هو القاعدة التي انطلقت منها هذه الأنظمة، وفق معايير محددة تحكمها في الأساس قواعد الشريعة الإسلامية، ولايعني صدور هذه الأنظمة أنه لايوجد قبلها قواعد تنظم الإجراءات الخاصة بالترافع أو المحاماة أو الإجراءات الجزائية، كلا!! وإنما عملت هذه الأنظمة على «جمع» تلك القواعد والتعليمات، ووحدتها في أنظمة خاصة بعد أن كانت متفرقة، مع استعراض جميع متعلقاتها، وتعديل ما يحتاج إلى تعديل، وتطوير ما يتطلب الواقع العملي تطويره بما يتفق والمرحلة القائمة،
نظام المرافعات الشرعية متعلق بتنظيم الأعمال أمام المحاكم، ونظام المحاماة متعلق بضبط مهنة المحاماة، أما نظام الإجراءات الجزائية فإنه متعلق بضبط الإجراءات الجزائية، وهو من أهم الأنظمة الإجرائية الخاصة بالحقوق، لأنه يحتوي على مجموعة القواعد التي تبين الوسائل والإجراءات التي تؤدي إلى الكشف عن الجريمة، وتعقب مرتكبها، والتحقيق معه، ومحاكمته، وتنفيذ العقوبة عليه، كما يشمل أيضاً قواعد الاختصاص في التحري والتحقيق والتفتيش والادعاء، والاختصاص القضائي من حيث المكان والشخص والنوع وسلطة العقاب، والاختصاص في التنفيذ، وبعبارة أخرى فهو يشمل الإجراءات المرسومة لجمع الأدلة والمحاكمة للوصول إلى عقاب الجاني طبقاً للنصوص الشرعية المنظمة للعقوبة، ومن هنا فإن نظام الإجراءات الجزائية يحوي الجانب«الإجرائي» أو «الشكلي» الذي يوصل إلى وضع الجانب الموضوعي للنظام الجنائي موضع التطبيق، بإنزال الحكم على الوقائع عن طريق القضاء«إذ لاعقوبة بلا حكم قضائي» وهذا المبدأ هو الذي تعنيه المادة«38» من النظام الأساسي للحكم التي سبقت الإشارة إليها!!!
وهذه هي القواعد التي ينطلق منها نظام الإجراءات الجزائية، حيث يرسم الطريق الذي يكفل للدولة حقها في عقاب المجرم، من غير إخلال بالضمانات الجوهرية التي تمكن«البريء» من إثبات براءته، مع ضمان حصول المجني عليه على حقوقه، فهذا النظام لاغنى عنه لتطبيق الجانب الموضوعي للقواعد الجنائية، فهو الرابطة الضرورية بين الجريمة والجزاء، كما أن له أثراً منعياً من خلال ما يمثله من إنذار للمتهم في مرحلتي التحقيق والمحاكمة!!
وقبل ذلك كله فإن هذا النظام ومن خلال وصوله إلى تطبيق العقوبات السليمة يحمي مصالح المجتمع الضرورية، ويعيد التوازن إلى المجتمع الذي اختل عن طريق الجريمة، وذلك بالعقاب عليها،
إن نظام الإجراءات الجزائية يعد أفضل وسيلة للاستكشاف والكشف عن الحقيقة، فكما أنه يهدف إلى بيان أدلة الإدانة، فإنه وبنفس الوقت يكشف عن أدلة البراءة، لأن الخطوات المطلوبة للوصول الى حكم عادل، إنما هي باتباع الإجراءات السليمة والصحيحة، وهذا ما ركز عليه هذا النظام من خلال تأكيده على بيان الأسباب الموجبة للقبض، وتوقيع العقوبة الجزائية وفقاً للوجه الشرعي، وحرمة الأشخاص وحقوقهم، وعدم المساس بها إلا بموجب أحكام النظام، ومن هنا قيد «النظام» سلطة رجال الضبط الجنائي وصلاحياتهم، وخضوعهم لهيئة التحقيق والادعاء العام،
إن من يطلع على هذا النظام يلاحظ أن الإجراءات قد تبدأ قبل ارتكاب الجريمة!! فقد تتخذ بعض التدابير المنعية للحيلولة دون وقوعها!! لكن إذا ما وقعت الجريمة، أو ما يشتبه في أنه جريمة، فإنه يجب الاستقصاء لمعرفة ما إذا كانت الواقعة مما يعد جريمة أم لا؟!! وهذا أحد أهداف النظام!!!، فإذا وجد ما يدل على ذلك بدأت إجراءات التحري لضمان أن الواقعة مما يجب الاتهام فيه، ثم التحقيق فيها، وبالتالي إحالتها إلى المحكمة إذا وجدت أدلة كافية، وقد تنتهي هذه المحاكمة بالإدانة أو البراءة، ولهذا بين هذا النظام الأحكام والحالات التي يجوز فيها القبض أو التوقيف أو السجن أو التفتيش، والمعاملة الواجب اتباعها نحو المقبوض عيه، وكذلك الأسباب الموجبة لتوقيع العقوبة الجزائية وفقاً للوجه الشرعي، وضمان حق كل متهم بالاستعانة بوكيل أو محام للدفاع عنه،
إن صدور هذه الأنظمة يشكل نقلة نوعية في أنظمة الإجراءات الخاصة بالخبرات، ويؤكد على اهتمام قيادة هذا البلد بتطوير الإجراءات المتعلقة بحقوق الإنسان، حيث جاء صدورها بصورة متأنية، مما أعطى مجالاً واسعاً لاستيعاب كل متعلقاتها بما يخدم المصلحة العامة، وهذا يؤكد قدرة الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وفي ذلك أكبر رد على منتقدي النظام الإجرائي أو القضائي في المملكة، ذلك أن النظام الجنائى في الإسلام نظام«مرن»، يمنح ولي الأمر سلطة واسعة للتجريم والعقاب في غير الجرائم المحددة، وهذه السلطة وإن كانت موسعة إلا أنها ليست مطلقة، حيث يتقيد بالإطار الشرعي المرسوم له على أساس من القواعد القضائية، ولهذا فإن الشريعة الإسلامية لم تهتم في مواجهة الجريمة بالعقوبات والتدابير الملائمة بعد وقوعها فقط، بل أولت المجتمع العناية اللازمة من أجل منع وقوع الجرائم أصلاً!!!
إن المتتبع لوضع النظام الإجرائي في المملكة يلمس أنه يسير بخطى ثابتة تستمد قواعدها من أحكام الشريعة الإسلامية، وإن كانت هذه الإجراءات مشتتة هنا وهناك، إلا أنها لا تخرج عن الإطار الإسلامي العام الذي يحكمها، ومن خلال حرص المسؤلين على الالتزام بهذا المبدأ، كان التوجيه الكريم من خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني بتطوير الأنظمة القائمة بما يتلاءم مع المرحلة القائمة، وبما يؤكد اشتمال النظام الجنائي الإسلامي على أحدث المبادئ الجنائية، أو ما يطلق عليه في العصر الحديث«النظريات الجنائية» التي يفتخر بها في المحافل الدولية، ومن هذه المبادئ والنظريات ما يتعلق بمبدأ «الشرعية» وتحديد النطاق الزماني والمكاني لسريان النصوص الجنائية، وأحكام سريانها على الأشخاص، والشروع في الجريمة، والمساهمة الجنائية، ونظرية القصد، ونظرية المسؤولية، ، الخ، فكل ذلك له أصوله في الفقه الإسلامي المستند إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكل ما نحتاجه هو أن نصوغ هذه الأصول ونضعها في قوالب فقهية حديثة، دون المساس بجوهرها، لكي تتلاءم مع الواقع بما يخدم مصالح الأمة،
ومن هنا انطلق نظام الإجراءات الجزائية في المملكة من أجل التأكيد على: براءة ذمة الإنسان، وحفظ حقوقه، وقد اشتمل على «225» مادة نظامية، جميعها تدور حول هذا المقصد، مما يعد نقلة نوعية في أسلوب العمل، فشكراً لمن تبناه، وشكراً لمن ساهم في إعداده، وشكراً لمن يهتم بتطبيقه!!! ولعلنا في مقال قادم نستعرض أهم خصائص وملامح هذا النظام،
وبالله التوفيق
ص، ب: 26252
الرياض: 11486
|
|
|
|
|